حين سقط البرميل فوقي وصحوت!

36

صباح يوم عادي جداً تستيقظ لتغسل وجهك من آثار دماء مجزرة الأمس وتمضي نحو عملك متلبد المشاعر، لابد أن خللاً أصاب قلبك وأنت تعبر الشارع لتتجاوز حفرة صنعتها هدايا السماء القاتلة. في الطريق دائماً ما تبحث عن أي شيء لتشيح فكرك عن الوجوه المتعبة التي تصادفها أمامك، وتسأل نفسك “هل يستحق ذاك الحلم كل هذا التعب! هل ما زال الحلم حلماً أم أصبح كابوساً مخيف!”

كل هذه الأشهر الطاعنة بالموت وما زال هناك الكثير لتقوم به أو ربما مساحة التفكير أوسع من مساحة الموت، بجرد سريع تعبر على الأحداث والمنحنيات التي رافقت درب من هبّوا باحثين عن حقوقهم، فالكرامة والحرية والعدالة الإجتماعية ليست ترفاً تتميز به شعوب عن أخرى. إلا أن واقع الحال يثبت أن تلك الحقوق مجرد أحلام لن تنالها هذه المنطقة إلا بإعجاز كوني. هنا حين يفقد الحلم قيمته الفكرية والأخلاقية ليتحول إلى شماعة يتم عليها تعليق كل الإنتهاكات وكل الأخطاء.

من بين هذه الدماء خرج من يقول “أوقفوا القتل فنحن أحياء والحياة تليق بنا” عملوا على مدى شهور بصمت إلى أن وصلوا إلى عدة اتفاقيات أدت بمعظمها إلى وقف الاقتتال في مناطق متفرقة من أجزاء الخريطة المنهكة بالدم، إلا أن بعضهم لم يعجبهم هذا المشهد، الذي يعتبر أصلاً لما تبعه من مشاهد، وانهالوا على من خرج صارخاً لوقف القتل، وهو يحمل أشلاء أبناءه، بأحقر الشتائم وأبشع الصفات وصادروا منه حقه بالحياة، ربما نجح ذاك الرأس بضخ الثقافة الشمولية بعقول الجميع فإما أن تردد ما أقوله أو على عائلتك البحث عنك بين الجثث.

ثقافة الموت تحتل المشهد ولكن البعض يأبى أن يرضخ لهذه الشروط فما كان منهم إلا أن أحقوا كلمة الحياة، وعملوا ليل نهار إلى أن أدخلوا الطعام والدواء إلى من كانت وجبته قليلاً من نباتات الأرض غير الصالحة للاستخدام البشري بعد أن نفدت القطط والكلاب من مناطقهم، وليعود من هُجّر من منزله باحثاً عن كرامته التي فقدها بالنزوح، ألم يهتف هذا الشعب أنه لا يهان!

ها أنت  اليوم أمام رحيل آخر تودع من كان لهم الفضل الأكبر في هذا العمل حين تجدهم جثثاً مرمية على جوانب الطرقات، فالقتل هو مكافأة من حارب الموت وبحث في هذه اللوحة السوداء عن قوس قزح ليعيد للحياة رونقها قدر الإمكان، وكما المعتاد يبقى هناك من يبرر هذه الجرائم سواء بحجة النيل من هيبة الدولة أو وهن نفسية الثورة، فالمجد هنا فقط لمن أعلن الموت إلهً تُجزُ له الرقاب قرابين ولاء وطاعة.

لابد أن شركاء الجريمة يتبادلون التهنئة بكامل نشوتهم بعد أن تتم مهمتهم في إطفاء اللون الأبيض، تُقرع كؤوسهم ممجدةً الذبح المسعور وتُهللُ الأهازيج لهم مُعلنةً انتصار الدم المخنوق، وتترنح البلاد بذاكرتها ناصبةً أرواح من رحلوا أيقونات ذل وعار عليك أن تتأبط بها وأنت ترسم خيالاً بحجم خطيئتك. الرحيل هو الحقيقة الوحيدة التي صَنعتْ حياتك والصمت الذي ارتكبته كان بوصلة للمشهد أو ربما ستجد الثغاء الهادر ملاذاً لك لترمي عليه كل هذا الحمل.

أن تُترك عرضة للبراميل المسعورة فهو إذنٌ إلهي بأن تعقد صفقتك مع أسواء أنواع الشياطين الطاعنة بالذبح، وأن يفرض عليك الحصار ويساهم بذلك من شرعت له قلبك ليحميك ستجد حينها أن كل تلك الشعارات والهتافات لا تكفي لسد رمق طفلةً أقصى أحلامها التلذذ بقطعة خضار نافذة لا يهم إن غُسلت أم بقيت ملطخة ببقع الدم القاتم.

الإستسلام أمام الموت ليس إلا عجزاً بأبهى صوره فالمقاومة مفهوم حياة لا موت، وباختيار الحياة على الموت تكمن صعوبة البقاء، فالثورة انتفاضة ضد الفناء وصحوة الضحية من الموت لتحلق خارج النعش،  لربما وأنت تسير وراء النعش تستطيع أن ترسم كل الأبعاد الممكنة للموت وأن تناور من زاوية لأخرى علّك تجد مخرجاً للحياة.

حب البقاء ليس غريزةً وإنما فطرة تصقلها المأساة اليومية والموت هاجسٌ يكلل رؤوس الجبناء، ليتحول الحيُ إلى ضحية تنال منها ضغينة القاتل الجبان، فدوافع هذه الفطرة تدفعك للبحث عن طعامك، للتخفي، وتدفعك أيضاً لإلتهام قاتلك قبل النفس الأخير، كما تدفعك للمهادنة حرصاً على إعداد مراسم تليق بالموت ذلك الحقيقة الواقعية الوحيدة التي ترسم مشاهدها بكل مفاصل حروبك اليومية باحثاً عن ضجيج أكبر في تلك اللحظة، لكنك في الغياب مجبر على جلد الذات أكثر وأكثر، وعليك التمهل بمضغ الطعام وأن تحترس من الأشلاء، طعام الغربان سيصبح ألذ لو كان الصمت تحليةً على هذه المائدة.

كأن الحلم يهمس لك في نومك “هل استقيظت لتودعني!” أو أن نباح الواقع أرعبك وأثار بك غريزة التبلد كآلية دفاع خرقاء لتصفق لك  الجماهير أمام حبكة المشهد، ها هو البرميل المحشو بهدايا الموت يقترب بكل هدوء مُشهراً حميميته أمام الملأ، يدندن أغنية إيقاعها يدعوك للترنح، يبحث عنك منتظراً تدوين آخر صورة شعرية لتكون تذكاراً للمدينة، هي المدن الطاعنة بالقهر والندم تأكل أبنائها لتعلق صورهم كما القصيدة على جدرانها.

بقلم : شادي ابو كرم

المصدر : القدس العربي