سورية: الجمود السياسي… تدهور اقتصادي

51

يناسب الأمريكيين كثيراً أن يستقر (المستنقع السوري) وفق تعبيراتهم، أي: أن يضمن الجمود السياسي تفاعل العوامل المتعددة لتستديم البلاد كمستنقع يبتلع ما تبقى من قدرات وموارد، وينفّر كل القادرين والراغبين بانتشال البلاد.

لم يتطلب الأمر كثيراً من الجهد الأمريكي لفرض الجمود، إذ أبقوا وجودهم العسكري في الشمال الشرقي ليضمنوا تقطّع أوصال سورية اقتصادياً وسياسياً ومجتمعياً، وفرضوا العقوبات كأداة ردع تجعل الحركة الشرعية للموارد والسلع إلى البلاد مكلفة وحذرة وفي حدودها الدنيا… وأمنوا بالتالي نشاطاً واسعاً للحركة غير الشرعية التي تغني أمراء الحرب، وتزيد نفوذهم وتوسّع قنوات وصول الموارد إليهم، وهؤلاء هم موضوعياً من يغذون التشدد ومشروع الفوضى وصولاً إلى التقسيم.
إنّ ضمان تقسيم الأمر الواقع، وضمان بيئة اقتصادية وسياسية تثري أمراء الحرب وتعيق النشاط الاقتصادي الطبيعي، هو إستراتيجية الأمريكيين الأساسية في سورية منذ عامين على الأقل. وهي إستراتيجية تتشدق طوال الوقت بالتسوية السياسية، ولكنها تعمل ببرود على منع هذه التسوية… عبر استخدام نفوذها وتأثيرها المباشر على كل قوى التشدد في كل الأطراف السورية! تلك التي لا تزال تنتظر (عطف الأمريكيين) ظناً منها أنهم (الأمريكان) قد يشرعنون أمراً واقعاً، أو يقلبونه رأساً على عقب.
والأمريكان لن يفعلوا لا هذه ولا تلك، أولاً: لأنهم غير قادرين على فرض إرادتهم في توازنات القوى الدولية الحالية، وثانياً: لأن وضع الجمود الحالي يفتح الباب واسعاً على ما يهدفون إليه منذ البداية، وهو احتمال تقسيم سورية.
الجوع والتدهور الاقتصادي وزيادة وزن قوى الفوضى وتقطع أوصال البلاد والتشدد السياسي وعدم التجاوب مع المبادرات، وما يعكس خلفه من تخلف القوى السياسية السورية وضيق أفقها الوطني، هي الأدوات الأساسية للتقسيم… وجميعها محققة للأمريكان في ظل الوضع الحالي.

تجفيف المستنقع لكسر الجمود

إنّ كسر الجمود، لا يمكن أن يتم إلّا بتجفيف المستنقع… وضخ مياهٍ عذبةٍ جديدةٍ، بعد إزالة المياه الآسنة والطفيليات التي تعيش عليه. دون ذلك لا يمكن أن تكون هنالك أية إمكانية لمنع التدهور، وسيكون المستنقع قادراً على ابتلاع كل الحلول الجزئية.
ولنا في الوضع الاقتصادي المتدهور خلال العامين الماضيين خير مثال على هذا، فعلى طرف الحكومة السورية مثلاً تمّ دفعها لتعلن محاربة الفساد وتشدّقت بالحجز الاحتياطي على أموال الأثرياء الكبار، بل وفتحت جبهات مع أبرز أسماء قوى المال في سورية، وفعلياً كانت كل هذه الضجة (صفراً عالشمال) ولا أثر لها في تدارك الكارثة.
الكثير من المشاريع تم الحديث عنها: من تمويل مشاريع بدائل المستوردات التي ادّعوا أنها ستستبدل ما يزيد على 70% من المستوردات، إلى دعم التصدير وفتح المعابر، وصولاً إلى تحويرات الدعم والبطاقة الإلكترونية، مروراً بالكثير والكثير من الاجتماعات وجلسات تصوير حول العقود الموقعة مع الأصدقاء والتي (طوّفت الشاشات): طحيناً وطاقة وتجارة ومصانع. ولكن ما النتيجة؟! بالمحصلة وصل السوريون إلى مطلع عام 2021 مثقلين بالجوع والعتمة، بل تمّ ابتلاع حصة هامة من آخر رغيف خبز مدعوم… وامتصّ المستنقع السوري كل المشاريع والاحتمالات.
فلا المستوردون سيتوافدون ليشتغلوا بإنتاج الحليب المجفف مثلاً عوضاً عن استيراده… لأن مساحة العمل الإنتاجي في سورية ضيقة جداً ومثقلة بسطوة الفساد وقوى الفوضى وتراجع مقدارت الدخل وخطر العقوبات! ولا الدول المجاورة تمتلك قرارها لتفتح معابرها وتستقبل ما تبقى من البضائع السورية في ظل القيد الأمريكي وعدم وجود تسوية، ولا الأصدقاء حتى سيكونون على أهبّة الاستعداد والمقدرة على ضخ مزيد من الموارد في (بيئة) خلّاقة في ابتكار أدوات النهب.

لن تكون هنالك حلول كلية ودفعة واحدة في الوضع السوري، ولكن الحلول الجزئية أيضاً لا تنفع… ولن تنفع إلّا الخطوات السياسية المحددة التي تجعل البيئة السورية قابلة للحياة مجدداً. خطوات جدية في التسوية السياسية توحي بالبدء بتجفيف المستنقع، وفسح المجال للمجتمع السوري وقواه الحيّة لتتنفس مجدداً… وأية إشارة من هذا النوع ستنعكس مباشرة انتعاشاً اقتصادياً نسبياً، ولنا في ما حصل في عام 2017 مثال جيد، فذاك العام الذي تبلورت فيه اتفاقات أستانا ونجحت في إيقاف دوامات العنف، وأوحت بوجود تفاهمات دولية وإقليمية تحوّلت إلى حلول ملموسة اضطرت كل الأطراف السورية للتجاوب معها… هو العام الوحيد خلال الأزمة الذي استقر فيه سعر صرف الدولار وتوّقف نزيف الليرة، بل انخفضت أسعار الغذاء وتحسّن وضع الطاقة نسبياً، وشهدت المناطق الصناعية السورية توسعاً استثمارياً، واستمر هذا الوضع حتى الربع الأخير من عام 2018 عندما اشتدت العقوبات وتوقف الائتماني الإيراني، وبدأ الجمود السياسي رغم تشكيل اللجنة الدستورية التي يتم عرقلة عملها حتى اليوم…

الجمود السياسي يؤدي إلى تفاقم التدهور الاقتصادي، ليؤدي التدهور الاقتصادي والجوع تحديداً دوره في فتح الباب واسعاً على احتمالات ذهاب البلاد إلى نقطة اللاعودة. ولا خروج من هذه الدوامة إلا بكسر الجمود السياسي، وليس بأية طريقة، بل باتجاهات محددة. فسورية تحتاج إلى بيئة سياسية حيّة تستطيع أن تستقبل كل أبنائها وتستفيد من طاقاتهم، (لا أن تلوّح بمصادرة ممتلكاتهم) وهي تحتاج إلى طاولة نقاش سياسي تسمح بتجاوز الجراح، وتقديم تنازلات حقيقية لصالح المجتمع بمجمله، لأن هذا هو الضمان الوحيد لبقاء السيادة والشرعية، إنّ أية خطوة بهذا الاتجاه ستنعش الوضع الاقتصادي حتى دون أدنى (ابتكار حكومي).. وستسمح بتفجير الطاقة الحية لمجتمع كان خلّاقاً، وهو ينازع اليوم… ولكن لا تزال روحه تنبعث في الأجواء رغم (العفن المحيط). 

الكاتبة عشتار محمود 

المصدر: قاسيون