رهان الثورة المنسيّ بين الكفاءة والأخلاق…

12

1322791016588411_30300

 

عندما تخسر الثورة أهدافها التي انطلقت من وضوحها وصدقيتها لدى الجماهير الأوسع، فإنها تتساقط إلى مستوى الصراعات الفرعية، كما يتحول أفرادها إلى عناصر مؤسسة لمسلسلات الشراذم والفئويات العارضة. وأما قادتها ينقلبون إلى ما يشبه سماسرة البضائع المستهلكة، تتقاذفهم عتبات السفارات. ذلك هو المشهد الكئيب، وذلك هو المصير البائس الذي يتبقى للأحلام الكبيرة، لكنها المتحايلة على واقع الفشل الذي تردت إلى هاوياته، دون التجرؤ على الاعتراف بالحدود الدنيا من محصلة التجربة سيئة الحظ، والمهددة بأن توصف بسوء المصير النهائي كذلك. ليست هي الحرية التي عليها أن تتحمل أعباء الهزيمة التي تكاد تُبتلى بها تلك الثورة السورية المجهضة التي ادعت خوض الصراع مع الطغاة الحاكمين بإسمها. والحقيقة هي أنه لم يتبق لشرفاء القضية إلا المجاهرة بالفارق العظيم بين ما تتطلبه ثورة صادقة من أجل الحرية ومقتلة لا انسانية أخرى تختطف العنوان والشعار، وتبتدع واقعاً كارثياً، يتخطى بفظاعاته المستجدة تراث الطغيان من أوحش الكوارث.

منذ ثلاث سنوات تعيش معظم النخب العربية على إيقاع أخبار الثورات. تعاني مويجات من تفاؤل لا تلبث أن تبددها مويجات أخرى من التشاؤم والتحسر والغضب أحياناً، هذه الحال لم تدم طويلاً ما أن دخلت ‘الثورات’ في أنفاق متاهاتها المصيرية. مما أفقد الرأي العام العربي حماسة التأييد الفوري لما كان يسمى إنجازات التغيير الشعبي الجارية في كنف المعارك الثورية في هذا القطر أو ذاك؛ فماذا حدث حقاً حتى كاد الربيع العربي أن يتخلى عن التباهي برصيده من المصداقية التي كانت له في نفوس الأكثريات العظمى، ليس من قبل المراقبين السياسيين أو الإعلاميين فحسب، بل من لدى حاضنته الأوسع من جماهيره العربية، ومن بعض الأوساط العالمية؛ كأنما لم يعد ‘أصدقاء’ الربيع قادرين على اختراع الأعذار وابتكار المسوّغات لانحرافات ‘الممارسة الثورية’. فلم تعد مجرد أخطاء متفرقة أو عابرة. صار الإنحراف أشبه بمسلسل متواصل، متناسل من بعضه. احتلت وقائعُه خاناتِ إنجازات الثورة كلها بديلاً عن نجاحاتها المأمولة.
ما أن امتصت العسكريتاريا مضامين الإنتفاضات الشعبية حتى أصبح مصير هذه الإنتفاضات خاضعاً لشرطين دخيلين عليها. هما المال والسلاح. ما يعني واقعياً أن الشعب الثائر: الفقير أصلاً من المال والسلاح، لن يكون قادراً على تعبئة نفسه قتالياً، إن لم يتقبّل المعونة المادية واللوجستية من غير مصادره الذاتية. ولهذا تضطرالثورة إلى التنازل عملياً عن حاضنتها الأصلية من هذه الجماهير الواسعة، في حين تلجأ إلى التعويض عنها، بإنشاء الفئويات الأصغر والأقل، لكنها القابلة للإعداد العسكري. هكذا إذن ينحدر الحراك العام من صيغة ثورة الشعب، إلى صيغ الفئويات المقاتلة، أو المليشيات المسلحة. هذا التغيير لا يطال مسألة التسلح ومصادره أو عدّته فحسب، بل يشمل انقلاباً في طبيعة الصراع نفسه. هذا الانقلاب الفئوي أو الميليشاوي سوف يخسر كل ادعاء بالانتماء إلى مظلة الهوية الكلية التي تتمتع بها طبيعة الثورة الشعبية الشاملة عادة. سوف ينطبق عليه التوصيف العامي وهو أنه تنظيم فاتح على حسابه الخاص. ويصدق هذا التصنيف يومياً من خلال اضطراب الممارسة العملية، إذ يصبح كل تكوين ميليشاوي مرتهناً بأهواء قادته أو رجاله المتنفذين وعلاقاتهم الخارجية. ويغدو النسيج الميليشاوي المؤلف من عديد التنظيمات المتناحرة فكراً وسلوكاً..وتمويلاً، غارقاً تحت ضباب صراعاته الجانبية أكثر مما هو منشغل بالعدو الواحد المشترك للأطياف هذه. فما تفعله فئويات ليبيا والعراق، وسورية خاصة، هو أن معظمها ينحدر إلى تكوينات العسكرتاريا المرتزقة، التي هي برسم التأجير لمصادر الإيديولوجيات المتطرفة وأموالها المتدفقة، من دول أو أفراد وجمعيات. وكانت سوريا هي الحقل الأوسع والمستدام لأدهى تجارب هذه التحولات الكارثية. كأنما كان الرهان القدري الأخفى والأظهر هو في جعل ربيعها المنكوب متحفاً عصرياً جداً لنماذج كوارث التاريخ الإنساني وفظائعه المطلقة منذ بربريته الأولى.
الثورة والعسكرتاريا نقيضان في تاريخ الكفاح الديمقراطي، هذا بالرغم من مراهنة البعض، من الذين يتقبلون الصيغة الثنائية، أملاً في أن تقود الثورةُ العسكرتاريا، وليس العكس؛ لكن هذا العكس هو الذي يتحقق عملياً في المنعطفات الأولى من الانتفاضة الشعبية؛ هذا هو الما يحدث المتواتر في تجارب الأمم الصاعدة. فحين أشار حلفاء النظام السوري، من روس وإيرانيين، على الطاغية الشاب الصاعد بشار الأسد، أن يُنزل القوى الأمنية الضاربة إلى ساحات الصراع الثوري السلمي، كان الأمر المتوقع آنذاك أن ينسحب الجمهور الأعزل من خطوط المواجهات مع القمع الناري. بل كانت النتيجة الأخطر لهذا المنعطف هو أن شباب الثورة اصطدموا سريعاً بالحائط العالي إزاء خياراتهم: إما التخلي الكلي عن مشروع الثورة، أو الانتقال إلى ضرورات المقاومة المسلحة. وهم ليسوا معدّين أصلاً ليكونوا مقاتلين في صفوفها. فانتقلت قيادة الشوارع الثائرة إلى العسكريين الوافدين من الجيش.
لم تخسر الثورة سلميتها أو عفويتها فقط، بل كأنها تنازلت طوعاً عن هويتها التاريخية لتتحول إلى أشبه ما يكون بإنقلاب عسكري، بانشقاق أفراد أو كتل من ضباط وجنود الجيش السوري نفسه. لكي يحاربوا قطاعاته الأخرى. وأما من تبقّى من المدنيين في الجبهات المفتوحة فمصيرهم بات محدداً أن يكونوا أشبه بالمجندين المتطوعين، وهم في طور التدريب والإعداد للعسكرة المفروضة عليهم شاؤوا أم أبوا. إنه التحول في الهوية التاريخية والبنيوية لما يسمى عادة بالثورة الشعبية. وهو المفصل الخبيث الذي نصبه النظام لكي يبرر مشروع عنفه غير المسبوق الذي سيواجه به الجماهير الغاضبة؛ سوف يجيز لنفسه أن يعلن حرباً حقيقية على الشعب، تحت صورة قمع الدولة للخارجين على القانون، للمسلحين المرتزقة. لكن حرب النظام تلك لم تبق محتكرة لإرادته وحدها. بل سوف تستدعي أصناف المقاتلين الوافدين من خارج حدود البلد المنكوب، ومعهم من هبّ ودبّ من المغامرين وعملاء المخابرات الأجنبية والعربية. وقد أمسى هذا الصراع واحداً من أخطر فصول لعبة الأمم للقرن الواحد والعشرين. وذلك باعتراف سادة الرأي العام الدولي، هؤلاء الذين دأبوا يومياً على توصيف وتعداد مجازر النظام وبعض أعدائه في وقت واحد، لكنهم في الوقت عينه يعتذرون عن كونهم لا يمتلكون أية حلول لوقف الكارثة، وليس التدخل لمعاقبة النظام الذي نفذ كل أصناف الجرائم الموصوفة ضد الإنسانية، مبرهناً لحراس القانون الدولي أن هذه الأنواع القصوى من الجرائم المطلقة هي الموجودة فعلاً، وهي الممكنة في كل حين؛ أما قانونهم فهو غير الموجود دائماً إلا بألفاظه وأوراقه الكئيبة.
هكذا أبطل ‘المجتمع الدولي’ خلال السنوات الثلاث المنقضية، مفاعيلَ كل النداءات العربية والعالمية للتدخل الفعلي ضد طواغيت الإجرام في سوريا. ومن بعده أبطل هذا المجتمع الدولي نفسه نداءات التدخل لوقف الحرب المجنونة. وها هو في المرحلة الثالثة أخيراً يُبطل حتى حق التدخل الإنساني للغوث، لإنهاء حرب التجويع والتهجير والتخريب المدني الممنهج؛ وها هو رئيس هذا المجتمع الدولي، أوباما يتكرّم على العرب، بزيارة أحد أوطانهم الكبيرة، كأنه يأتينا شاكراً انصياع قادتنا لأمره الإمبراطوري المتمادي منذ بداية الكارثة بالمساعدة الموصوفة في تطبيق استراتيجيته ‘السلمية’. فلقد استطاعت هذه الاستراتيجية أن تمحو كل خطوط الفصل والانقطاع ما بين صنفيْ أصدقاء الثورة وأعدائها. بحيث أنها لم تغير قيد أنملة من مفردات هؤلاء الأعداء، أما ‘ الأصدقاء’ فقد جعلتهم ينوبون عن الأعداء الظاهرين، في تدمير الثورة والثوار من وراء ظهورهم.
ما انتهى أوباما به وإليه من هذه الاستراتيجية الانتصارية هو أن خياره بالدبلوماسية ونفاقها، ليس المطلوب منه أن يحل المشكلات الدولية، ولا أن ينصر أو ينتصر لأية شعوب مغلوبة على أمرها. بل كل ما نريده من مظاليم العالم هو أن يتعايشوا مع نكباتهم، ما داموا عاجزين عن حلها بكفاءاتهم وحدها. وهذا ما أعادت ‘الجامعة العربية’ في قمتها الأخيرة تثبيته في عقول حكامها من جديد. فالمسألة المركزية في ثقافة الأمر الواقع الأمريكي، عبر شتى رئاسات البيت الأبيض، هو أن الكفاءة تسبق الأخلاق. ومن لا يملك الأولى لا يحق له حتى أن ينصب نفسه حكماً في أمور الخير والشر، بالنسبة له أولاً، وللآخرين فيما بعد. لكن العرب، من صنف أولئك الحكام، لن يكفوا عن تكرار تلك الحكمة، وإن أفرغوا حدَّيْها معاً، الكفاءة والأخلاق، من أبسط معانيهما الواقعية، وليس الحقوقية فحسب.
هل يعي العرب بعض الدروس من خيباتهم، هل يدركون حقاً أن العـــالم الخارجي لن يقدّم لتاريخهم المعاصر سوى الأفخاخ المقنّـــعة تـــحت التسميات السياسوية والتنموية ـ والتضامنية.. إلخ. هل يتحرر ثوار اليوم قبل الغد من سطوة القاعدة العتيقة في التسويغ لكل ما يبرر استدعاء الخارج لتغيير بعض الداخل.
ألم يَحنْ أوانُ التخلص من ثقافة تحالفات الضرورة. فلا ضرورة حقيقية وشرعية إلا للحرية، فهي وحدها تبني معايير التوافق والتكامل بين الكفاءة والأخلاق وتحديداً في ظل عصر الثوريات الواعدة حقاً لتقويض ممالك الطغيان في النفوس، وليس في العروش وحدها. كيف تعلمنا ثورةٌ من أجل الحرية أن نكون أحراراً مع أنفسنا أولاً!

 

مطاع صفدي