دولتان إلى جانب دولة الأسد…

16

4937795030z499

أعلن حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني) وفي أجواء احتفالية صاخبة عن إنجاز ما سمّاه «الإدارة الذاتية في غرب كردستان». وغرب كردستان مصطلح يستعمله هذا الحزب في إشارته إلى المناطق ذات الغالبية الكردية في سورية. وعلى مصطبة هذه الإدارة الذاتية أقام الحزب حكومة محلية تضم، شأن أي حكومة في العالم، وزراء ومديرين ومسؤولين. ويفترض أن تسري سلطة هذه الحكومة في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سورية وتمتد من المثلث الحدودي الذي تلتقي فيه أطراف سورية والعراق وتركيا وصولاً إلى الشمال السوري الأقصى أسفل سهل حران التركي.

 

 

وتضم هذه الرقعة، التي تفتقر إلى اللحمة الجغرافية، مناطق الجزيرة وكوباني (عين العرب) وعفرين. وعلى تخوم هذه «الكانتونات»، كما ورد في بيان الحزب الكردي، تمتد الأرض التي تسيطر عليها قوات «دولة العراق والشام» (داعش) مثل اليعربية والشدادي ومنبج وإعزاز والباب وسواها. ولولا أن ثمة نزاعاً دموياً بين الجانبين، دولة الحزب الكردي ودولة العراق والشام، لربما عمدا إلى تبادل السفراء وأقاما علاقات إستراتيجية ونقاطاً حدودية مشتركة.

 

 

وهكذا، ففي الوقت الذي كان نظام بشار الأسد يواصل حربه الرهيبة على السوريين في دمشق وحلب وحمص وحماه ودرعا ودير الزور ويلقي عليهم البراميل المتفجرة ويدكّ البيوت على رؤوس ساكنيها ويمنع الغذاء عن الناس ليموت جوعاً من لم يمت بالبارود، كان أنصار الحزب الكردي ينزلون إلى الشوارع يرقصون ويغنّون، في سلوك مجلل بالعار ينعدم فيه أدنى حس من أحاسيس التعاطف الإنساني، دع عنك أحاسيس التضامن مع أبناء البلد الواحد، مع ضحايا بربرية دولة بشار الأسد.

 

 

وليس غريباً أن النظام لم يعترض على قيام هذه الدولة، الانفصالية، هو الذي دأب يرسم نفسه قلب العروبة النابض والمدافع الأمين عن وحدة البلد وسيادته واستقلاله. وهو لم يعترض من قبل على ظهور دولة «داعش» التي انبثقت من تحت التربة في شرق سورية وشمالها ولم تجد صعوبة في الاستيلاء على مدن وبلدات بأكملها إلى حد أنها جعلت من الرقة ما يشبه عاصمتها. فهذه الدولة، الإسلامية، التكفيرية، التي شرعت من فورها في ذبح الناس وترهيب أبناء الأقليات الدينية والمذهبية لم تصطدم باعتراض النظام الذي لا يكف عن تسويق نفسه، أيضاً، بأنه نموذج الحكم العلماني المدافع عن الأقليات.

 

 

وعلى رغم الاختلاف الكبير بين دولة «داعش» ودولة الحزب الكردي، من حيث المرجعية الإيديولوجية والأهداف، فأوجه شبه كثيرة تجمع بينهما وتجعلهما تبدوان وكأنهما توأمان خرجا من بطن واحد.

 

 

كان قادة الحزب الكبير وأنصاره معتقلين عند النظام، حالهم حال القادة والأنصار في دولة العراق والشام. فلما فجّر السوريون ثورتهم وأدرك النظام عجزه عن كسر الثورة، وسعياً في الالتفاف عليها وتقليص دائرة المنضوين فيها، عمد من دون إبطاء إلى إطلاق سراح المعتقلين لديه من خصومه السابقين.

 

 

كان أنصار الحزب الكردي، من قبل، أعضاء في حزب العمال الكردستاني الذي استعمله النظام ورقة ضغط على تركيا منذ زمن طويل. وقد أقام الحزب قواعده في المدن السورية وأنشأ معسكراته في منطقة البقاع اللبناني الذي كان خاضعاً لسيطرة الجيش والمخابرات السورية. وكان زعيم الحزب، عبدالله أوجلان، يقيم في شقة محروسة في اللاذقية. وحين هددت تركيا بالقيام بعمل عسكري وشعرت السلطات السورية بجدية التهديد، عمدت إلى طرد أوجلان وأغلقت معسكراته. وتحسنت العلاقات بين الجانبين حتى توّجتها صداقة شخصية متينة بين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد. ووجد أنصار الحزب الكردستاني أنفسهم وراء قضبان سجون الأسد، فيما انتهى الحال بأوجلان سجيناً مؤبداً في جزيرة إمرالي في بحر إيجه.

 

 

غير أن ثورة السوريين غيرت الكثير من الوقائع. لقد تحطمت صداقة أردوغان والأسد وتحولت تركيا من دولة حليفة شديدة الوثوق إلى أكثر البلدان حماسة في مواجهة الحكومة السورية وإجراءاتها الجهنمية في الفتك بالسوريين. وكان هذا الوقت المناسب للعودة إلى الأوراق القديمة التي لا يوجد في الأرض من يتفوق على النظام السوري في حسن استخدامها والاستفادة منها في أوقات الضيق. ووجد نفسه صالح مسلم، رئيس النسخة السورية من حزب العمال، شأن سواه من رفاقه في الحزب، طليقاً. بل إن السلطات السورية طلبت إليه السفر فوراً إلى جبل قنديل في كردستان العراق للاجتماع إلى قادة حزب العمال الكردستاني. ولم يمر وقت طويل قبل أن يعود ومعه المئات من المقاتلين مع أسلحتهم. وجرى منحه جواز سفر وصار يسافر، من مطار دمشق أو بيروت، إلى عواصم العالم ويشترك في المؤتمرات وأصبح هو وحزبه ورقة صعبة على الساحة السياسية السورية.

 

 

كان الكرد السوريون يشاركون بقية السوريين نزوعهم الى التمرد على واقع الحال والسعي في التخلص من استبداد الحكم البعثي. غير أن ظهور حزب الاتحاد الديموقراطي المفاجئ وانتشاره السريع وتعزز قوته وتسلح أنصاره شكلت ما يشبه قوة ردع هائلة أمام الحراك الكردي. وعمد الحزب إلى وضع ما يشبه الجدار العازل أمام التحام الكرد مع بقية السوريين، وصار يلاحق الناشطين ويضرب المتظاهرين ويقمع المخالفين لأوامره، وقد أقام نقاط تفتيش مشتركة مع قوات الأمن السورية وأنشأ سجوناً يزج فيها من يشتبه في تواصلهم مع ثورة السوريين.

 

 

وينهض خطاب الحزب الكردي على مقولة ثابتة يكررها في كل لحظة تقوم على اعتبار الائتلاف الوطني السوري عدواً لدوداً تنبغي محاربته بكل قوة (وهذا ما تفعله دولة «داعش»). وهو يقف جنباً إلى جنب رجال الأمن السوري والجنود السوريين في حماية مقرات الأمن ومكاتب حزب البعث، تساعده في ذلك مجموعة من الشبيحة المحلية المكونة من العشائر العربية الموالية لحكومة بشار الأسد.

 

 

يبدو وكأن الحكومة التي أقامها الحزب هي هدية السلطة له على حسن قيامه بدوره في ردع الكرد والسيطرة بقوة السلاح على ميدان الناشطين والقيام بكل ما يلزم للحيلولة دون خروجهم من تحت السيطرة. ولأن السلطات السورية تملك الملفات الكاملة عن منتسبي الحزب وتعرف الطريقة التي يتصرفون بها، وشغفهم المرضي بالشعارات الطنانة وحبهم للاستعراض، فإنها لم تجد ما يمنع السماح لهم بحشد الأنصار ورفع الأعلام ومن ثم الإعلان عن قيام حكومة هي أشبه بحفلة أطفال في عيد «الهالوين».

 

 

مضحكة الطريقة الكاريكاتورية التي أقيمت فيها هذه الحكومة حيث أدى «الوزراء» القسم برفع أيديهم على طريقة هتلر ووقفوا في صف طويل مثل تلاميذ المدارس. وحين يجد النظام أن وقت الهزل انتهى، فلن يجد صعوبة في تفكيك هذه الحكومة الكاريكاتورية مثلما يفكك المرء علباً من الكرتون. ومن يدري، فقد يجد الوزراء الأفاضل أنفسهم في طائرة تنقلهم إلى جهات بعيدة مثلما جرى للسيد عبدالله أوجلان الذي طاف في مطارات أثينا وروما وموسكو وكينيا قبل أن يحط به الرحال في سجن إمرالي الشهير.

 

نزار اغري