جمهوريات سورية في ضوء «التجربة اللبنانية»

29

لم تكن «التجربة اللبنانية» جذابة أو مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى محيطها العربي الأوسع، كما تبدو اليوم وهي على مشارف طي 40 سنة على اندلاع الحرب الأهلية (13 نيسان/أبريل الجاري). ويستعان أحياناً، ببعض الالتفافات اللفظية كالقول «الخصوصية اللبنانية» أو «النموذج اللبناني»، للدلالة على ما لا يرغب كثيرون في مواجهته أو التعامل معه حقيقة، وهو نظام المحاصصة الطائفية.

ويبدو أن ما حل بالثورات العربية من إخفاقات، وما أثمرته من إحباط وخيبة وضع تلك البلدان أمام امتحان فعلي يقتضي البحث في المكونات المختلفة لكل مجتمع على حدة، ومواجهتها، وقبل ذلك الإقرار بوجودها. وهنا المهمة الأصعب خصوصاً بعد عقود عاشتها تلك الأجيال تحت سلطة مفهوم الأحادية، فتوارثته بأمانة حتى بات اقتناعاً راسخاً وعماد وعي جمعي يبنى عليه.

فكيف لحزب واحد أن يحكم بقائد واحد ووريث واحد ما لم يكن الشعب في المقابل واحداً؟ هكذا جعلت فسيفساء كاملة من الشعوب في العراق وسورية، واحدة بالقوة، وبات على مجتمع ما بعد البعث مواجهتها من دون امتلاك الأدوات اللازمة لمقاربتها، فبدأت اليوم الاستعانة وإن بخجل شديد، بتلك التجربة اللبنانية المكروهة.

وإذ تفجر الواقع المتشعب في العراق بفعل عامل خارجي هو الحرب، ولا يزال يتفاعل بعد مرور 12 عاماً، تشظى الواقع السوري دفعة واحدة بمحرك داخلي هو الثورة الشعبية.

وصحيح إن لمصر مثلاً تجربة مختلفة سواء لجهة التركيبة الدينية المتجانسة إلى حد بعيد، لكنها بدورها فتحت قمقم الفوارق الطبقية الهائلة التي عزلت المصريين في دوائر مغلقة، وبدأ اليوم النظر في فجوات خلّفها النظام السابق حيال أقلية غير بسيطة كالأقباط مثلاً، أو قضية أخرى تم تجاهلها طويلاً كسيناء. وأمام سقوط ورقة التين والمكاشفات القسرية والمؤلمة التي تخوضها مجتمعات الربيع العربي، خصوصاً في سورية، يبدو اللبنانيون وقد أنجزوا قسطهم، وتحولوا محط فضول لمحيطهم بعد أن كانوا لسنوات طويلة عبارة عن لافتة تحذير من خطر.

وإذ يتندر سوريون كثيرون اليوم على شعار أطلقوه بداية الثورة وتمسكوا به حتى أمس قريب، وهو «واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد»، استيقظ القلق العميق حول ماهية هذا الشعب وأطيافه وأهوائه وسبل إدارته بعد كل التشظي الذي ألم به. وكان ذلك الشعار حجة دفاع أساسية ضد اتهام المتظاهرين بأنهم عملاء الخارج، ومجموعات مندسة، وراغبون في التقسيم، فكان الرد أنهم «واحد». تماماً كما كانت طائفة المتظاهرين الغالبة (أي السنة) تهمة سعوا بكل قوتهم إلى تبديدها، فأنكروا مظلومية موضوعية، وساهموا في قمعها حتى كشفت عن نفسها بأوجه كثيرة منها بيئة «جبهة النصرة». وإذ ضرب كثيرون كفاً بكف، واحتاروا في جذور التشدد الديني الذي صعقهم، اكتشفوا أن الواقع أكثر تنوعاً وتشرذماً مما اعتقدوا ومما أوهمهم النظام نفسه على مدى سنوات. فهو الذي عمل عملاً دؤوباً على قمع التناقضات المناطقية والعرقية والطائفية، وخلق شراكات وبنى شبكة مصالح من ضمنها أو عابرة لها، ولكنها في النهاية ترتبط به وتصب عنده.

ولا تزال حتى الساعة تحتدم سجالات منهكة وعقيمة بين لبنانيين وسوريين حول الطائفية، سياسة ومجتمعاً، وتهمة أن الطائفية محض لوثة لبنانية، فيما المجتمع السوري غير معني بها إما لأنه علماني، أو لأن تدينه اجتماعي ولا يشكل هوية جماعية معينة.

ويرى أصحاب تلك النظرية وهم ليسوا قلة بالمناسبة، أن اللبنانيين طائفيون لأن نظامهم طائفي وقد رسخ فيهم تلك القيم والولاءات، ولو أنهم عاشوا في غير ذلك الإطار، لكانوا عاشوا بدورهم في نعمة أن يكونوا «شعباً واحداً». لكن الصحيح، أقله على ما أثبتت التجربة العملية وليس التمنيات، أن اللبنانيين أدركوا قبل غيرهم ربما أنهم مجموعات طائفية متجاورة في السكن والحياة ضمن الحيز الجغرافي، لكن غالباً متناقضة في المصالح والاهداف، فجاء نظامهم على شاكلتهم بما يحقق لكل مجموعة شيئاً من تلك التطلعات. وتكرس ذلك الواقع بعد حرب أهلية خاضوها وأنجزوها، وأعادوا إنتاج ذواتهم بحسب نتائجها. فتقلص دور الخاسرين وحصتهم من الحكم (المسيحيين)، وأعيد توزيع الحصص الأخرى سواء بتوسيع الصلاحيات (السنة) أو باشراك المغيبين سابقاً عن أي مشاركة (الشيعة). وإذ أطلقت منذ التسعينات منصات كثيرة وجدية وصادقة لبناء نظام علماني يتساوى فيه اللبنانيون كمواطنين وليس كرعايا، تبين ليس أن الفشل نصيبها فحسب، بل إن النظام الطائفي على بؤسه وبشاعته، هو أفضل الممكن لمشاركة الجميع في الحكم.

واللافت في تلك اليقظة السورية وان جاءت متأخرة نسبياً، أنها أصبحت اليوم متداولة في أوساط المعارضين المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بـ «المناطق المحررة» وتحديداً لجهة الشمال في حلب وإدلب. وذلك بعكس كثيرين ممن خرجوا فإما قطعوا الصلة بالعمل الميداني أو أن ظروف مناطقهم لا تفرض عليهم بعد هماً بهذا الثقل، كما هي حال الدمشقيين مثلاً. أما هؤلاء، الملتصقون أكثر من غيرهم بالواقع، فقد أيقنوا أن شعبهم ليس واحداً، وحاجاته وتطلعاته، وإن التقت عند الرغبة في التخلص من النظام، تتناقض وتتنافر وتتخبط، ويترتب عليهم قبل غيرهم تقديم الإجابات وإيجاد الحلول.

هكذا يسمع اليوم كلام جديد ومفاجئ عن «خصوصية» المناطق واختلافات نسيجها السكاني. من عرب وأكراد، وأهل الساحل إلى أهل حوران والجزيرة، أو أهل الريف وأهل المدن، أو أبناء دمشق وأبناء حلب، وانشقاقات حلب وحماة، والعائلات والعشائر، والأقليات التي اقتصرت طويلاً على «الإخوة» الدروز والمسيحيين… فأضيف إليها بعد الثورة العلويون والإسماعيليون وغيرهم.

هؤلاء كلهم أخرجتهم الثورة إلى العلن ومعهم قضاياهم وأولوياتهم وتطلعاتهم لمستقبل بلدهم المــــختلفة جداً، وليس ما يعيدهم اليوم إلى قمقم الشعب الواحد. يكفي أن ينظروا إلى لبنان بصفته نموذجاً غير خاص وغيرحصري.

 

بيسان الشيخ

المصدر : الحياة