حدود التدخل العسكري التركي في سورية

33

تشهد أنقرة جدالاً واسعاً وعميقاً في شأن العملية العسكرية التي تنوي الحكومة التركية تنفيذها في شمال سورية للحيلولة من دون تشكل كيان كردي مستقل وقوي على حدودها الجنوبية على غرار ما جرى في العراق مع إقليم كردستان.

وإذا كانت أنقرة لا تملك القدرة على تغيير الواقع في شمال العراق آنذاك لاختلاف الوضع الجغرافي من جهة وقوة الحضور الأميركي من جهة ثانية، فإنها اليوم تمتلك قدرة التدخل وتغيير الوقائع في سورية، بعدما أصبح الأكراد قوة واضحة في الشمال السوري إثر سيطرتهم على مدينة تل أبيض التي تشكل جسراً بين عين عرب (كوباني) في الشمال الشرقي وبين عفرين في الشمال الغربي لسورية.

تكمن المخاوف القومية العليا لتركيا في أن مثل هذا الكيان إن استقر في شمال سورية قد يتحول إلى منطقة عمق استراتيجي للأكراد في جنوب تركيا تكون بمثابة الخزان البشري والإمداد العسكري لأي تحركات مستقبلية لأكراد تركيا، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أن المشروع الكردي في سورية يتم تحت إشراف «الاتحاد الديموقراطي»، وهو الفرع السوري لـ «حزب العمال الكردستاني».

ومن هنا فإن أنقرة لن تقبل بقيام مثل هذا الكيان الذي يبدو مقبولاً من قبل واشنطن ودمشق معاً، وهو ما عبّر عنه صراحة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حين أكد أن بلاده لن تسمح بقيام دولة كردية.

غير أن العملية العسكرية التركية ليست يسيرة، بل تتطلب إمكانات عسكرية كبيرة في أرض تتجاذبها قوى عسكرية متباينة وتداخلات إقليمية ودولية كثيرة، بحيث يمكن أن يتحول التدخل العسكري التركي إلى كابوس يغرقها في المستنقع السوري وتصبح في مواجهة، ليس فقط مع فرقاء إقليميين، بل أيضاً مع حلفاء دوليين مثل الولايات المتحدة التي تتبنى أجندة سياسية في سورية مغايرة تماماً للأجندة التركية.

هذا الواقع المعقد عبّر عنه رئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو قبل أيام حين قال إن حكومته لن تزج بتركيا إلى مغامرة غير محسوبة.

الولايات المتحدة تضع نصب عينيها في المقام الأول محاربة «داعش» مع ما تطلبه الأمر من عقد تحالفات تتعارض مع حلفائها في المنطقة مثل أنقرة والرياض، ولذلك قدمت واشنطن دعماً عسكرياً ملحوظاً خلال الفترة الماضية لحزب «الاتحاد الديموقراطي». وبدا الأمر واضحاً من خلال طبيعة الغارات الجوية التي شنها التحالف الدولي، إذ بيّنت الاحصاءات أن نحو 1200 غارة من أصل 1800 غارة خلال الشهور العشرة الماضية كانت خدمة لـ «الاتحاد الديموقراطي» لتمكينه على الأرض، وكأن واشنطن تعاقب أنقرة لرفضها الانضمام إلى التحالف الدولي.

وعليه فإن أي عملية عسكرية ضد الأكراد أو إقامة منطقة عازلة من شأنها أن تؤثر سلباً على محاربة «داعش»، وتضع أنقرة في مواجهة مباشرة مع واشنطن، وربما يفهم تصريح الخارجية الأميركية بأن واشنطن ليست لديها أدلة على عزم تركيا إقامة منطقة عازلة، على أنه رفض أميركي لإنشاء منطقة عازلة، وليس رفضاً لمبدأ التدخل العسكري.

يمكن أن تقبل واشنطن دخولاً عسكرياً تركياً في شمال سورية ومنع تشكل كيان كردي، شرط أن يخدم هذا التدخل في النهاية أهداف التحالف الدولي في محاربة «داعش»، بعدما توصلت واشنطن إلى قناعة بأن حسم المعركة مع التنظيم لا يمكن أن يتحقق من دون تدخل عسكري بري من تركيا أو السماح لقوات برية دولية بالانطلاق من الأراضي التركية.

لكن المشكلة تكمن في أن أنقرة ليست بصدد فتح جبهتين في سورية مع الأكراد من جهة و «داعش» من جهة ثانية، فمثل هذه المعركة ستكون ذات كلفة كبيرة، ناهيك عن استغلال النظام السوري لمثل هذا التدخل وإطلاقه صورايخ ضد الجيش التركي لأجل خلط الأوراق.

لذلك تبدو الأمور متجهة نحو تدخل عسكري محدود يحقق الأهداف المرجوة من دون الدخول في معارك واسعة في سورية للأسباب التالية:

1 – تدخل عسكري بعمق جغرافي محدود يسمح لتركيا بخلق كانتونات عسكرية تركية صغيرة تقطع أوصال الكيان الكردي القائم وتحول دون مواجهة مباشرة ومفتوحة معهم، ومدينة جرابلس ومنطقة عفرين أفضل موقعين لمثل هذه العملية.

2 – الحيلولة دون إثارة الأكراد في تركيا وإمكان تهديد عملية السلام بين الطرفين مع تحول الأكراد إلى قوة سياسة عبرت عن نفسها في الانتخابات الأخيرة في «حزب الشعوب الديموقراطي».

3 – رفض المؤسسة العسكرية التركية الانخراط في الصراع السوري مباشرة من دون توافر غطاء دولي من الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، وهو ما طالب به قائد هيئة الأركان التركية الجنرال نجدت أوزال.

4 – رفض الأحزاب التركية المعارضة مثل «حزب الشعب» هذه العملية، خصوصاً أنها تأتي في مرحلة التشاور لتشكيل حكومة ائتلافية، ما يمكن أن يؤثر سلباً على هذه المشاورات، فضلاً عن أن أية عملية بهذا الوزن تتعارض مع البروتوكول السياسي الذي يحول دون القيام بخطوات استراتيجية أثناء حكومات تصريف الأعمال.

5 – نسبة نجاح مثل هذه العملية العسكرية المحدودة ستكون عالية، وبالتالي ستلقى دعماً من قبل الأتراك خارج المكون الكردي، بحيث يمكن استثمارها انتخابياً في حال قرر حزب «العدالة والتنمية» التوجه إلى انتخابات مبكرة.

حسين عبد العزيز

الحياة