“زواج القاصرات”.. عادة متبعة إلى الآن في كثير من المناطق السورية أسهمت الحرب الدائرة في اتساعها وتسببت بتزايد حالات الانفصال

87

مع بداية أحداث الثورة السورية التي مضى على انطلاقها أكثر من عقد، بدأت تظهر العديد من الظواهر السلبية في المجتمع السوري والتي كان بعضها عادات قديمة، منها عشائرية ومنها ريفية وساهمت الأحداث الجارية في بروزها مجدداً بشكل أكبر عن سابقه، وبعض من هذه الظواهر تحدث نتيجة اختلاف جهات السيطرة ودخول أجانب من جنسيات مختلفة إلى سورية.
ومن بين هذه الظواهر “ظاهرة تزويج أو زواج القاصرات” التي كانت عبارة عن عادة قبلية عشائرية تنحصر في بعض المناطق السورية الريفية، إلا أن الحالة أصبحت منتشرة في شريحة واسعة من المجتمع السوري لعدة أسباب في مقدمتها سوء الأحوال المعيشية لغالبية العوائل وما خلفته تبعات الحرب من فقدان الأمن وحركات النزوح والتهجير والتي أسهمت بقبول تزويج الفتيات إلى جانب استمرار بعض المناطق السورية في اتباع عاداتها وتقاليدها التي تحتم زواج الفتاة في سن مبكر بسبب الثقافة العامة في هذه المناطق والنظرة الخاطئة تجاه الفتاة.
الناشط الحقوقي ( م.أ ) والمقيم في ريف إدلب الشمالي في حديثه للمرصد السوري يقول، أن العامل الأساسي والأهم الذي ساهم في ارتفاع نسبة زواج القاصرات في سوريا ولاسيما في الشمال السوري هو عامل”الفقر” بحيث يتم غالباً البحث عن فتاة لشاب وبعد زواجهما يتوجهان للعمل وهذا ما يسعى إليه الكثير بأن يكون في العائلة فرد آخر ليزداد المدخول الشهري، وفي كثير من الحالات يتوجه الزوجان لتركيا بهدف العمل هناك وإرسال المال لعائلة الشاب ليستعينوا على متطلبات الحياة اليومية.
مضيفاً أن السبب الثاني فهو رغبة الوالد بتزويج ابنته حتى لو كانت صغيرة في السن بدافع انتقالها لحياة ربما تكون أفضل معيشياً في منزل زوجها، ومن جهة أخرى فهناك أسباب استثنائية تتمحور بالعنف الأسري الذي يدفع الفتاة للزواج من أي شاب يتقدم إليها، والشيء آخر وهو توجه الجيل الجديد من الشبان للبحث عن الفتيات الأصغر سناً حيث يبدأ سن ما يعرف بـ”العنوسة” لدى الفتيات في بعض القرى والبلدات من 24 سنة بشكل متوسط وهذا نتيجة لعدم قبول الشاب بالزواج من فتاة أكبر من ذلك، ويوضح الناشط الحقوي، أن هناك ثقافة عامة راسخة في أذهان جميع الشعب السوري أن الزوج يجب أن يكون أكبر من زوجته سناً ويختلف هنا الفارق المطلوب بين كل منطقة وأخرى حتى أن البعض يفضل أن يكبر زوجته بأكثر من 10 سنوات، وهذه كلها أسباب أدت لتزايد حالات تزويج القاصرات في سوريا، ويؤكد أن الضحية الأكبر هنا هي تلك الفتاة التي لم تبلغ حتى سن 16 عاماً من تحملها لأعباء الزواج والإنجاب المبكر والعمل وعدم معرفتها الكاملة بالأمور الزوجية ومتطلباتها ما نتج عنه وجود نسبة كبيرة من حالات الانفصال بعد فترة قصيرة من الزواج حيث يبدأ هنا الشاب بالبحث عن زوجة أخرى بينما يطلق على الفتاة لقب”مطلقة” ويصعب أن تحظى بفرصة زواج جديدة.
الشابة( ر.أ )”19 عاماً” من منطقة ريف حماة الغربي، تتحدث للمرصد السوري عن قصة زواجها حينما بلغت سن 16 عام بسبب ظروف قاسية كما تصفها، تقول، أن قصة زواجها من الشاب (ع.ع) الذي يكبرها بثلاثة سنوات بدأت بعد استشهاد والدها وزواج شقيقها بعد أن بقيت مع والدتها وأخوتها الصغار وبسبب ما عانته من ظروف معيشية صعبة.
مضيفة، أنها تركت الدراسة في المرحلة الابتدائية فهي عادة منتشرة في قريتها حيث لا يسمح للفتاة بإكمال تعليمها كما هي العادات، وتصف زواجها بأنه كان بطريقة تقليدية ولم تكن مقتنعة فيه لكن الظروف التي تصفها بالصعبة هي من أجبرتها على الزواج بعد فقدان المعيل وعدم وجود قدرة مادية لدى والدتها فقررت الزواج بناءً على هذا السبب، وتصف حياتها بعد الزواج بأنها صعبة للغاية لاسيما في الأشهر الأولى حيث بدأت المشاكل بالظهور بسبب ما وصفته بـ”تشدد زوجها” وحرصه الزائد وتدخله بأدق تفاصيل حياتها حيث كانت تتعرض للضرب على الأقل 10 مرات شهرياً وتعرضت للطلاق عدة مرات لكن ما يدفعها للبقاء هو الوضع المعيشي الراهن لعائلتها الذين يقطنون في المخيمات، وتعرب عن أسفها لهذا الزواج الذي كان مبكراً جداً و لعدم انتظارها حتى تنضج أكثر ذهنياً كما تصف، ولا تدري ما مصير زواجها الذي يزداد صعوبة يوماً بعد آخر وما زاد من معاناتها أكثر هو عدم انجابها للأطفال إلى الآن، واختتمت حديثها بدعوة الفتيات إلى عدم الزواج في سن مبكرة، وأن يبقوا في تعليمهم ودراستهم رغم الظروف الصعبة.

كما لوحظ تزايداً كبيراً في أعداد حالات الإنفصال بين الأزواج الذين يتزوجون بفتيات صغيرات في السن أو حتى من الشبان الغير بالغين السن المناسب للزواج، علماً أن الكثير من المناطق في سوريا كانت سابقاً تحدد عمراً مناسباً لزواج الشبان لكن في الآونة الأخيرة أصبح يتزوج حتى الأطفال الذين لم يبلغوا سن 17 عاماً، وهذا عامل آخر في انعدام فرصة التوافق الزوجية لعدم وجود أحد من كلا الزوجين ناضج ذهنياً يستطيع تفهم مشروع الزواج الذي هو بداية لتكوين الأسرة وتربيتها.

يتحدث “أ.ف” من بلدة الفطيرة في ريف إدلب الجنوبي والذي يقيم في أحد مخيمات منطقة “دير حسان” في ريف إدلب الشمالي للمرصد السوري عن قصة زواج أحد أبناءه لمدة لا تزيد عن نصف عام، فبعد نزوحه من بلدته إلى الشمال السوري بمدة ليست بالطويلة قرر تزويج أحد أبنائه الذي لم يكمل سن 18 عاماً فبدأ يبحث له عن فتاة للزواج وتزوج أخيراً من فتاة تصغره بسنة تقريباً، مضيفاً، بعد أقل من شهر من زواجه بدأت الخلافات بينهما لدرجة أنها كانت كل أسبوع تذهب لبيت أهلها ونعيدها على أمل أن يتفقا لكن كل يوم كانت تزداد الخلافات أكثر ولأسباب تافهة ومن أهمها، عمله الذي كان يحتم عليه البقاء لمدة طويلة خارج المنزل، فوصل الحال بينهما لطريق مسدود ولم يعد هناك مجال للاستمرار في هذا الزواج ليتم الطلاق مع دفع كامل ما ترتب عليه لها

ويوضح أنه أخطأ في تزويجه في هذا السن خصوصاً لفتاة صغيرة وكان لابد من الانتظار عدة سنوات أخرى حتى يكتمل النضج الفكري لديه ويصبح أكثر قدرة على تحمل مسؤوليات الزواج، ولكن ابنه يصر في الوقت الراهن على الزواج مرة أخرى

ويؤكد أن تزويج الفتاة أو الشاب بسن مبكر هو خطأ فادح يرتكبه الأهل ويؤدي في النتيجة لدمار الأسرة ومستقبل الفتاة في غالب الأحيان، كما يدعو بدوره أولياء أمور الشباب والفتيات بحث أبناءهم على التريث في مسألة الزواج وعدم التفكير به حتى الانتهاء من الدراسة وتأمين المستقبل.

السيدة المسنة ( خ.م ) النازحة من ريف حماة الشمالي في مخيمات دير حسان في ريف إدلب الشمالي، تتحدث في شهادتها للمرصد السوري عن ظاهرة زواج القاصرات قائلة، ليس فقط الأسباب التي تتعلق بما يجري في سوريا من أحداث هي وحدها من تقف وراء اتساع ظاهرة الزواج المبكر للفتيات والشبان، بل هناك أشياء أخرى مهمة أيضاً وقد كان لها الدور المهم في تنامي هذا الموضوع، مشيرة إلى أن العادات والتقاليد في بعض المناطق السورية ولاسيما العشائرية يوجد فيها نسبة كبيرة من الزواج المبكر للجنسين ذكوراً وإناثاً، كما أن ظهور الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي وغياب الوازع الأخلاقي تسبب في خروج قرار الزواج عن سيطرة الأهل وأصبح الشاب والفتاة يقرران دون مراعاة للسن والأوضاع الراهنة، وتضيف أخيراً كما أن انتشار الانحلال الأخلاقي بين الكثير من الشباب والفتيات الذي هو نتاج للاكتظاظ السكاني واختلاط جميع المحافظات السورية في الشمال السوري أصبح سبباً يدفع الأهل لتزويج الفتيات بدعوة “الستر” وتفادي وقوعهن بالاستغلال حيث يطمئن الوالد على ابنته لدى زوجها.

مع كل تلك الأسباب الآنفة الذكر هناك أيضاً الفتاوى الدينية والمواعظ التي يطلقها علماء محسوبين على الجماعات الجهادية في تراجع زواج الفتيات البالغات سناً أكبر من القاصرات وذلك بسبب الحث على زواج “الأبكار” من صغيرات السن ما زاد في ترسيخ هذا المفهوم لدى غالبية الشباب فعندما يسأل الشاب عن اعتراضه على فكرة الزواج بفتاة ناضجة سناً يبدأ بسرد النصوص الشرعية التي تحث على الزواج من الصغيرات في السن

وأكثر من يتوجهون للزواج من قاصرات هم قياديين منضوين في جماعات جهادية غالبيتهم من جنسيات غير سورية، ونتيجة لكل تلك الأسباب التي تدعوا للزواج من الفتيات الصغيرات في السن أو القاصرات لوحظ تزايداً كبيراً في نسبة النساء الغير متزوجات في مناطق الشمال السوري وقد بلغن سناً متقدماً ونسبة كبيرة أيضاً ممن فقدن أزواجهن نتيجة الأحداث الدائرة ما دعى بعض المنظمات لدعم مشاريع لتزويجهن وصرف مبالغ كبيرة جداً على هذه المشاريع.

وتفتقر الجهات المسؤولة في الشمال السوري مثل حكومتي”الإنقاذ” و”المؤقتة” لوجود قوانين تحد من ظاهرة تزويج القاصرات والقاصرين وعدم وجود أي قوانين تحدد سن الزواج أو تجعله أكثر انضباطاً بما يحفظ حقوق الزوجين على أقل تقدير، بعد أن خرجت مناطق الشمال السوري عن سيطرة النظام ومؤسساته المعنية بهذا الشأن وعدم وجود إمكانية لتطبيق القانون السوري الذي يحدد سن الزواج ويضع العقوبات على المخالفين بقي المرجع الأساسي في مناطق الشمال السوري على أحكام “الشريعة الإسلامية” وعلى العادات والتقاليد.

ويعد “تزويج القاصرات” في سوريا الذي ازدهر بسبب الأحداث الجارية والتقاليد العشائرية واحداً من بين العديد من الانتهاكات التي تمارس بحق فئة كبيرة من الفتيات السوريات من حرمانهن من التعليم والميراث وسلب حقوقهن في العمل والتعبير عن الرأي فضلاً عن الاضطهاد الأسري وغيرها، وهنا لابد أن يبرز دور المنظمات المعنية “بحقوق المرأة” في زيادة الوعي بما يخص مخاطر “تزويج القاصرات” وما يعكسه من سلبيات على الصحة والنفس والأسرى وحتى المجتمع.