سوريا الجديدة… و«تجربة» كوريا الشمالية

26

سفير كوريا الشمالية في دمشق مون جونغ نام، زار قبل أيام وزيراً في الحكومة السورية، كي يشرح له «تجربة جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية في تجاوز الحصار المفروض عليها وترقية معيشة الشعب الكوري في ظل الضغوطات» الغربية على بيونغ يانغ، حسب ما جاء في بيان رسمي.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن فعلاً أن تنسخ دمشق، الخاضعة لـعقوبات غربية، تجربة بيونغ يانغ في مواجهة «الحصار»؟

الجواب المباشر والفوري: لا، لأسباب كثيرة.

بداية، لا بد من الإشارة إلى المفارقة المتمثلة في أن «عرض» سفير كوريا الشمالية، لم يقدم إلى وزير يمثل حزب «البعث» الذي يريد تعميم تجربة الحزب في «الأمة العربية» أو وزير شيوعي سواء كان صيني الهوى أو سوفياتي المرجعية، بل إلى وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم، العائد من الولايات المتحدة إلى سوريا، مبشراً بنقل «التجربة الليبرالية» الأميركية و«مشروع الإصلاح» إلى سوريا، سياسياً وتقنياً واقتصادياً.

سالم، حسب السيرة الذاتية المعروفة والموثقة في موقع الوزارة، درس في سويسرا، وليس في جامعات الكتلة الشرقية «السوفياتية». ثم عاد إلى دمشق مديراً عاماً لـ«مركز آبل للكومبيوتر» وليس قيادياً حزبيا. ساهم مع باسل الأسد في تأسيس «الجمعية المعلوماتية» وليس توسيع الحلقات «البعثية»، قبل سفره إلى الولايات المتحدة للعمل في مقر شركة «مايكروسوفت». عاد ثانية إلى سوريا، وقدم نفسه على أنه كان «مستشاراً لبيل غيتس» وبات مستشاراً في القصر الرئاسي ومقرباً من الرئيس بشار الأسد، ثم عمل وزيراً للاتصالات في 2006.

في ضوء هذه «السيرة»، يمكن قراءة مدى جدية «ترحيب» الوزير سالم بـ«مبادرة السفير الكوري بدمشق لتقديم نتائج التجربة الكورية والتي حسنت الواقع المعيشي في كوريا، وعرض تبادل الخبرات بين البلدين»، إذ أنه كان بين مستشارين كثر قدموا قبل سنوات للقصر سلسلة أفكار ومبادرات للتخلص من آثار «الكورنة الشمالية» في «النظام السوري». بل كان من المبشرين والمرحبين بالإقلاع عن «إشارات شمولية» تخلت عنها دمشق قبل عقدين، مثل خلع لباس «الكاكي» من المدارس الأولية، وإخراج «العسكرة» ونظام التدريب العسكري من المدارس العليا والجامعات، خصوصاً أنه سليل أسرة دمشقية كانت فخورة بأنها أرسلت خبراء نسيج إلى كوريا في بداية عقد الخمسينات، كي تنقل تجربتها الاقتصادية إلى آسيا.

تلك «الإشارات الشمولية» يعتقد إلى حد كبير أن الرئيس حافظ الأسد استوحى جوهرها قبل عقود متأثراً من تجربة يونغ يانغ، في عهد «القائد المؤسس» كيم إل سونغ الذي عرف أيضاً بـ«القائد العزيز»، وورثه ابنه كيم جونغ حتى 2011، ليخلفه كيم جونغ أون الزعيم الحالي. ومشياً على التجربة الكورية، سمي الرئيس حافظ الأسد في الخطاب الرسمي بـ«القائد المؤسس» بدلاً من «القائد الخالد».

خلال عقد خلع «الكاكي» الكوري واختبار العلاقات مع أوروبا وأميركا، ابتعدت دمشق عن بيونغ يانغ في بداية الألفية. لكن سرعان ما عادت الحرارة، العسكرية والسياسية والأمنية، إلى العلاقة بين الرئيسين بشار الأسد وكيم جونغ أون، إلى حد أنهما تبادلا في العام الماضي 12 رسالة، كان بينها «تهنئة» من الرئيس الكوري الشمالي بعد الانتخابات الرئاسية في منتصف 2021، بعدما رفعت في إحدى ساحات دمشق حديقة ورود تكريما لـ«القائد الكبير» الحاكم في بيونغ يانغ. كما استقبل الأسد مرات، مبعوث الزعيم الكوري، وزير الخارجية ري يونغ هو.

لعل الشيء الجامع حالياً بين البلدين هو العقوبات. لكن واقع سوريا مختلف كلياً عن كوريا الشمالية المحكومة بنظام شمولي حديدي القبضة والأيديولوجيا يبسط سلطته على حصته من شبه الجزيرة الكورية من هدنة الخمسينات، فيما باتت الجغرافيا السورية مقسمة إلى ثلاث مناطق نفوذ تنتشر على أرضها خمسة جيوش أجنبية وتتجاور في مساحاتها القواعد العسكرية للحلفاء والأعداء، وتزدحم في سمائها طائرات دول أجنبية عديدة بدعوة من «الحكومة الشرعية» أو دونها، إضافة إلى مشكلات النزوح واللجوء والفقر والفساد وأثرياء الحرب وفقدان العصب الأيديولوجي.

هناك تأثيرات كثيرة تركتها كوريا الشمالية في هيكلية النظام السياسي و«الحلقة الضيقة» والتجارب العسكرية في سوريا. لكن لا يمكن القول أن «النظام السوري» هو نسخة طبق الأصل عن كوريا الشمالية، من حيث الإمكانات الاقتصادية والانسجام الهيكلي والعصبية الشخصية والتنظيم الحزبي وحصص الأكسجين، والمحيط الإقليمي.

عليه، يغدو الحديث عن نسخ «نموذج كوريا الشمالية» غير جدي، كما هو الحال – عدم الجدية – في بداية الألفية لدى كثرة الحديث عن نظرية «اقتصاد السوق الاجتماعي» ونقل «التجربة الصينية»، التي أقرت في المؤتمر العام لـ«البعث». وقتذاك، كان لزاماً انتظار مرور بضع سنوات ليقتنع مستشارون وصناع قرار بأن سوريا ليست الصين، لا بنظامها السياسي ولا قدراتها الاقتصادية ولا إطارها الجيوسياسي… ولا حجمها. ينطبق الأمر ذاته، لدى ارتفاع أصوات تقول بإمكان نسخ «التجربة الكوبية» أو «التجربة الإيرانية».

واقع الحال أن سوريا الجديدة، خلطة تحتوي تطعيمات من نماذج كثيرة. في مكان ما، لم يتغير أي شيء في الهيكلية وآلية القرار. وفي مساحات أخرى، تغير الكثير وتقلصت مساحات وتآكلت أخرى. فغدت «التجربة السورية»، فريدة وعصية على التقليد أو النسخ من تجارب أخرى.

المصدر: الشرق الأوسط