خديعة “تسويات” درعا: عامان على انتقام النظام

27

بعد عامين على سقوط محافظة درعا بيد النظام السوري تحت عنوان “التسويات”، لا تزال المحافظة على صفيح ساخن، ولم تعرف الاستقرار ليوم واحد منذ ذلك الوقت، وهو ما يفسّره البعض بأنه يأتي في سياق سياسة الانتقام الممنهجة التي ينفذها النظام من درعا، التي كانت مهد الثورة ضده في مارس/ آذار 2011. وإلى جانب الفوضى الأمنية التي تشهدها المحافظة والتي تترجم باغتيالات وتفجيرات وعمليات اختطاف واعتقال، تعاني درعا تراجعاً ملحوظاً على المستوى الخدمي والصحي والتعليمي. وعلى الرغم من أن سيطرة النظام على المحافظة تمّت معظمها عبر “الضامن” الروسي من خلال اتفاقيات التسوية مع فصائل المعارضة، إلا أن هذا الضامن كثيراً ما يتوارى عن المشهد في المحافظة، فيما يبرز دور المليشيات التابعة لإيران أو المدعومة منها، وسط تنافس لم يعد خافياً بين هذه المليشيات، وتلك التي تدعمها روسيا، وعلى رأسها فصيل اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس، بقيادة أحمد العودة، المنتشر أساساً في ريف درعا الشرقي. وإضافة إلى ترحيل المعارضين لاتفاقات التسوية إلى الشمال السوري، فقد قضت تلك التفاهمات بتسليم السلاح الثقيل والمتوسط للنظام والنقاط الحدودية إلى قوات النظام السوري، مقابل التزامها عدم دخول أي نقطة شملها اتفاق التسوية، مثل درعا البلد، إضافة إلى تصفير سجل أي شخص مطلوب بناء على تلك التسوية، والإفراج عن المعتقلين الذين يقدّر عددهم بنحو 4500 معتقل من أبناء المحافظة. لكن أجهزة النظام الأمنية لا تزال تعتقل المدنيين والعناصر السابقين في فصائل المعارضة، بل اعتقلت المئات منهم بعد تلك الاتفاقيات، من دون تقديم أية معلومات حول مصيرهم.

لا تزال قوات النظام تطوّق درعا مخالفة اتفاق التسوية

ولا تزال قوات النظام تطوّق مدينة درعا، في مخالفة إضافية لاتفاق التسوية الذي التزم به الأهالي وسمحوا بموجبه بدخول مؤسسات النظام ورفع علمه في معظم مدن وبلدات المحافظة، وحتى تلك التي لم يدخلها النظام برموزه وعلمه، كان بقرار منه، وليس بسبب ممانعة الأهالي. ويرفض النظام حتى الآن إعادة الموظفين إلى أعمالهم وإعادة المهنيين إلى نقاباتهم، فيما لم تحلّ أيضاً قضية المطلوبين للتجنيد الإلزامي في قواته، إذ يلتحق كثر بأجهزته الأمنية أو في الفرقة الرابعة أو في الفيلق الخامس بقيادة العودة، بهدف الخدمة ضمن المحافظة، تفادياً للالتحاق بقوات النظام التي قد تزج بهم في معاركها بعيداً عن مناطقهم. ولعل المشهد الأبرز في درعا خلال العامين الماضيين هو “الفوضى الأمنية” عبر الاغتيالات شبه اليومية والتفجيرات، التي غالباً ما تُنسب لمجهولين، فيما يعتقد على نطاق واسع أن من يقف خلفها هي أجهزة النظام الأمنية التي يتوزع ولاؤها بدورها بين إيران وروسيا، عبر المتعاملين معها من عناصر المعارضة السابقين، الذي انخرط كثير منهم في تلك الأجهزة أو في الفرقة الرابعة المدعومة من إيران. خلال الأيام الأخيرة فقط، قُتل العديد من أبناء المحافظة أو من قوات النظام والمتعاملين معها ومع المليشيات الإيرانية، خلال عمليات اغتيال تنسب لمجهولين، كان آخرهم قيادي سابق في غرفة عمليات “البنيان المرصوص” بدرعا، وعنصر في فصائل المعارضة، مساء أول من أمس الاثنين، جراء إطلاق الرصاص عليهما من قبل مجهولين في مركز محافظة درعا. ولم يسبق للقتيلين الانضمام إلى صفوف أي تشكيل عسكري بقوات النظام بعد إجرائهما التسوية الأمنية في يوليو/ تموز عام 2018. وكان قد قُتل 5 عناصر سابقين في فصائل المعارضة، بينهم قيادي، ليل الأحد – الاثنين، جراء استهدافهم بالرصاص من قبل مجهولين أثناء وجودهم في منزل بمدينة الصنمين شمالي درعا، فيما أكدت مصادر محلية مسؤولية فرع الأمن العسكري التابع للنظام عن مقتلهم. كذلك تداولت مصادر محلية عملية اغتيال نفذها مجهولون فجر الإثنين بحق قحطان قداح في منزله. والأخير هو والد الإعلامية في قناة “سما” الموالية للنظام سارة قداح، وهو متعاون مع المليشيات الإيرانية، بحسب مصادر محلية. كما قُتل شاب في مدينة طفس بمحيط درعا البلد، وهو عنصر سابق في الجيش الحر. كذلك ألقى مجهولون قنبلة يدوية على منزل عضو مجلس الشعب التابع للنظام خالد العبود في بلدته النعيمة واقتصرت الأضرار على المادية. وفي 22 يوليو/ تموز الحالي، استهدف تفجير منزل القيادي السابق في الجيش الحر بمحافظة درعا، القائد الحالي لإحدى المجموعات التابعة للأمن العسكري، مصطفى المسالمة، الملقب بـ”الكسم”، وذلك بعد محاولات سابقة عدة لم تنجح لاغتياله، فيما تمت تصفية بعض العناصر التابعة له، ليقصف المسالمة على الأثر بلدة درعا البلد بالقذائف من مواقع يسيطر عليها قرب معبر نصيب الحدودي. واغتال مجهولون، في 19 الشهر الحالي، مدير ناحية الحراك، شمالي شرق درعا، الرائد غيدق إسكندر، باستهداف سيارته بالأسلحة الخفيفة، خلال جولته على مراكز انتخابات مجلس الشعب في المدينة، فيما انفجرت عبوة ناسفة في بلدة أم المياذن بريف درعا الشرقي، منتصف يوليو في سيارة القيادي السابق في الجيش الحر، عامر المحاميد، ما أدى إلى إصابة أخيه عمر محاميد، ومقتل زوجته وطفلتين، بحسب ما ذكره مجلس بلدية أم المياذن عبر “فيسبوك”.

وبلغ عدد عمليات أو محاولات الاغتيال في درعا خلال النصف الأول من العام الحالي 214 حالة، بحسب إحصائيات “مكتب توثيق الشهداء في درعا”، بينما وثّق “مكتب توثيق الانتهاكات” في “تجمع أحرار حوران” منذ يوليو/ تموز 2018 وحتى الشهر الحالي، 415 عملية ومحاولة اغتيال، أسفرت عن مقتل 285 شخصاً وإصابة 168 آخرين. وأوضح مدير مكتب التوثيق، الذي يكتفي باستخدام اسم بـ”أبو المجد” للتعريف عن نفسه، أنّ عمليات الاغتيال لا تشمل الهجمات على حواجز ومقار وثكنات قوات النظام، التي تعرضت أيضاً لعشرات عمليات الاستهداف. وعن هوية المستهدفين، أوضح “أبو المجد” في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنّ “227 عملية من ضمن 415 استهدفت مدنيّين، و133 عمليّة استهدفت عناصر سابقين في فصائل المعارضة انخرطوا ضمن تشكيلات النظام بعد إجراء التسوية، و48 عمليّة استهدفت عناصر وقياديين سابقين في فصائل المعارضة لم ينخرطوا ضمن تشكيلات النظام، فيما تم توثيق 7 عمليات اغتيال استهدفت عناصر سابقين في تنظيم داعش، بعضهم انخرط في العمل مع مخابرات النظام”. خلافاً لما نصّت عليه اتفاقات التسوية، عمد النظام بدل الإفراج عن المعتقلين إلى احتجاز المزيد من أبناء محافظة درعا عبر حواجزه المنتشرة في المحافظة وعلى الطرق الواصلة بين قراها ومدنها، أو من خلال حملات الدهم والاعتقالات التي تشنها قواته وأجهزته الأمنية في بعض المناطق، وإضافة لبعض الاعتقالات التي نفذها بطريقة الاختطاف. ووثق “تجمع أحرار حوران” 1144 عملية اعتقال قام بها النظام في درعا، منذ إبرام اتفاق التسوية عام 2018 وحتى مطلع يوليو الحالي، مشيراً إلى أن من بين المعتقلين 453 مدنياً، والمتبقون هم عناصر سابقون في الجيش الحر. لكن التجمّع أشار إلى أن العدد الكلي الفعلي لمعتقلي المحافظة خلال عامين من التسوية فاق الـ1500 معتقل، لكن من الصعب توثيق بعض الحالات أو الوصول إلى معلومات عنها بسبب الأوضاع الأمنيّة في المحافظة، بفعل امتناع عدد من أهالي المعتقلين عن الإدلاء بمعلومات عن أبنائهم بسبب مخاوفهم الأمنيّة. في المقابل، أفرج النظام عن 307 معتقلين في العامين الماضيين، فيما أبلغ من خلال فروعه الأمنيّة ومديريات السجل المدني ذوي 54 معتقلاً بوفاة أبنائهم في المعتقلات، وسط اعتقاد بأنهم قضوا تحت التعذيب. وبعد سيطرة النظام على محافظة درعا، أصدر رئيس النظام بشار الأسد مرسومي عفو بخصوص المنشقين عن جيشه، لكن الأفرع الأمنيّة جمعت حوالي 200 منشق من أبناء المحافظة، بأوقات متفرّقة، وأرسلتهم إلى مبنى الشرطة العسكرية في حي القابون بالعاصمة دمشق، بدعوى أنه سيتم فرزهم مجدداً لقطعهم العسكرية السابقة. وتبيّن بعد ذلك أنّ العشرات منهم اعتقلوا، ووردت أخبار لعائلاتهم بمقتل 21 منهم تحت التعذيب. من جهة أخرى، عملت أجهزة النظام الأمنيّة على تجنيد العديد من أبناء المحافظة في تنفيذ عمليات خطف مَن لم تستطع تلك الأجهزة اعتقالهم، واعتمد النظام في بعض الأحيان على الخطف بدلاً من الاعتقال لتفادي الصدام المباشر مع الأهالي، خصوصاً أن عمليات الخطف استهدفت سيدات، وعناصر وقياديين سابقين في الجيش الحر وأشخاصاً لهم حضور في بلداتهم. ووثق “تجمع أحرار حوران” 35 عملية خطف بحق أبناء المحافظة منذ مطلع العام الحالي، أُفرج عن 16 منهم وما زال 19 آخرين مختطفين. وعلى الصعيد الخدمي، لم يفِ النظام بالوعود التي قطعها بتحسين الخدمات وترميم البنية التحتية التي تهالكت خلال السنوات السابقة. وعمد إلى التمييز بين القرى والمدن التي ناصرت الثورة السورية في محافظة درعا، والقرى التي لم تخرج عن سيطرته، تحديداً في تقنين ساعات التغذية الكهربائية، وسط معاناة الأهالي من شح مياه الشرب. كما عمد النظام الى إهمال المستشفيات والمراكز التعليمية، مركزاً اهتمامه على الجوانب الأمنية.

لم يفِ النظام بالوعود التي قطعها بتحسين الخدمات  

وإزاء هذه السياسة الانتقامية تجاه المحافظة، تتزايد وتيرة الاحتجاجات الشعبية فيها. ومنذ يوليو/ تموز 2018 حتى مطلع الشهر الحالي، أحصى “تجمع أحرار حوران” 83 حالة احتجاج سلميّة في عشرات المدن والبلدات بمحافظة درعا، طالبت بإسقاط النظام والإفراج عن المعتقلين وتوضيح مصيرهم في سجون النظام، وطرد المليشيات الإيرانية. وكل ما تقدم يشير إلى أن أبناء محافظة درعا لم يجنوا أية فائدة من اتفاقات التسوية مع النظام التي رعتها روسيا، ثم توارت عن المشهد، وما زالوا يعيشون وضعاً أمنياً مضطرباً، ومعيشياً متدهوراً، بينما يلف الغموض مستقبل محافظتهم. في المقابل، تنتشر المليشيات الإيرانية في المحافظة، وصولاً إلى الحدود مع الأردن، التي استخدمتها المليشيات لتهريب المخدرات إلى دول الجوار بالتزامن مع تشكيل خلايا أمنية لتصفية خصوم إيران ورافضي مشروعها في المنطقة. كذلك شكّلت إيران بالتعاون مع بعض أجهزة النظام الأمنية مراكز للإشراف على تدريب المجندين حديثاً من أبناء المنطقة، وساهمت بإطلاق سراح العشرات من عناصر تنظيم “داعش” من سجون النظام بهدف نشر الفوضى، ومن ثم استثمار هذه الفوضى لتحقيق مآربها، وسط صمت روسي مريب. ومن أبرز المليشيات المحلية التي رعتها إيران في الجنوب، “لواء العرين” الذي يبلغ تعداده 600 عنصر، ولواء “درع الوطن” ويضم نحو 400 عنصر، إضافة إلى مجموعات أصغر، مثل واحدة بقيادة خالد الحشيش المقربة من الفرقة الرابعة، ومجموعتي أحمد مهاوش وهيثم أبو سعيفان، اللتين تعملان في تهريب المخدرات إلى الأردن لصالح عناصر حزب الله، فضلاً عن مجموعات أخرى مناطقية مثل مجموعات سامر الحريري ومحمد الحراكي وفارس الحويلة وعلي العذبة. في مقابل ذلك، كان لافتاً إعلان أحمد العودة الذي يقود اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس، نيته تشكيل جيش موحد في حوران، لمحاربة إيران، وسعيه لاستقطاب الشباب من مختلف مناطق الجنوب السوري، غير أن البعض يصف الحديث عن محاربة إيران في الجنوب بـ”الشعارات للاستهلاك المحلي والإقليمي”.

 

 

المصدر:العربي الجديد