رأس«داعش» في سورية على نار … هادئة

28

الانفجار الشامل والكامل في المنطقة ليس رهناً بموعد واحد. ليس مرتبطاً بالرابع والعشرين من الشهر الجاري، الموعد المبدئي لمعرفة مستقبل الملف النووي الإيراني. هو مرتبط أيضاً بمستقبل الحرب على «الدولة الإسلامية». والمخاوف من انهيار المفاوضات الدولية مع طهران لا تقل عن المخاوف من أن ينتهي التحالف الدولي – الإقليمي إلى مصير مماثل لتجمع «أصدقاء الشعب السوري». لا شك في أن ما قبل الموعد المنتظر سيكون مختلفاً تماماً عما بعده، سواء انتهت المفاوضات بين الجمهورية الإسلامية والدول الست الكبرى إلى اتفاق أم لم تنتهِ. والذين لا يرغبون في تمديد المهلة ثانية قد لا يجدون مفراً من تقديم تفاهم وإن جزئياً يتيح وقتاً إضافياً لمزيد من البحث والنقاش. بضعة أيام ويبين الخيط الأبيض من الأسود بعد اللقاء المرتقب في سلطنة عمان بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع نظيره الأميركي جون كيري ومفوضة الشؤون الخارجية الأوروبية كاثرين آشتون التي تأمل بإنجاز هدية قبل مغادرتها منصبها.

الواقع أن ما تشهده المنطقة من انفجارات، وأخطرها الصراع المذهبي، مرشحة للاستمرار حتى وإن احتفل المتفائلون باتفاق على الملف النووي الإيراني بعد أسابيع. كانت النار هنا وهناك في جانب منها جزءاً من آليات الضغوط المتبادلة بين المتصارعين. وستظل كذلك، وقد تتفاقم عندما تفتح الملفات الإقليمية وتوضع على الطاولة. لذلك لم يبشر أحد من اللاعبين بنهاية قريبة للحرب على «دولة الخلافة». الولايات المتحدة حددت منذ البداية أن العراق هو الميدان الأول لهذه الحرب. استراتيجيتها الآن تنصب على ضرب «داعش» في هذا البلد. أما المسرح السوري فالمواجهة فيه هي لخدمة هذه الاستراتيجية. والهدف من فتح معسكرات تدريب لفصائل المعارضة المعتدلة وتسليحها لا يتجاوز تمكين هذه القوى من الدفاع عن مواقعها الحالية في وجه التنظيم. والحؤول ما أمكن دون إفادة النــظام في دمـــشق من قضم بعض مواقعه.

لا يرغب الرئيس باراك أوباما في فتح ملف مصير نظام الرئيس بشار الأسد الآن. وزير خارجيته جون كيري كان واضحاً في الرد على المشككين في جدوى السياسة المعتمدة حيال سورية، سواء كانت «فوضى استراتيجية» كما عبر بعضهم، أو كانت معرضة للفشل بسبب «الالتباس»، كما حذر وزير الدفاع تشاك هيغل. أكد كيري أن دعم المعارضة هو للتأثير على صنع القرار لدى الرئيس بشار الأسد، من أجل العودة إلى التفاوض على اتفاق سياسي. وكرر ما يكاد معظم الأطراف يجمع عليه وهو أن لا حل عسكرياً للأزمة السورية. وقدم المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في أول إحاطة إلى مجلس الأمن خطة تحرك للعودة إلى جنيف لقيت ترحيباً حتى من مندوبي روسيا وسورية في نيويورك. بالطبع لا يمكن الإدارة الأميركية الركون إلى عامل الوقت. أي الانتظار حتى تتهيأ الساحة للحل السياسي. ثمة دينامية خاصة بكل أزمة، كما هو معروف. وثمة ظروف ومعطيات قد تطرأ وقد لا تكون في الحسبان. أو قد تحدث مفاجأة كتلك التي شكلها «داعش» في العراق.

الحرب الحاسمة على «الدولة الإسلامية» في سورية مؤجلة إذاً. لن تبدأ أياً كانت نتائج المواجهة في كوباني. هذا ما تحمله مواقف المسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا. عين العرب باتت في قلب المساومة التركية – الأميركية والتركية – الكردية. وبدأت تبدّل في صورة المشهد والعلاقات بين أنقرة والكرد، وبين ائتلاف المعارضة السورية و»حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» الذي كان متهماً بأن حياد «إدارته الذاتية» في مناطق شرق البلاد يخدم النظام في دمشق بقدر ما يضعف الائتلاف الوطني. الحرب في كوباني تدفع نحو ترتيب الكتلة الكردية واصطفافها تحت راية التحالف والائتلاف معاً. ولم تكن التهدئة بين أنقرة و»حزب العمال الكردستاني» هي الضحية كما توقع كثيرون. مسلم صالح لم يعد لاعباً وحيداً في هذه المدينة. صار له شركاء كثر في الداخل وفي الجوار.

على رغم ذلك، لا يخفي المسؤولون الأميركيون، وعلى رأسهم وزير الدفاع، أن مكانة الرئيس الأسد ستتعزز من نتائج الحرب على «داعش». ولعل دمشق تنظر بعين الرضا ما دام أن الأولوية لضرب التنظيم وليست لتقويض أركان النظام وإطاحته. ويزداد رضاها وهي تراقب التشظي الذي لا يزال يصيب فصائل المعارضة العسكرية، وآخرها ما جرى ويجري في مناطق إدلب وحلب. ويزداد رضاها وارتياحها الحذر وهي تسمع أن ما يعني الولايات المتحدة مباشرة هو مواصلة الحرب على الإرهاب. وهذا ما تعهد به الرئيس أوباما بعد سلفه الرئيس جورج بوش الابن. إدارته ليست في عجلة للانخراط في تغيير النظام السوري. كما لم تفعل بعد خروجها من العراق على رغم اعتراضاتها على سياسة نوري المالكي رئيس الحكومة السابق. وكان مثيراً لئلا نقول مريباً ما كشفه مستشار الأمن القومي الأميركي تونس بلينكن. قال إن واشنطن حضت بغداد قبل عام من سقوط الموصل بيد «داعش» على التحرك سياسياً باتجاه العشائر ومحاربة التنظيم، لكن زعيم «دولة القانون» «لم يصغ ولم يتحرك». بل لم يعر تحذيرات رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني مما يحاك للموصل اهتماماً. الأميركيون مسؤولون كغيرهم إذاً عما آل إليه الوضع في العراق. يقولون إن التنظيم يشكل خطراً على أمن بلادهم وسلامها ومصالحها وهذا ما دفعهم إلى الحرب عليه. لماذا انتظروا سنة ليتحركوا؟ وهل تأجيل قتاله في سورية يجعلهم بمنأى عن مخاطره؟ وما داموا حذروا المالكي قبل سنة فلماذا إذاً فوجئوا؟ أم أن المفاجأة مردها إلى حجم التنظيم وقوته وسرعة نهوضه وانتشاره؟

في أي حال، أن رضا دمشق قد لا يطول. وكذلك عزوف الولايات المتحدة عن فتح الميدان السوري. فضرب «داعش» في العراق سيعني بالضرورة رحيل آلاف المقاتلين من التنظيم غرباً. لن تكون أمامهم وجهة أخرى غير سورية. وإذا استعصت عليهم كوباني واستعصى عليهم الحفاظ على ما غنموا غرب العراق لن يبقى أمامهم سوى التوجه نحو حلب التي صرحت داوئر أميركية وأوروبية ودولية أنها الهدف الأساس والمقبل وليس عيــــن العرب. وربما فسر هذا، بين أسباب أخرى، استعجال «جبهة النصرة» الحسم مع «جبهة ثوار سورية» للسيطرة على ريف إدلب. ويتوقع متابعون عسكريون أن تفتح هذه المعركة الشمالية مع استكمال بناء مسرح العمليات فـــي القنيطرة ودرعا، للتقدم نحو دمشق من جـــنوبها وغربها. علماً أن التطورات في الجبهة الجنوبية كانت لافتة في الأسابيع الماضية: تقدمت فصائل المعارضة، خصوصاً «النصرة» سريـــعاً فـــي هذه المنطقة. أفادت من انشقاق آلاف الضباط والجنود السنة، وتعززت بوصول مئات المقاتلين المدربين، وبغض طرف من إسرائيل. وغنمت عشرات الدبابات والعربات الثقيلة. وهذا ما يعزز قدرتها على مقــــارعة جيش النظـــام الذي لا يخفى أنه بات منهكاً بعد نحو أربع سنوات من القتال المتواصل. فضلاً عن الخسائر الكبيرة التي مني بها في العديد والعتاد.

على رغم هذه التطورات، ثمة مسؤولون سياسيون وعسكريون في الإدارة تراودهم شكوك في تسليح الفصائل المعارضة. ما لا يصرح به هؤلاء هو أن هذه الفصائل عددها بالمئات. وأثبتت تجربة السنوات الأربع الماضية أنها لم تستطع بناء جسم واحد. ويتحدثون عن ولاءات واختراقات في صفوف معظم هذه. ويخشون الركون إليها، أو ضمان عدم انتقال الأسلحة المنتظرة إلى الأيدي الخطأ. لكن احتمال تحقيق المعارضة، المعتدلة وغير المعتدلة، تقدماً ذا معنى في الجبهتين الشمالية والجنوبية سيدفع واشنطن إلى إعادة النظر في موقفها من الأزمة السورية. وسيدفع النظام إلى إعادة النظر في حساباته… إلا إذا تمكن من مواجهة الحملة المتوقعة. وفي كلا الحالين لن تكون إيران بعيدة عن أي خطوة بعدما تحولت الفاعل الأول والأكبر في إدارة المعركة، عسكرياً وسياسياً ومالياً. وهو ما استنزف قدراتها على الإنفاق في أكثر من ساحة في المنطقة العربية. ولن تسلم طهران حتماً بالهزيمة في سورية لأنها ستخسر لبنان أيضاً. يكفي ما ألحق «داعش» بصورتها في العراق. وكانت دفعت حلفاءها من لبنان وغيره لمنع سقوط بغداد قبل سنتين.

قد لا تبدو العودة إلى جنيف، كما يرغب جميع اللاعبين الدوليين، صعبة إذا كانت ستضمن لطائفة النظام مستقبلها وحصتها كما لجميع المكونات، وحصة الجمهورية الإسلامية التي قد ترغم على التخلي عن الأسد كما تخلت عن المالكي، على أمل أن يبقى لها موقعها في هرم السلطة البديلة. لكن واشنطن لا تبدو الآن وربما غداً معنية بفتح حرب مع إيران في شأن نفوذها أو حضورها الإقليميين. بل هناك من يرى أنها راغبة في أن تكون طهران شريكاً وطرفاً في ملء الفراغ الذي سيخلفه خروجها من المنطقة. قبل أيام كان الحوثيون يهاجمون مواقع ومناطق ينتشر فيها تنظيم «القاعدة». والجيش اليمني يساعدهم، وكذلك الطائرات الأميركية من دون طيار. اكتفت أميركا مع مجلس الأمن بمناشدة عبد الملك الحوثي إعادة الأوضاع إلى ما كانت، والانسحاب من صنعاء وتسليم ما غنم من أسلحة إلى العسكر! كأن الرجل الذي زحف من صعدة ويكاد يسيطر على كل اليمن سيستجيب نداءاتها وهو يرفع في أعلامه وراياته «الموت لأميركا»!

 

جورج سمعان – الحياة