حكايات المعتقل – يكتبها غسان الجباعي على حلقات – الحلقة 2

60
حكايات المعتقل – يكتبها غسان الجباعي على حلقات

الحلقة الثانية

كانت أمي عجوزاً. انتظرتني طويلاً. وعندما رأتني أصيبت بالجلطة الدماغية وماتت بين ذراعيّ..
كانت أمية بسيطة.. لم تتقن في حياتها سوى الحزن والخبز والدعاء والحنان.. عاشت في عصر الجنرال الكبير، ولكنها لم تكن تفرق بين كلمتي «الفريق» و«الرفيق»، بين قائد المسيرة أو الأمين العام أو القائد العام للجيش والقوات المسلحة.. ولم تكن تفهم عبارة مثل رمز الأمة العربية أو قائدنا إلى الأبد.. وكانت تتساءل: «كيف يعني إلى الأبد!؟ مش رح يموت يعني!؟». لم تكن قد فهمت أبداً معنى الأحكام العرفية والمحاكم العسكرية. لم تقرأ الدستور ولم تستفتِ أو تنتخب يوماً. حتى إن كلمات مثل استفتاء وانتخابات وديمقراطية، لم تكن تفهم معناها. عاشت سبعين عاماً ونيفاً، بعضها في عهد الاستعمار الفرنسي وجلها في عصر العسكر وقانون الطوارئ وأكياس النايلون والبلاستيك. وماتت دون أن تتقن لفظ الاستقلال.. كلمة /دي مو قرا طية/ كانت تلفظها «مقراطية» وهو باللهجة المحلية تعني العصا الغليظة الصلبة..
الشيء الوحيد الذي تعلمته وأتقنته في آخر عمرها كان الخوف.. الخوف من الله والخوف علينا من أولاد الحرام. ولذلك كانت كل ليلة وكل فجر تطلب من الله أن يحمينا من الحساد والظالمين. وعندما فشل خوفها في حمايتنا وضعت ابني في حضنها وأطلقت على الجنرال الكبير، لقبا صغيراً هو: /حافظ الأسى/. قالتها من كثرة الأسى: «هذا مش حافظ الأسد، هذا حافظ الأسى».. وهكذا تورطت في السياسة، دون أن تدري، حين تلاعبت باسم «القائد الرمز»..
كان ذلك اللقب العفوي حقيقياً لدرجة أنه يلخص مرحلة كاملة من تاريخ البلاد. لقب لزعيم أساء إليها شخصياً.. أساء لحليبها وأمومتها وشعرها الأبيض. زعيم أبدي، عربي، طويل القامة، كبير الرأس. قيل إنه عندما ولد أخرج في قبضته قطعة من رحم أمه..
زعيم شرس، مات منذ زمن بعيد ولم يمت. صوره ما زالت معلقة في كل الأماكن. تماثيله لم تتغير أماكنها, غيرت أسماء الساحات ولم تتغير. حتى بتنا لا نستطيع العيش في وطن يخلو من صوره، وبات اسمه المحفور على كل الجدران والأسوار والجسور، ما إن يتردد حتى تلتهب الأكف بالتصفيق دون إذن من أصحابها. اسم مرتبط بالخوف في عصر كامل من التصفيق المستمر والهتافات الهستيرية: تصفيق من الخوف، تصفيق مع الخوف، تصفيق للخوف.. ورغم ذلك رفضت أمي أن تصفق له. كانت يداها مشغولتين بالغسيل والجلي والعجين والطبخ والتعزيل.. رفضت كل أسمائه الحسنى وأطلقت عليه هذا اللقب، ثم أصيبت بالجلطة الدماغية وماتت..
عندما خرجت من المعتقل قررت أن أكتب رواية عن أمي. كنت مصراً على جعل عنوانها «حافظ الأسى»، وفاء لذكرى أمي ونكاية بالخوف. ولكن جميع المحبين والأصدقاء نصحوني أن أفكر بعنوان آخر. حتى دور النشر رفضت عنواني.. خافت هي أيضاً منه. وعندما اقترحت أن أضع، عوضاً عن اسمي، اسماً مستعاراً، رفضوا الاقتراح. كنت مقتنعاً بهذا العنوان لدرجة أني امتنعت عن نشر هذه الرواية ووضعتها في الدرج وأنا أردد: كفى كذباً. إما أن تكون شاهداً حقيقياً على عصرك وتقول ما تراه وتقتنع به، أو أن تصمت. وصمت. صمتاً طويلاً. لكن أمي التي أطلقت على الزعيم هذا اللقب وماتت منذ عشر سنوات، أطلت عليّ تلك الليلة بشعرها الأبيض، أحضرت الفجر معها. شقته بيديها الكثيرتين ودخلت عليّ فجأة، دون أن تفتح الباب، وطلبت مني تغيير هذا العنوان. قالت: /غيّر العنوان يا غسان، واستعض عنه بثلاث نقاط على السطر../ ثم غابت..
نهضتُ. بحثت عنها في جميع الزوايا.. فتحت جميع مسارب الضوء.. رددت اسمها.. فتشت ما بين الستائر والزجاج.. سألت القناديل الغافية فوق الرصيف.. فتحت باب غرفتها، بحثت في خزانتها المقفلة.. وقبل أن تشرق الشمس، نفضت اللحاف جانباً وجلست إلى الطاولة..
كانت تخاف عليّ حتى في موتها. استبدلت العنوان وحذفت لقب الزعيم أينما وجد واستعضت عنه بـ/ … / مبهمة. ليس جبناً، لا. ولكنها فكرة رائعة أخرى من أمي التي كانت تعيش معي وتفكر معي وتحميني.. في المرة الأولى قتلتها حزناّ عليّ، لكني هذه المرة سأطيعها..
كيف السبيل إلى نشر رواية لا تخاف من أصابع كاتبها؟.. كيف السبيل إلى نشر رواية لا يخاف صاحبُها من أصابعه؟ وجاء الجواب بسيطاً ذكياً حاسماً. ثلاث نقاط مضمرة على السطر، تعتبر تورية خبيثة، باطنية ومباشرة. قد تكون أكثر بذاءة من ذلك اللقب, قد تكون هجاء وقد تكون تخلصاً من الهجاء. مسبّة سوقية، أو كلمة بذيئة يمنعك الحياء من ذكرها صراحة، فتنقذك من الإحراج والمساءلة القانونية والفكرية والأخلاقية. ومن يدري قد تنقذك من الموت أيضاً. ثم إنها كانت آخر وصية من المرحومة أمي..
عندما خرجت من المعتقل انتظرتني أمي حتى وصلت إلى الحارة فخرجت حافية وعانقتني، ثم سقطت بين يدي..
أمي التي تجاوزت الستين، ولم أرها يوماً ترد على الهاتف، ردت في ذلك اليوم بالتحديد، كانت ترد كل يوم في غيابي، وعندما سمعت صوتي عرفتني.
كنت قد وصلت إلى بيتي في «حي الكيكية» بدمشق، وقررت الاتصال بأهلي، قبل حضوري، كي لا أفاجئهم. كنت متأكداً بأنها لن ترفع السماعة، ولكنها رفعتها. فقلت مغيراً صوتي:
يا خالة أم غسان، أنا صديق غسان، وقد خرجت لتوي من السجن وهو سيخرج غداً.
فهتفت: أنت غسان.. أنت غسان.. يا حبيبي قلبي أنت..
وراحت تبكي وتضحك وتنادي أفراد الأسرة.. عرفت صوتي وانتظرتني على باب الحارة. وعندما وصلت لاقتني حافية وعانقتني.. ثم سقطت بين يدي هاتين اللتين تكتبان الآن..
أصيبت بجلطة دماغية، وعاشت بعدها سنتين قصيرتين وهي حبيسة ذلك السرير الحديدي المستطيل. أصبح السرير قبراً مؤقتاً لجسدها الواهن. لم تقل بعدها كلمة واحدة كاملة.. كانت تلثغ مثل الأطفال.. حتى حجمها أصبح بحجم لعبة كبيرة. كانت ترفع يدها الميتة بيدها الحية وتبتسم لنا.. تتفقدنا فرداً فرداً، وتلمع عيناها السوداوان بدمع شحيح، وتبتسم دون أن تبتسم.. كانت تتمنى لنا أياماً أفضل. وكنت أمسك وجهها الشمعي بين راحتي. أقبل جبينها البارد بشفتي الدافئتين. أفرك يديها الصفراوين، ثم أغطي شعرها الأبيض بمنديلها الأبيض وأنا أداعبها..
ماتت قطعة قطعة.. وبعد سنتين، أصبحت أيقونة البيت..