دوافع موسكو للتدخل في سورية

20

طوال سنوات الإضطراب التي سبقت التدخل الروسي المباشر في سورية، كان الخطاب السياسي الروسي يكشف بين حين وآخر تقديرات صانع القرار وتقييمه للوضع في سورية، بما فيه من مخاطر وفرص، وكذلك وضع أطراف الصراع ونوعية الدعم اللازم تقديمه لتعديل الموازين.

وطوال تلك الفترة كان الروسي يظهر إطمئناناً واضحاً تجاه أهم عناصر الأزمة وهو عدم سقوط نظام الأسد، فقد انصب تركيزه الميداني والسياسي على هذا العنصر ولم يعر أهمية لسواه، ذلك أنه في ذلك الحين كان يريد من نظام الاسد أن يكون أحد نقاط تفاوضه المهمة حول قضايا كانت تمس الأمن الروسي، مثل أوكرانيا والدرع الصاروخية في أوروبا وقضايا منظمة التجارة العالمية، وفي حينه كانت لدى روسيا هموم ومخاوف، وكانت تراقب حركة العالم وصعود الصين وتنخرط مع دول «البريكس» لتشكيل حلف يضغط على الولايات المتحدة لتعترف لأصحابه بدور وتحاول الإنخراط في منظمات اقليمية مثل شنغهاي ودول بحر قزوين من أجل وضع ترتيبات أمنية إقليمية، ولم يكن العالم خارج حدود بعض الإتحاد السوفياتي القديم وخارج حدود إنتشار القومية الروسية يعني موسكو كثيراً، وهو ما بينته الوثيقة الخاصة بالعقيدة الروسية الصادرة في كانون الاول (ديسمبر) الماضي وكان طابعها دفاعياً صرفاً بخاصة في المناطق المجاورة لروسيا.

غير أن فلسفة إدارة أوباما وطبيعة إستجابتها للتغيرات العالمية لفتت إنتباه روسيا ودفعتها الى إعادة بناء تصوراتها وصياغتها، فقد أجرت روسيا في السنوات الأربع الماضية تدريباً ميدانياً مهماً نفذه بشار الأسد لإختبار وفحص الخيارات الأميركية، وكانت تراقب سلوك إدارة اوباما وتختبر درجات قوة أميركا على مقياس سلوك بشار الأسد وأفعاله، حتى ادرك بوتين أن هذه الإدارة وضعت حدوداً لقدرة أميركا ودورها وهو الأمر الذي دفعه الى تطوير الهجوم الروسي في أوكرانيا اولاً وفي سورية ثانياً.

مراقبة روسيا للموقف الأميركي وفهم ديناميته شجعت روسيا على القيام بمغامرة مريحة، وإستغاثة إيران لإنقاذ نظام الأسد بلورت هذا الإستعداد، وفي ذلك الحين كانت عناصر التقدير التي بناها الخبراء الروس على الشكل التالي:

– إن الحروب في العالم، وعلى مدار العقود الثلاثة الأخيرة، اصبحت تشنها إما منظمات ما دون دولة مثل «القاعدة» و»حزب الله»، وإما قوى كبرى ضد دولة صغيرة، مثل حربي أميركا في العراق وأفغانستان، وحروب روسيا في جورجيا وأكرانيا، وهذا ينفي إمكان حصول حروب بين دول كبرى أو تحالف دولي ضد دولة كبرى.

– ان خريطة الطاقة في العالم شهدت تغيرات ملموسة في الآونة الأخيرة ولا سيما مع طفرة إنتاج النفط والغاز الصخري، ما يعني خروج منطقة الشرق الأوسط من دائرة مناطق النفوذ الحساسة في الصراع الدولي وبالتالي فإن الحركة الروسية داخل هذه المنطقة وعلى هامشها لن يستدعي ردود فعل أميركية غاضبة.

– تمثل سورية فرصة مهمة لروسيا من أجل بناء إستراتيجية تطوّق البؤر الإستراتيجية التي صنعها حلف الاطلسي في بولندا وتشيكيا، ومن جهة ثانية تخترق الأنطمة الإقليمية الفرعية (العربية والأوروبية) من خلال سيطرتها على الجهة الشرقية من البحر المتوسط وتمركزها في قلب النظام العربي.

– نسبة الأخطار تبدو متدنية بالمقارنة مع المكاسب في بيئة يمكن ترسيم حدود النفوذ في داخلها بما يتطابق مع الواقع الذي صنعته إبران (سورية المفيدة)، وتحويل ما تبقى من سورية إلى مشكلة إقليمية ودولية أكثر من كونها مشكلة لروسيا.

في التطبيق العملي لهذه التصورات إتبعت روسيا سياسة إندفاعية مبالغاً فيها، إستخدمت فيها المغامرة واللعب على خطوط تصدع الصراعات الطائفية والإقليمية بهدف إيصال رسالة إلى جميع الأطراف أن موسكو مستعدة للذهاب إلى كل الخيارات الممكنة لتجريد كافة الأطراف من أوراق القوة ودفعها للإستسلام مسبقاً ومن دون إختبار جدية روسيا في الميدان.

السؤال الطبيعي هنا، لماذا لم يلحظ التقييم الروسي مكوّن المقاومة في سورية وهو العنصر الذي كان سبباً رئيساً في حصول التدخل العسكري الروسي؟ لا شك أن الخبراء الروس تنبهوا لهذه المسألة ولا شك أن التعامل معها يقع ضمن ثلاثة بدائل محتملة: الأول، أن يتم القضاء على هذه المقاومة من خلال عمل عسكري مشترك مع إيران وتوابعها في العراق وسورية ولبنان عبر توفير حشد عسكري يفوق قدرة المقاومة السورية على الصمود، وبذلك يجري تحويلها إلى بؤر ضعيفة لن يمضي وقت طويل قبل تطهيرها وإنهائها، الثاني، أن يتم إخراج المقاومة من الحيز الذي يعني روسيا ويهمها إستراتيجياً، أي خارج السلسلة الممتدة من حلب إلى دمشق وبناء أنساق دفاعية على طول تلك المساحة وتحويل الصراع معها الى ما يشبه العمليات التي كانت تجري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والثالث، الإنسحاب بعد تحويل سورية إلى بلد يستحيل حكمه من قبل أي طرف، وهذا الإحتمال الأخير ممكن حصوله في حال عدم قدرة روسيا على ضبط الصراع والسيطرة عليه.

في كل الأحوال، ثبت في السنوات الأخيرة أن التقييمات الإستراتيجية التي اتخذت القوى المختلفة قراراتها على أساسها كانت تجري على مقاس رغبات صانعي القرار وتصوراتهم ولم تستطع إخضاع الواقع أو تعديله، وفي عصر القيصر وسلطته المطلقة في روسيا من يمكن أن يكون له رأي مخالف؟

 

غازي دحمان

المصدر : الحياة