سؤال سوريا الصعب

31

ليست القضية السورية قضية تحرر وطني، رغم قوة حضور بعد استعماري من نوع ما فيها، يتمثل في احتلالات خمسة، إسرائيلية وإيرانية وأمريكية وروسية وتركية على التتابع الزمني، يتطلع ثلاثة منها على الأقل، وربما خمستها، إلى الدوام. ولا تبدو قضية ثورة اجتماعية رغم قوة البعد المتصل بالفقر وضرورة تأميم مصادر الثورة الوطنية، ونزع ملكية نازعي الملكية الأسديين ومن والاهم. ولم تعد ثورة ديمقراطية رغم قوة البعد المتصل بالطغيان وعموم الحرمان من الحقوق والحريات السياسية، ورغم أن هذا هو الخطاب الذي لا تزال تسوغ به نفسها معارضة رسمية، ضيعت استقلالها مثل فعل النظام.
تبدو قضية سوريا موضع إرباك عام، لأنها لا تستجيب لخطابات رئيسية انتظم التفكير السياسي حولها في القرن العشرين، الوطني والاشتراكي والديمقراطي. وهو ما يجعل البلد مغموراً تحليلياً، على نحو ما كان سكانه مغمورين سياسياً طوال نحو نصف قرن قبل الثورة في ربيع 2011. لكن عند التفكير في الأمر يبدو هذا حال بلدان أخرى، أو جميع البلدان في واقع الأمر.
تبدو قضايا التحرر الوطني والثورة الاجتماعية أو الديمقراطية دوال لغوية عائمة من دون دلالات اجتماعية وسياسية محددة ترسو عليها وتستقر. سوريا تبدو بلداً مقبلاً من المستقبل، يعرض لمختلف المتحدات السياسية، صور الامتناع في حاضرها. وما تظهر في سوريا كمقاربات تفسيرية وعملية جزئية ومتقادمة هي واقع يترسخ عالمياً في كل مكان. لا يجد الناس لغة للكلام على شؤونهم الحاضرة، وتبدو صراعات عالم اليوم مستعصية على التأويل وفق لغات الأمس وخطاباته. ويبدو فوق ذلك أن هذا واقع قديم نسبياً لم يُفكّر فيه، وليس ناشئاً لتوه بحال.

التحرر الوطني لا يؤطر ما يحدث لأنه لم يعد هناك وطن، ولأن كل محتل أجنبي من محتلينا الأربعة الجدد يجد «وطنيين» مدافعين عنه

لكن ماذ جرى؟ كيف حصل أن استهلكت خطابات كانت تساعد في إدراك الواقع وتوجيه العمل فيه؟ ومن قوّض صلاحية الخطاب المناهض للاستعمار والإمبريالية، أو للبورجوازيات التابعة، المستولية على الموارد العامة، التي تتصرف كأرستقراطيات مالكة للبلدان التي تحكمها، أو للديكتاتوريات والطغيان الدولتي؟ لا ريب في أن المراكز الاستعمارية السابقة، وهي نفسها قوة السيطرة الدولية النافذة اليوم، وإن بتراجع، خلقت بيئة دولية أقل ملاءمة لتحرر وطني معافى في بلدان كانت مستعمرة، لكن في واقع الأمر تدهورت قضية التحرر الوطني أساساً على يد نخب وطنية وقومية جعلت من الصراع ضد الاستعمار أيديولوجية مشرعة لسلطتها المطلقة ولاستئثارها بأنماط ملكية وحياة لا تحظى بمثلها حتى بورجوازيات الدول الاستعمارية. يمكن أن يتساءل المرء بخصوص سوريا مثلاً: ترى لو استطاع إيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي الذي كان نافذاً في أوساط النخبة البعثية السورية، بعد الانقلاب البعثي الأول عام 1963، والذي اكتشف وأعدم عام 1966، لو لم ينكشف أمره واستطاع حكم سوريا بدل حافظ الأسد، ترى هل كان يمكن أن يخرب البلد أكثر مما استطاع «عظيم هذه الأمة» وسلالته أن يفعلا؟ ثم إن كان صحيحاً أن الرأسمالية الغربية صعّبت منافسة أي تجارب اشتراكية لها لسبقها التكنولوجي والعلمي ولاستيلائها الواسع على موارد البلدان المستعمرة سابقاً، إن بصورة مباشرة أو عبر عمليات التبادل اللامتكافئ، فإن فشل الاشتراكية يعود أساساً إلى الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، التي دخلت في سباق قوة لا يتناسب مع الفكرة الاشتراكية، قبل عدم تناسبه مع إمكاناتها، وهذا فضلاً عن فسادها وميلها إلى أشكال وحشية من الطغيان. ما كان لأحد أن يدمر الشيوعية أكثر مما فعل الرفيق ستالين، أبو الشعوب، المسؤول عن قتل ملايين البشر، بمن فيهم معظم الرعيل البلشفي الأول. كما لم تنهزم الفكرة الديمقراطية عالمياً بفضل صمود ديكتاتوريات في بلدان كثيرة، بل أساساً على يد الديمقراطيات الغربية، سواء عبر أشكال من التمييز والمحاباة الفاضحة للنظم التابعة لها، أو المحبوبة منها، أو منذ ثلاثين عاماً عبر أمننة متصاعدة للسياسة، تضعف الديمقراطية في كل مكان. من يقوض الديمقراطية في أمريكا اليوم هو إدارة أمريكية، عنصرية وفاشية، بعد استخدام تصدير الديمقراطية أيديولوجية مشرعة لاحتلال بلدين، ما تسبب بدمار واسع فيهما وفي الفكرة الديمقراطية.
يتعلق الأمر في جميع الحالات بتحطيم ذاتي أكثر مما بهزيمة أمام عدو خارجي. النموذج يفسد من رأسه مثل السمك. وهو ما يبقى صحيحاً لو أضفنا عقيدتين مؤثرتين في تفكير قطاعات من الناشطين والمثقفين في مجتمعاتنا، أعني الإسلامية والعلمانية. ما كان لأحد أن يؤذي الإسلامية أكثر مما استطاعت أن تفعل بنفسها، إلى درجة أن يتساءل المرء: ترى لو كان هناك من يريد الكيد للإسلام وإهانة المسلمين إلى أقصى حد، هل كان يمكن أن يخرج بشيء أسوأ من «داعش»؟ وهذا من دون أن يكون الآخرون «أنظم» كثيراً. ولم تفشل الدعوة العلمانية في تقديم نماذج تحتذى في التفكير وفي العمل، لا كأفراد ولا كتيارات، من دون أن يكون هذا ذنب أحد من خارجها. بشار الأسد بالذات استطاع أن يتكلم عن العلمانية في السنوات الأخيرة، من دون أن يشعر أحد من دعاة العلمانية بالإهانة ويرد عليه.
في المحصلة، نجد أنفسنا في أوضاع لا نعرف كيف نسميها، ولا نتعزى كثيراً مما يبدو أن الحال من بعضه، أو مقبل على أن يكون من بعضه في كل مكان من العالم، وإن بنسبة كل مكان ومقداره، إن حاكينا صيغة لابن خلدون. وبينما يعود وضع الأزمة العالمية بقدر من تطبيع أزمة الوطنية والمواطنة السورية، فإنه في الوقت نفسه فرصة لتفكير متناوب، ينطلق من سوريا التي هي عالم مصغر بدلالة المحتلين الخمسة، وغير قليل من منظمات ما دون الدولة التي تولدت في غمار حروب أهلية في البلدان المجاورة: لبنان، تركيا، العراق، فضلاً عن القاعدة التي هي توأم العولمة،، أقول تفكير متناوب ينطلق من سوريا نحو العالم، أو ينطلق من عالم يزداد سورية نحو… سوريا.
تبدو سوريا سؤالاً صعباً بالفعل.. وما يظهر في أي نقاش مع ناشطين حسني النية في الغرب، وكذلك مع متعاطفين من العالم العربي، ليس فقر التفكير في شأن سوريا، بل في الواقع فقر التفكير فحسب. فقره في شأن العالم، وليس سوريا وحدها. وعلى صلة بذلك أنه ليس هناك كائنات سياسية جديدة تكبر وتنضج وتعد. ليس هناك وعود. ويبدو أن ما يقوله كوكب سوريا المقبل من المستقبل هو أن المستقبل لم يعد موجوداً.

تبدو سوريا سؤالاً صعباً بالفعل.. وما يظهر في أي نقاش مع ناشطين حسني النية في الغرب، وكذلك مع متعاطفين من العالم العربي، ليس فقر التفكير في شأن سوريا، بل في الواقع فقر التفكير فحسب. فقره في شأن العالم، وليس سوريا وحدها.

ليس هناك دروب تؤدي إليه، وهو في الأصل لا شيء غير الدروب. التقدم لا يعمل، والثورة تأكل نفسها أو يأكلها أبناؤها مثلما حصل في بلدنا نفسه، فتستغني بذلك عن أكل أبنائها مثل الثورة الفرنسية والروسية، أو أكل غيرها مثل الثورة الأمريكية؛ التحرر الوطني لا يؤطر ما يحدث لأنه لم يعد هناك وطن، ولأن كل محتل أجنبي من محتلينا الأربعة الجدد يجد «وطنيين» مدافعين عنه، منددين بمحتل أو محتلين أو ثلاثة آخرين، بحسب سعة ذمة المنددين، فضلاً عن وصفائهم من المحتلين المساعدين؛ والثورة الاجتماعية ليست في الوارد لأنه لم يعد هناك مجتمع (فقر 90% من «المواطنين» لم يعد فقراً لهم، صار مجاعة وموتاً وطنياً)، وتصور التغيير الديمقراطي لا يطابق ما يحدث، لأنه أرضية تشكل أكثرية ديمقراطية أو كتلة تجد في الديمقراطية العامة مصلحة خاصة تحطمت مع تمام نزع وطنية الدولة، وتقدم نزع وطنية المجتمع في سوريا.
يمكن أن نستنتج من ذلك ما يناسب مزاجنا: القنوط والسينكية، أو الشعور بالتحدي ومحاولة الاستجابة الفاعلة له. يشجع على الخيار الثاني أنه أكثر من أي وقت مضى، هناك اليوم شعور يحتد بالمأزق في العالم كله. هذا جديد. هناك سعي وراء وعود جديدة، حتى أن هناك سعياً وراء وعود قديمة أيضاً. ونحن من بين الساعين. لسنا مؤهلين أفضل من غيرنا، لكننا نشغل موقعاً أميز من غيرنا: موقع البلد- العالم.. نحن السوريين.

الكاتب:ياسين حاج صالح – المصدر:القدس العربي