سوريا الغافيةُ بين ثورتين

25

تبدو سوريا كمساحةٍ مهملة داخل يقين سياسة المحاور، تظهر تماماً كما لو أنها تنام بين ثورتي لبنان والعراق، بعدما أعدمتها الوصايةُ الدولية عليها كلَّ اقتباسات السياسة الممكنة، لإنجاز تسوية لائقة ليس فيها نظامٌ منتصر، ولا معارضةٌ تُوهَبُ لها السلطة.
تسعة أعوام زحفت فوق بلاطِ الشعارات الكبرى، تلك الحالمة بإسقاط نظامٍ شمولي نَحَّى السياسة جانباً، مثلما وضع الاقتصاد والمجتمع في جيبه، أو تلك التي امتدحتهُ ناطقةً بأبديّته، على الرغم من فرضية «المؤامرة الكونية» عليه. ولعلَّ سوريا هي الاستثناء شبه الوحيد من بين الدول العربية الثائرة على أنظمتها، التي انقسم فيها المجتمع حول محوري النظام والمعارضة، انقساماً عجزت معه كلُّ السنوات الماضية عن إعادة ترتيب مكوّناته السياسية مجدداً، فمنصاتُ المعارضة فكّكها بهدوء من صنّعها، ومصيرُ مقاتلي المعارضة المحسوبين على الهوى التركي متأرجحٌ بين القتال في ليبيا أو لا. النظامُ يبيع موانئ بحريّة، ويُجزلُ عطاء استثماراتٍ في النفط والغاز، وأخرى اقتصادية وعقارية لحليفيه الروسي والإيراني، ليبقى مستلقياً فوق حرير السلطة الناعم قدر المستطاع.
والناس لا يستقوون بشيء على الأيام الصعبة، التي تهزم مصائرهم في الداخل القاتم، أو تجعلها مفتوحةً على احتمالاتٍ شتّى في دول اللجوء السعيد. لكن الباقين داخل القفص السوري المسيّج بالحواجز والصور الكبيرة، وسحنات الغرباء، صاروا جزءاً من التجريد المادي لمكونات الحياة، يحلمون بالكهرباء، ووقود التدفئة، أكثر مما يحلمونَ بزوال صداع السلاح والاقتتال، وقد أصبحوا مع مرور الزمن استرسالاً للخيبة والعوز، تلعب بهم سياسةٌ مالية ونقدية، تديرها طغمة أوليغارشيّة، وتربط قيمة عملتهم المحلية بالجغرافيا، التي تسيطر على قرارها إيران (العراق، ولبنان، واليمن، بالإضافة إلى سوريا طبعاً) حيث تلمُّ القطع الأجنبي من أسواقها متى تشاء، وبالفائض من العملات المحلية التي تضع يدها فوقها بقوّة الأمر الواقع. والسوريون في مناطق النظام لم يهتدوا بعد إلى ترجمة أمينة لشعارات الناس الثائرة في لبنان والعراق. اكتفوا بالفرجة على النقل المباشر لوقائع ثورتين طازجتين، واحدة على يمينهم، والثانية على يسارهم، مثلما اكتفوا سابقاً بالفرجة على النقل المباشر لثورة باقي شعبهم قبل تسع سنوات، قبل أن يقوّضها القرار الدولي، ويحوّلها تدريجياً إلى حربٍ بالوكالة. نجدهم ينعمون بتعاقب الليل والنهار فوق حواسهم المتعثّرة بالبرد والعتمة، ثم ينشغلون بحلِّ أحاجي تدبير معيشتهم اليومية، ويلعنون في آن السلاح الذي وهبته الأجهزة الأمنية لقطعان الزعران أيام التغنّي بموضة «التصدي للمؤامرة الكونية» وهو السلاح نفسهُ الذي صار مع الوقت مسلطاً على رقاب العامة، يبتزّهم بلا شفقة في عمليات خطفٍ لا تنتهي لأجل الفدية، ويوسّع حدود مجتمع القاع، حيث الكثير من «الحشيش» وبثمنٍ بخس، والكثير من «الجنس» الرخيص، الذي بات خدمة «ديليفري» يصل إلى البيوت، ويرتبط سعره بسعر صرف الدولار، وهو لم يفارق حدود 900 ليرة منذ مطلع العام الحالي.

النظامُ القائم لا همَّ لديه سوى المكوث في السلطة، والمعارضةُ لا تزال تستجدي أوهامَ دعم «الدول الصديقة للشعب السوري»

إذن كيف يكنس السوريون الوقت الفائض عن حاجتهم؟ وهو وقتٌ كثير، والنظامُ القائم لا همَّ لديه سوى المكوث في السلطة، والمعارضةُ القائمة لاتزال تستجدي أوهامَ دعم «الدول الصديقة للشعب السوري» وهذا توصيفٌ دلاليٌّ لا يقلُّ انفصاماً عن توصيف «المؤامرة الكونية»، لدرجةِ أن خبر تصفية قاسم سليماني مرَّ في مناطق سيطرة النظام بلا جلبةٍ ولا أصداء، وكأنه لم يقعْ. في حين تلقّفهُ السوريون الذين هم ضحايا النظام وحلفائه بكثيرٍ من البهجة، التي رافقها توزيع الحلويات، وهذا المشهد انسحب على قسمٍ من العراقيين المصطفّين كذلك خارج محور السيطرة الإيراني، ومثلهما اللبنانيّون الناقمون على دولة «حزب الله» وولاءاتها الخارجية. مجدداً يطرح النفوذ الإيراني أسئلةً اجتماعية ملحّة عن مدى قبوله في الدول العربية الأربع التي يتحكم بقرارها السياسي، بعدما ثار الناس في اثنتين منها على نظامين سياسيين يخدمان مصلحة إيران (لبنان، والعراق) في حين يحصي السوريون واليمنيّون عدد الكدمات التي سببتها لهم آلة الحرب.
ألم تطرح إيران نفسها كمحورٍ نقيض لمحور النفوذ الأمريكي في المنطقة؟ بحيث بدا هذا الدور فضفاضاً على إمكانيّاتها الاقتصادية والعسكرية، وهي التي أمتعتنا بردّها الكوميدي على اغتيال سليماني، سواء بإسقاط الطائرة الأوكرانيّة، أو بحفنة الصواريخ التي سقطت على قاعدة عين الأسد. لكن ما يعوّل عليه بحق هو استيقاظ الناس، وانتفاضهم على السقطات التاريخية الكبرى الماثلة بأنظمةٍ سياسية، بعضها كامتدادٍ لانقلابات العسكر منتصف القرن الماضي، وبعضها الآخر كوصفةِ محاصصةٍ طائفية مريضة، وكلاهما يحتكر السلطة، ويوغل في معادلات الفساد والإفساد والتبعيّة الخارجية، سواء لإيران أم لأمريكا، «كلّن يعني كلّن».

الكاتب:ايمن الشوفي   – المصدر: القدس العربي