حزيران 1967 وحزيران الراهن!

26

أمر مفهوم أن لا تحظى في يومنا ذكرى هزيمة حزيران (يونيو) 1967 بالاهتمام المعهود، فالذين لم يعاصروها باتوا الأكثرية، عداكم عن انحسار وقعها النوعي عند من عاشها أمام هول الأحداث التي تشهدها مجتمعاتنا العربية، ومع ذلك تبقى هذه الهزيمة أبرز علامة في تاريخنا الحديث وأكثرها تأثيراً، وربما لا تضاهيها سوى ثورات الربيع العربي، ما يشجع على مقارنة تداعياتها مع ما يعتمل في البلدان التي طاولتها رياح التغيير.

أولاً، كشفت النتائج الوخيمة لهاتين المحطتين الوجه السلبي والمدمر لخيار اللجوء إلى السلاح ولمنطق المكاسرة والغلبة، وأكدت أن العنف هو ظاهرة خطيرة تمزق الكيانات البشرية وتحول الأوطان في حال استحوذت على الفضاء السياسي والمجتمعي إلى ما يشبه الجيوش والخنادق، مدمرة ثرواتها ومستقبل أجيالها ومنتهكة أبسط حقوقها.

في ما مضى أسقطت نكسة حزيران نموذج الدولة الأمنية الوصائية، وبدا العملاق القمعي الذي أرعب الشعوب قزماً أمام العدوان الإسرائيلي، ما أظهر أهمية الديموقراطية وتحرير الإنسان العربي من القهر والتمييز كشرط للنجاح في مقارعة العدو واسترداد الحقوق، لكن هذا الخيار لم يدم طويلاً، واعترضه صعود المقاومة الفلسطينية وتصدرها المشهد وتقديسها الكفاح المسلح كطريق وحيد للتحرير، ما منح أنظمة الاستبداد فرصة لم تضيعها لتوسل لغة السلاح والقوة وتسويغ شرعيتها تحت عنوان الاستعداد عسكرياً لإزالة آثار العدوان، والأهم لمحاصرة دعاة أولوية التنمية الديموقراطية وإجهاض أحلامهم.

وبالمثل، لم تطل أيضاً فترة الحراك السلمي، فما إن أعاد الربيع العربي المجتمع إلى السياسة، بعد أن غيبته آلة القمع والاضطهاد لعقود، وبعث من الرماد صور التظاهر والاحتجاج السلميين، حتى تصاعد العنف السلطوي والعنف المضاد، ليشكل الاندفاع الحثيث نحو العسكرة واللجوء إلى السلاح مدخلاً لوأد هذا التحول النوعي وإرجاع الناس إلى المربع الأول، إلى مناخ استعبادهم وإذلالهم واستبعاد دورهم الجمعي في المشاركة وتقرير مصير مجتمعاتهم.

وإذ يذهب البعض إلى تبرير السلاح والعنف كرد فعل على ممارسات دموية وظالمة من أنظمة لم تتوانَ عن استخدام كل الوسائل للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها، لكن ما خلفه هذا الخيار من كوارث ومحن، أكد أنه الطريق الأقصر للهزيمة، والانجرار إلى أساليب القهر ذاتها التي ناهضها الحراك الشعبي، محطماً الآمال التي أثارتها رياح التغيير.

المسألة ليست رد فعل أو انتقاما وثأراً، بل مسألة بنيوية وأخلاقية في آن، فلن يستقيم الانتصار لشعاري الحرية والكرامة اللذين أجمعت عليهما الثورات العربية، إذا شوه العنف والتعصب بنيتنا الإنسانية ولجأنا إلى أساليب نضالية لا تنسجم مع رقي هذين الشعارين، خصوصاً أن انتشار عالم الصورة والإعلام الحي، يعطي النضال السلمي المزيد من الجدوى، ويمنحه قدرة متميزة لتعرية أساليب القمع ومحاصرتها.

ثانياً، لا يمكن التوقف عند تداعيات هاتين اللحظتين التاريخيتين من دون أن نلحظ عاملاً مشتركاً هو تنامي حضور الإسلام السياسي ودوره في المجتمعات العربية، ومثلما اعتبرت هزيمة حزيران 1967 هزيمة للمشروعين القومي والاشتراكي، ومهدت الطريق لتقدم مشروع الإسلام السياسي كبديل يدعي القدرة على تحقيق المطامح العربية، فانرياح الربيع العربي منح أيضاً جماعات الإسلام السياسي دفعة قوية بصفتها القوى الأكثر تنظيماً وشعبية وتعرضاً للاضطهاد. لكن الجديد هو اختلاف الصيرورة، فبينما فتحت هزيمة 1967 الباب واسعاً أمام إسلام سياسي صاعد وواعد، أظهرت تداعيات الربيع العربي فشله في السلطة وعجزه عن تقديم بديل يضمن حقوق الناس ويلبي حاجاتهم، مدشنة انحسار دوره تاريخياً، زاد الأمر وضوحاً انكشاف فظاعة مشروع الإسلامويين الجهاديين، الذين يصارعون الموت والاندثار في عالم ينبذهم ويلفظهم.

ثالثاً، مثلما شكلت نكسة حزيران صدمة قوية هزت بعنف التركيبة السياسية القائمة، وشجعت الاجتهادات والقراءات النقدية لتفسير ما حصل وتحديد أسباب ما وصلنا إليه، كذلك أحدث الربيع العربي هزة عميقة طاولت مختلف البنى الاجتماعية، وبخاصة العقل السياسي العربي، كاشفة حجم الهوة التي تفصله عن المجتمع، وأن جسرها يحتاج إلى ما يشبه الثورة في المفاهيم وفي طرائق التفكير، تبدأ بتحرره من سطوة الأيديولوجيات، ونقض الحجج والذرائع، التي أرجأت دوره في التصدي للاستبداد والعنف، والأهم إبراز وظيفته الحيوية في إعادة الاعتبار للإنسان بوصفه المحرك الرئيس لكل تحدٍ وتطور.

رابعاً، ومن وجوه التشابه، لا يمكن نسيان عمق الألم في عيون الناس وهم يتابعون أخبار الجبهات في حزيران 1967 وحالة ذهول غالبيتهم التي لا تريد تصديق أن إسرائيل هزمت جيوش العرب خلال ستة أيام، ومن يراقب المشهد الراهن، مع حفظ الفوارق، إن لجهة البعد الزمني، وإن لجهة اختلاف الظروف وطبيعة أطراف الصراع، لا يمكنه أن ينسى شدة العذابات والآلام التي تعانيها شعوب عربية لمجرد مطالبتها بحرياتها وحقوقها، وحالة ذهولها وهي تأبى تصديق أن الصراع بين أبناء الوطن الواحد يمكن أن يستمر لسنوات دموياً ومرعباً، وأن ثمة أطراف لا يردعها رادع في التفنن باستخدام كل وسائل القمع والتنكيل، من دون اكتراث بما تخلفه من دمار وضحايا ومفقودين ومشردين!

والحال، يبدو أن المجتمعات العربية قد جربت أخيراً كل الخيارات الأيديولوجية، من القومية إلى الاشتراكية إلى الإسلامية، وكانت النتائج مخيبة للآمال، فلا الأرض تحررت ولا الوحدة العربية أنجزت ولا حدثت التنمية والنهضة المنشودين ولا ارتقى الإنسان إلى مجتمع العدالة والحرية، ونظرة متأنية إلى تداعيات نكسة حزيران 1967 وانكسارات رياح التغيير في حزيران الراهن، تسقط الكثير من الأوهام المعششة في الأذهان وتكشف في الوقت ذاته بساطة المشكلة وأنها تعود أساساً إلى انعدام الثقة بالإنسان العربي، إلى غياب الحريات واحترام التنوع والتعددية، إلى مناخ الاستبداد والوصاية والعنف الذي ساد أمداً طويلاً ودفع بالتجارب جميعها إلى طريق مسدودة.

 

 

اكرم البني

الحياة