رسالة إلى أنور رسلان: أنت الآن حرّ!

47

ما وقد صدر حكم القضاء عليك، ووضع سطر تحت حياتك السابقة، كتبت أسفله نتيجتها، وهي السجن المؤبد، فإنني سأكتب لك هذه الرسالة المفتوحة بوصفك إنساناً جمعني به ظرف تاريخي عاصف، غير حياتَينا، وحياة شعبنا ومنطقتنا إلى الأبد، داعياً إياك للإقبال على الحياة.

فسواء كان الحكم الذي أنزل عليك، مستحقاً أم لا، من وجهة نظرك، فإن وجودك على قيد الحياة يستحق منك الامتنان، وعدم ترك نفسك فريسة للعدمية السوداء، والمرء يستطيع تحت كل الظروف أن يفعل شيئاً، ومن كانوا في الزنازين التي كنت تديرها في فرع الخطيب ذات يوم، تمكنوا عبر اختزان بضع ذكريات ومشاهدات، أن يودوا بك وراء القضبان لسنوات طويلة، فلماذا لا تستخدم ذاكرتك لتفتح نافذة على العالم وعلى السوريين وعلى الآتي من التاريخ؟

عندما التقيت بك بوصفي معتقلاً، وبوصفك رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب، في تلك الليلة الباردة من شباط 2011، كنت في قمة مجدك وتثق بأن أقدارك تسوقك إلى المنصب الرفيع الذي تحلم به بلا شك، وهو رئاسة جهاز أمن الدولة في سوريا، بوصفك ألمع ضابط في تلك الإدارة التي خططها حافظ الأسد لتكون من نصيب ضابط سنّي على وجه الحصر. وكنت تحسب خطواتك بمسطرة صارمة، على ما رأيت، وما أظنك تخيلت للحظة، ولا أنا تخيلت، أن أراك بعد عقد من الزمان في صباح  بارد آخر من صباحات كانون الثاني الأوروبية، وراء القضبان، معتقلاً بجهود معتقليك السابقين، وينزل بك قضاة كوبلنز حكمهم المدوي.. الحياة تحتمل الكثير من الخيال، أكثر مما نتخيل بكثير.

بدأت حياتك في بلدة الحولة كـ”ابن ضيعة”، طموح وجاد. دراستك للفرع الأدبي قادتك بعد الثانوية إلى كلية الحقوق، وتخرجت بلا تأخير. أُعلنت فجأة دورة لمدراء النواحي في كلية الشرطة، فقُبلت فيها بفضل القسمة الطائفية التي أرساها حافظ الأسد، فوزارة الداخلية هي جائزة تعويض للسنّة، نظير استئثار العلويين بالجيش وأجهزة الأمن.

اغتنمتَ الفرصة التي جاد بها القدر، ودرست بجد لتتخرج بمرتبة “ميجور” دورتك، وبينما تم فرز رفاقك قليلي العدد إلى شرطة المرور والأمن الجنائي والسياسي وغيره، استُبقيت أنت في كلية الشرطة كمدرّب، وهذا لم يكن جيداً بالنسبة إليك، فهو يعني أنك ستبقى في وظيفة تكرارية مملة حتى تبلغ رتبة الرائد، فتُفرز حينها كمدير ناحية في إحدى المناطق السورية المترامية.

عندما بلغت رتبة النقيب، قرر شخص ما في مُخيخ النظام، تطعيم الأجهزة الأمنية بدماء جديدة، واختيرت حفنة من الضباط الأكثر ولاء، وفق تقسيم عشائري، بالنسبة للطائفة العلوية، وعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من الضباط الشبان السنّة والدروز والمسيحيين، من الأكثر كفاءة، وكنتَ أحدهم.

لم تفوِّت هذه الفرصة أيضاً، وسرعان ما أصبحت الضابط الأكفأ في قسم التحقيقات بفرع الخطيب، ثم رئيس القسم. كيف حدث هذا؟ في الواقع يصعب عليّ تصوّر أنك توصلت لنتائج مهمة من تحقيقاتك بأساليب عقلية محضة، ولا يخامرني الشك في كونك استخدمتَ التعذيب. لكن إسناد قضايا عالية الأهمية والتعقيد إليك، مثل التحقيق في اغتيال عماد مغنية، واغتيال العميد محمد كامل مستشار بشار الأسد، يوحي أيضاً بأنك لم تكن تستنبط كل نتائج تحقيقاتك بالكابل الرباعي، كان لديك عقل أمني ممتاز.

بحثتُ مع زملاء لك انشقوا أيضاً، في ما إذا كنت مرتشياً، فنفوا ذلك بالمطلق، وأكدوا أنك حين غادرت موقعك لم تكن تملك ولو جزءاً يسيراً من الثروات التي يتمتع بها أمثالك، والشهود القلائل الذين قالوا إنك ساعدتهم، والمُدّعون أيضاً، لم يذكروا شيئاً من هذا. كنت تكتفي بالميزات التي يمنحك إياها موقعك الحساس، وهي ليست قليلة على كل حال، لكنها ليست غنيمة أيضاً.

كنتَ تسعى إلى القوة والسلطة والمجد، لكن في زنازين فرع الخطيب، ومن معرفتي الشخصية بك، أشك في أنك كنت تقبل بأن ينتزعَ اعترافاتِ مطلوبٍ ما، عنصرٌ في الطبقة القائمة أسفل مكتبك، ليرفعها إليك في تقرير، كما أشرت أنت إلى ذلك في المحكمة. اهتمامك الشخصي يمنعك من ذلك. وقد أخبرني منشقون آخرون، أنك كنت تغادر الفرع إلى بيتك، مرة كل ثلاثة أيام، لمدة ساعات فقط، وتقضي ما تبقى في عملك التحقيقي الدؤوب الذي كان يقطف ثمراته في النهاية مديرُك اللواء توفيق يونس. أسلوب عملك هذا، الذي يقتضي إلماماً شديداً بأدق تفاصيل القضايا التي تنظر فيها، يوحي، في آن واحد، بالمثالية والساديّة، ما يجعل احتمال لجوئك لتعذيب المعتقلين عالياً.

لا يمكنني الجزم بصحة روايتك التي سردتها، في بيانك الختامي في محكمة كوبلنز، بتقييد صلاحياتك إبان الثورة. ثمّة من قال إنك عذبته، ولا أستطيع تحديد دوافعك للانشقاق. لكن ما أنا على يقين عالٍ منه، أنك أدرت ظهرك للنظام يوم انشققت عنه، بشكل كامل، وأن أقصى أمانيك كانت أن تنجو من عقاب أجهزته الأمنية ونقمة الثوار، وقد أصبحت في مأمن من الأول، لكنك ذهبت بقدميك إلى السلطة الألمانية التي اعتقلتك وقدمتك للمحاكمة جزاء انتهاكاتك بحق المعتقلين.. الحق حق.. هل ترى؟!

لنعُد إلى لقائنا الأول، في غرفة التحقيق تلك التي ما زالت حتى اليوم تعبق بدماء المعتقلين وتضج بأنينهم. قلتَ لي بأنك كنت تحلم بأن تصبح كاتباً، وأنك في الواقع تفعل ذلك كل يوم في عملك، وأضفت ضاحكاً: لكن.. فيما تحلمون أنتم بانتشار كتاباتكم، نحلم نحن بأن تصنف كتاباتنا تحت بند “سري للغاية”. وانظُر الآن، ها هي الحياة تواصل كرمها معك، وتمنحك الفرصة التي يحلم بها أعظم الكتّاب: قضية كبرى، شهرة بلغت حد العالمية، تجربة عميقة في سراديب واحد من أخطر الأماكن في العالم، حدث مثير واستثنائي، ولغز لا أحد يفككه سواك، هو لغز هذا الكيان المرعب “مخابرات نظام الأسد”.

عندما دعوتك لكتابة وإعلان تاريخك في أجهزة الأمن عقب انشقاقك، تذرعت بالفرصة والوقت، وأعتقد أنك قصدت الشعور بالأمان والاستقرار. وها أن لديك وفرة من ذلك كله، خمس عشرة سنة، مكتب منعزل وآمن، دفء وطعام أفضل بكثير من ذاك الذي كنت تطعمنا إياه في زنازين فرع الخطيب، وذاكرة متقدة إلى جانب قدرة استثنائية على التحليل والربط، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ وما الذي يمنعك من وضع شهادتك الحيّة عن الجوهر الصلب لواحد من أسوأ الأنظمة التي عرفها عالمنا؟

لقد تمّ الاقتصاص منك، ولم يبق لأحد شيء في حسابك، وأنت الآن في السجن حرّ، فلا تكن جَحوداً لما حبتك به أقدارك، وأتمم واجبك، الذي قد لا يكون الأخير.

الكاتب:عبد الناصر العايد

المصدر:صحيفة المدن