حكايات المعتقل – يكتبها غسان الجباعي على حلقات – الحلقة 4

57

حكايات المعتقل – يكتبها غسان الجباعي على حلقات
حكايات المعتقل – يكتبها غسان الجباعي على حلقات

غسان الجباعي

صيف صحراوي وحرارة خانقة والذباب يملأ المكان، والشمس ترصف مرايا بريقها فوق الجدران، تقطّع الفضاء المغلق إلى مربعات ودوائر ومثلثات متداخلة.. مشهد موّار ومتنوع لدرجة التشتت: مجموعة هائلة من المثقفين في مكان بليد ضيق الأفق، تستخف به أشعة الشمس وتعربد فيه. كل اثنين أو ثلاثة يقومون بعمل يبدو للوهلة الأولى منعزلاً عن الآخر. أحدهم يقوم بحك حبات الزيتون على الأرض أو على الجدران، ليصنع سبحة أو عقداً. أحدهم يجدل خيوطاً أو يعالج ضلعاً من العظم نظفه وخبأه من غداء البارحة ليصنع منه قلماً مدبب الرأس.. كانت الأوراق والأقلام ممنوعة، فصنعنا أقلاماً من العظام، وأوراقاً من «سلفان» علب السجائر. كنا نقوم بصقلها، لتصبح صفحات قابلة للكتابة بواسطة الضغط. وكنا نكتب عليها الأشعار والقصص والمقالات. حتى إننا أصدرنا جريدة كنا ننشرها كل صباح على خيط مشدود. كان أحدهم يكتب، وآخر يحفّ حجراً بحجر، لا ليشعل ناراً بل ليصقل الواحد بواسطة الآخر…. زوجان أو أكثر يلعبان الشطرنج، المصنوع محلياً من العجين أو الخشب، على قطعة من قماش مخططة بالطباشير. أربعة أو خمسة أشخاص يتفرجون على اللعب.. بعضهم يذهب باتجاه المرحاض وآخرون يعودون منه. اثنان مستلقيان يناقشان بصوت منخفض مفهوم الوطنية والدكتاتورية. أحدهم يحضن ركبتيه ويراقب الضوء عبر النافذة.. أحدهم يتناوب مع جاره على سيجارة ناعورة.. أحدهم يرتب بطانياته.. أحدهم يجلس ساهماً جامداً، ينظر في نقطة واحدة.. أحدهم يدلك ظهر زميله.. أحدهم ينظف أظافر قدميه ويغني.. أما الباقون فيتحركون كالمجانين جيئة وذهاباً والهدف الوحيد لأفعالهم، كان الذبّان..
الأيدي تطرد الذباب بشكل لا إرادي، لكن المدخنين، جميع المدخنين، كانوا يطاردون الذباب عن قصد. لم يكن لديهم أدوات لاصطياده، فاضطروا لاستخدام الأيدي والشحّاطات والخرق..
أعلم أن الحديث عن الذبان والشحاطات والخرق لا يليق بحكاية محترمة أو ذاكرة وقورة. لكن الذباب أصبح في حياتنا بطلاً وقضية، حشرت في ذاكرتنا رغماً عنا، وتحولت تلك القضية إلى مشهد سريالي مأساوي..
عندما كنا في الزنازين، ورغم أن الظروف كانت عصيبة واستثنائية: تحقيق وتعذيب وتوتر ومواجهة وصراع إرادات وصراخ وخوف واعترافات.. كان التدخين يسبب لنا مشكلة حقيقية، غير أن حلها كان بسيطاً جداً. أرادوها وسيلة لإذلالنا والضغط علينا، إذن، فلنتوقف عن التدخين وينتهي الأمر. كانت تلك المرة الأولى التي تمكنتُ فيها من وقف التدخين، لكنني، بعد انتهاء التحقيق، وعندما اجتمعنا في مهجع واحد، أصبحت سيجارة الناعورة تساوي جزءاً من الحرية والكرامة..
كانت الزيارات ممنوعة، ولم نكن نملك أي حق من حقوقنا البشرية أو حتى الحيوانية. لم نكن أصلاً، نملك نقوداً لشراء ما يكفينا من حقوق. كنا نملك 43 علبة ناعورة و20 علبة حمراء فقط. وكان عددنا ثلاثة وسبعين نفراً. عدد المدخنين منهم يتجاوز الثلثين. أما الذبان فقد كان أسراباً متعاضدة تحجب، في الليل الجدران والسقف والزوايا، وتحجب في النهار الرؤية والتنفس وضوء الشمس القادم من النوافذ الضيقة المستطيلة.. ينهض الشاويش كل ثلاثة أيام في العاشرة صباحاً ويبدأ بتوزيع حصص السجائر المخصصة للمدخنين: 9 سجائر حمراء و18 سيجارة ناعورة. أي بمعدل 3 سجائر حمراء و 6 سجائر ناعورة في اليوم.. ولكل حسب رغبته. كان لدينا فائض في الذبان وندرة في السجائر، ولذلك اقترح علينا الدكتور نادر، وقد كان أستاذاً لمادة التجارة والاقتصاد في جامعة تشرين، وبعد شرح مسهب لمعنى المقايضة وفوائدها ودورها التاريخي في مسيرة الاقتصاد، اقترح أن نقايض الذبان بالسجائر. لم يكن هو من المدخنين, وسمّاها لعبة، وقبلنا أن نلعبها. وبدأت المنافسة: كل من يقتل خمسين ذبابة يحصل على سيجارة ناعورة، وكل من يقتل سبعين، يحصل على سيجارة حمراء بكامل طولها وبهائها.