سورية .. بدائل وخيارات

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

46

أولاً، تخطينا في سورية، منذ فترة غير قصيرة دور الحلول الجزئية في إصلاح أوضاع ما نسميها الثورة التي نتحمّل جميعنا، وإن بأقدار جد متفاوتة، المسؤولية عمّا آلت إليه من أحوال كارثية، يزيد من فداحتها التخبط والافتقار إلى الأفكار والأدوات والوسائل الضرورية لإخراجنا مما وصلنا إليه، ولامتلاك القدرة على تقرير ما يجب أن يرتبط بإرادتنا من شؤوننا الخاصة، سواء كنا أعضاء في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أم لم نكن، علما أن الذين يعلنون، منذ فترة، الرغبة في إصلاحه يقصرون جهودهم على جوانب تقنية، لا تطال مشكلاتنا ومشكلاته الحقيقية، بل تتجاهلها، وتقفز عنها.
وتخطينا، كذلك، زمن الحلول الترقيعية، وتلك التي تريد سدّ نواقص هنا وإزالة عيوب هناك، لاعتقاد أصحابها أن العمل الوطني السوري يعاني من شوائب وحسب، ولا يواجه أزمةً بنيويةً عميقة ومستفحلة تخترق تعبيراته وتمثيلاته كافة. هذه المحاولات الترقيعية هي جزء من عجزنا الفاضح والكارثي ومن أزمتنا، على الرغم مما قد يكمن وراءها من رغبةٍ في تحسين أداء “مؤسسات المعارضة”، ومن شعورٍ بخطورة واقعها الذي ينحدر بها يوميا من سيء إلى أسوأ. ومع أن هذه المحاولات العبثية تكرّرت غير مرة خلال الاعوام الخمسة الماضية، فإن الفشل كان دوما بانتظارها، بما أنها سعت إلى إصلاح مؤسسة تمثيلية تقاوم بنيتها، وآليات اشتغالها، ويتناقض وجود ودور بعض أصحاب القرار فيها مع تغييرها بإصلاحها، بعد أن هيمنت الأمة عليها، بجهودهم بالدرجة الأولى، خلال قرابة عقد، حتي خال معظم من فيها أن وضعها الطبيعي، وأن ربطها بممارساتٍ وأهدافٍ تتناقض مع الوطنية السورية وهدف الحرية، يغنيانها عن وضع برامج وخطط واستراتيجياتٍ تعبر عن هويتهما الجامعة، فلا عجب أن بقيت الثورة من دون مرجعية تحظى باعترافٍ داخلي وخارجي، وينضبط بالقيادة التي تتولى تطبيقها حقل ثوري موحد سياسيا وفي إطار مقاومة الأسدية، كرّس غيابه غربة العمل المعارض عن ما يفترض أنه حامله المجتمعي، وتعبيره المطابق الذي يلتزم بمواقفه وخياراته، وأدّى غيابه إلى تبعية “الائتلاف” والمعارضة، تبعية تزايدت باضطراد لجهاتٍ وعلاقاتٍ أبعدتها أكثر فأكثر عن وظيفتها الوطنية، وقيدت حركتها.
ثانياً، على الإصلاح الجدّي الانطلاق من واقعنا الراهن، الذي يتعين بعاملٍ غير مسبوق في علاقات الحكام بالحاكمين خلال تاريخنا الطويل، عاملٍ نوعي يطرح علينا تحدّياتٍ لم نعرفها من قبل، ولا خبرة لدينا في التعاطي معها، هو استهداف الأسدية مجتمعنا وتدميره بطريقةٍ تتخطّى السياسة إلى وجوده، بدعم من روسيا وإيران، ونجاحها، بالتعاون مع تيارات الأسلمة المتطرّفة، في تقويض وحدته وهويته كمجتمع انهارت علاقاته الداخلية، وحكمتها تناقضاتٌ فئويةٌ داميةٌ وثأرية. هذا المآل المرعب يحدّد ما علينا القيام به للتصدّي لنتائج هذا الاستهداف التي تتخطّى أي تنظيم سياسي، أو تيار حزبي أو ديني، سلمي أو مسلح، وتطوي صفحة سورية الوطن ومجتمعها، وينوء شعبنا بمختلف فئاته، وعلى جانبي الصراع، تحت وطأة ما نجح في إنتاجه من كوارث حلّت بها جميعها، وستحول دون عودتها إلى ما كان لها من أوضاع طبيعية، بسبب ما تعرّضت له من تهتك عميق وتدمير مدروس، هنا وهناك، عند المعارضة والسلطة.

تخطّينا زمن الحلول الترقيعية، وتلك التي تريد سدّ نواقص هنا وإزالة عيوب هناك، لاعتقاد أصحابها أن العمل الوطني السوري يعاني من شوائب وحسب

لما تقدّم، لا بد من القول: إن ما يخرجنا مما نحن فيه لا يمكن أن يكون خطوةً جزئيةً أو ترقيعية، وأن يقتصر على فئة من السوريين دون غيرها. ويلزمنا بابتداع أدوات عملٍ عام لحقل سياسي تختلف ويختلف عمّا سبق لنا أن عرفناه منهما، فيه وعي ضرورتهما وبرمجة دوريهما وحدهما تجاوز كارثةً لن ننجح إن اقتصر تصدّينا لها على وضعها الراهن، ولم نواجه كذلك احتمالاتها المستقبلية التي تتراوح بين تكريس نتائج التدمير الراهن عبر رفض روسيا السماح ببلوغ حل سياسي، لتعارضه مع الوضع الراهن لما كان مجتمعا سوريا، وبتسويةٍ سياسيةٍ من غير المعقول أن تكون “المعارضة” طرفا فيها، بعد أن غيّب من كان يُفترض أنها تمثله من سوريين، وغدت جهةٌ قليلة الشأن في تناحر فئاتٍ لم يعد يجمعها جامع وطني. باستحالة الحل الذي ينطلق من أبعاد عابرة للأزمة الراهنة، تتصل بتكوين مجتمعٍ ودولةٍ يراهن الروس والأسد على جعل عودتهما إلى وجودهما السابق ضربا من الاستحالة، واستحالة تسويةٍ تعبر عن تطلعات السوريين وحريتهم، يبقى الحل القائم على استمرار النظام في ظل الاحتلال الخارجي الذي يحمي إنجازه الرئيس “تدمير مجتمعه”. ويضمن دوام سلطته في إطار محاصصاتٍ دوليةٍ وإقليمية كانت خياره الدائم منذ بدأت الثورة، وأنقذته عامي 2012 و2015، وشاركته في تدمير المجتمع السوري، والقضاء على وطنه، ويريد لاحتلالهم أن يدوم إلى زمنٍ تقول اتفاقاته مع روسيا إنه سيغطّي نصف القرن المقبل، في أقل تقدير، بينما سيكون نصيبنا، في أي خيار قادم، بقاؤنا تحت ركام ما كان مجتمعنا، بعد أن فشلت جميع أحزابنا وتنظيماتنا وتياراتنا السياسية والمدنية، ومؤسساتنا المدنية في إقامة وضع يؤسس، أول الأمر، شيئا من التوازن بيننا وبين أعدائنا، ومن القدرة على إقناع العالم بضرورة تغيير مواقفه من قضيتنا، بما أن مصالحه لن تتحقّق إلا بقدر ما يعترف بحقوقنا وحريتنا، فإذا نحن عجزنا عن بناء ذاتنا بما يمكّننا من مبارحة وضعنا الحالي، تلاشى القليل الباقي من دورنا، واكتمل ارتهاننا لقوى إقليمية ودولية تفيد من ضعفنا، وترى فينا أداةً ستتخلى عنها متى وجدت أنه لا نفع لها فيها.

لا خيار لنا غير بديل إنقاذي يستهدف وضعنا الذاتي، على أن يبدأ بالتمثيلات الحزبية والمدنية والمقاومة .. إلخ

إذا تأملنا ما حدث خلال الأعوام القليلة الماضية من تقاسم طال بلادنا بين واشنطن وموسكو، وأنقرة وطهران وتل أبيب، وحال دون التوصل إلى الحل الذي تحدث عنه بيان جنيف 1، وقرارا مجلس الأمن 2118 و2254، كان علينا الاعتراف بأننا أمام خطر الاستسلام من دون قيد أو شرط لأعدائنا الداخليين وللغزاة الروس والإيرانيين، وللأمر الدولي والاقليمي الذي لا نستطيع تحدّيه أو تغييره بوضعنا الذاتي الراهن، وبما نمارسه من سياسات، ونمتلكه من علاقات وقدرات. تُرى، ماذا يبقى لنا، من الآن فصاعدا، غير إعادة نظر جدّية، شاملة وعملية، في أوضاعنا، بما هي الخيار الوحيد الباقي لنا، على الرغم مما فيه من تعقيد، ويتطلبه من تخطٍّ لحال الشلل والتشتت، ولدورها الخطير في ما آلت إليه إحدى أعظم ثورات التاريخ، ثورة الحرية التي نهض بها شعبنا، وضحّى بكل شيء من أجلها.
ثالثاً، لا خيار لنا غير بديل إنقاذي يستهدف وضعنا الذاتي، على أن يبدأ بالتمثيلات الحزبية والمدنية والمقاومة .. إلخ، ويفعلها في أطرٍ جديدة، ويُلزمها بأسسٍ توحيديةٍ تتعيّن بدلالة الصراع بيننا وبين الأسدية على مجتمعنا الذي لا يجوز أن يكون لدينا أي هدف يسمو على إعادة وحدته وتحصينه ضد سياسات الأسدية والغزاة الأجانب، والعمل لتحويله إلى قوة حسمٍ في صراعنا من أجل حريتنا ودولتها، على أن يكون مدخلنا إليها بناء ميزان قوى بما لدينا من قدراتٍ معطّلة وتحتاج إلى تفعيل، يسمح تفعيلها ببلوغ تسويةٍ سياسيةٍ تكبح خطط الأسدية والروس والإيرانيين، المبنية على الإمعان في تحطيم ما بقي من مجتمع سوري، بما على البناء الذاتي توفيره من مرجعيةٍ ترى نفسها بدلالة الوطنية السورية وأسسها الجامعة، ولا ترى وطنها ومجتمعها بدلالاتها التنظيمية والأيديولوجية الجزئية والضيقة، وتغلّب تناقضها العدائي مع الأسدية الذي لا يحل بغير تغلب، على ما كان بينها من خلافاتٍ بينيةٍ لطالما حوّلتها إلى تناقضاتٍ عدائية، في حين حوّلت تناقضها مع الأسدية إلى خلافٍ مجمد أو مؤجل الحل. لن تخاطب هذه المرجعية السوريين، جميع السوريين، بغير صفتهم الحقيقية شعبا واحدا، وليس طوائف وفرقا ومزقا متناحرة مقتتلة. ولن تتعامل معهم بغير منطلق الالتزام المطلق والمعلن بحقوقهم وبالدفاع عنهم وعنها. وستمد يديها لهم بوصفهم مواطنين يتساوون في حقوقهم وواجباتهم، لكل واحدٍ منهم ما لغيره وعليه ما عليه، فلا تمييز ولا إقصاء ولا أحكام مسبقة ولا فئوية ولا مذهبية، ولا خدمات مذهبية مجانية للأسد، لأنه من دون إعادة الشعب السوري إلى موقعه حاملا للصراع من أجل حريته، لن يكون بناء ميزان القوى المطلوب ممكنا، ولن يعيد داعمو الأسدية النظر في مواقفهم، ولن يُحسب حساب الثورة في أي حل أو تسوية، بعد أن أخذ جميع المتدخلين حصصهم من بلادنا، حتى ليمكن القول إنه لن يبقى لنا منها شيء، إن نحن فشلنا في تغيير وضعنا الذاتي بتثويره، على جميع مستوياته القيادية والقاعدية.

من دون إعادة الشعب السوري إلى موقعه حاملا للصراع من أجل حريته، لن يكون بناء ميزان القوى المطلوب ممكنا، ولن يعيد داعمو الأسدية النظر في مواقفهم

رابعا، إذا ما قرّر المتصارعون الدوليون والإقليميون تكريس حصصهم عبر حل، فإننا سنواجه وضعا انتقاليا معاكسا لما أقره بيان جنيف والقرار 2118 من “انتقال ديمقراطي”، وسنشهد في أفضل الأحوال نمطين من الانتقال لصالح الأسدية وحماتها الغزاة، يقوم كلاهما على العائد الاستراتيجي الذي يترتب على تدمير المجتمع وشطبه من حسابات وعلاقات القوى والسياسة، وما سينتجه ذلك من أوضاعٍ لا محلّ ولا دور فيها للأفراد والجماعات، إلا بما ينسجم مع استقرار الأسدية واستمرارها في طورها الجديد: جهة تهيمن بمفردها هيمنة مطلقة على بلادنا ومن يعيشون كعبيد فيها. ومن يودّ معرفة الاسدية في طورها الجديد، فليراقب ما تفعله في مناطق “الهدن والمصالحات الوطنية”، حيث للقتل والإخفاء القسري والموت تحت التعذيب ضحايا يوميون، فإن كان هناك تسوية تنطلق من موازين القوى الراهنة، لهذا السبب الدولي أو ذاك، فإن جهود الأسد وداعميه ستدفع بها نحو ما أسميتها “الأسدية في طورها النوعي الجديد”، حيث هي السلطة والدولة والمجتمع والمجال العام… إلخ، بينما يجب أن يكون هدفنا تحسين وضعنا الذاتي إلى الحد الذي يجعل الاحتمال الأول صعبا، والثاني فرصة تمكنّنا من مواصلة نضالنا من أجل حريتنا، وصولا، ذات يوم لا ندري متى يأتي، إلى ما اعترفت لنا القرارات الدولية به من حقوق، كالحق في إقامة نظام ديمقراطي لن نراه إذا فشلنا في بناء وضع ذاتي يعجز الآخرون عن تخطّيه، لأنه سيواجه من جديد مجتمعا يمتلك خططا تكفلت بإعادة ترميمه وتوحيده، وإحضاره موحدّا إلى ساحة الصراع.

المقترحات. .. البديل الأول:
أولا، لا حاجة لبراهين على واقعة أننا نفتقر إلى قوة ديمقراطية أو إسلامية أو قومية أو مدنية أو مستقلة، تستطيع إسقاط الأسدية بجهودها المنفردة: اليوم أو في أي يوم. هذه الحقيقة تقول أمرين: أن تمثيلاتنا السياسية لم تخدم ثورتنا، بسبب أوضاعها الذاتية التي أثبتت عجزها عن خدمتها، وأن واقعها هذا لا يترك لنا خيارا غير الخروج من الفشل بابتكار صيغة أو صيغ تنظيمية وسياسية تمكننا من حشد قدرات شعبنا وتوحيدها بطرق غير مسبوقة أو مجرّبة، يمليها علينا الانتماء الوطني من جهة، والتصميم على إسقاط الاستبداد من جهة أخرى. قلت في فقرة سابقة إن هناك احتمالين مستقبليين علينا مواجهتهما، يتطلب كل منهما إعادة نظر جذرية سبل تعبئة وتنظيم قدراتنا السياسية التي يجب أن تنجم عن قرار تتخذه أحزابنا بتجميد أنشطتها محض الحزبية والضيقة، التي عجزت عجزا فاضحا عن تحدّي الأسدية، وفشلت، على الرغم من الثورة المجتمعية الهائلة، في إنتاج ما كان مطلوبا منها من برامج وخطط ضرورية لبناء هيكلية سياسية، موحدة واندماجية في علاقاتها الداخلية ومواقفها المضادّة للأسدية التي يجب أن تتخطّى العمل الجبهوي، وتنتج عكس ما أنتجته متفرقة عشرة أعوام مضت، وتدرأ عن السوريين ما سيأتي به حل سيبنى على أنقاض مجتمعهم، بينما كان على الذين مثلوهم وادّعوا قيادتهم إعادة إنتاج أدواتهم الحزبية والسياسية انطلاقا من الوضع الذي كان يعد بكسر قيود الأسدية التي لطالما شلّت قدراتهم.
بصراحة: أحزابنا وتنظيماتنا، التي لا ينكر منصفٌ نياتها الوطنية وعداءها للاستبداد، لن تنجح في تحقيق ما تعد به، إن بقيت محكومةً بتبعثرها وعجزها، وهي ستزول تماما، إنْ بقي عملها السياسي فئويا، ولعله لفت نظرها أن تصاعد النشاط الشعبي لم يعزّز أوضاعها بل همشها. لذلك، لن يكون تجميد نشاطها الحزبي الضيق، واندماجها في كيانية وطنية تتجاوز أوضاعها الراهنة، تخليا عنها كأدوات صراع فاعلة، بل سيكون تخلّيا عن أدوات عاجزة وفي طور التلاشي، تتربص بها كارثة لن تنجح في صدّها إن حافظت على حالتها الراهنة، ولم تنتقل إلى حالٍ تتجاوز نفسها من خلالها، تجمعها على هدفٍ واحد، هو انتقالها إلى تنظيم تشاركي وديمقراطي، قيامه شرط تجاوز المجتمع السوري واقعه الراهن لأول مرة في تاريخه، عبر تنظيم وطني تعدّدي، لكنه، في الوقت نفسه، اندماجي، أسوة بالأحزاب التي حملت رسم “المؤتمر الوطني”، وقادت نضال شعبها من أجل الاستقلال وطردت الاستعمار من بلدانها، على أن يتم اختيار قيادته الموحدة وأمينه العام بالتناوب، من صف شبابٍ يتمتعون بالمعرفة، تزوّدهم جهاتٌ استشاريةٌ بما يكفي من خبرةٍ في حقول السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، ويضم كل معادٍ للاستبداد وعامل للخلاص منه، بعيدا عن أيديولوجيته ومذهبه وانتمائه السياسي، فردا كان أو تجمعا، ليبدأ بذلك العمل من أجل البديل، وتبرز الجهة التي ستقوده، بطابعها الوطني القادر على إخراج “المعارضة” من تيهها الشامل، ولإدراج مجمل أوجه وجوانب العمل العام في برامجها، وصولا إلى:
أولا، توحيد النخب التي نشأت قبل الثورة وبعدها، وبدل أن تتّحد حول نقاط ثقل سياسية وبرنامجية، تفرقت أيدي سبأ، وخلت أكثر فأكثر من نقاط استقطاب وتفاعل تتمحور حولها، وتتكفل بتفعيلها، وها هي تتناحر حول كل كبيرة وصغيرة، وتلتقي اليوم لتتباعد غدا، وتحل ما توجهه من مشكلات بالكلام، وتثقل على الشعب المضحي بما تنخرط فيه من بؤس، مع أنها قد تكون إحدى أكبر قوى الثورة وأكثرها تأثيرا وفاعلية.

أحزابنا وتنظيماتنا، التي لا ينكر منصفٌ نياتها الوطنية وعداءها للاستبداد، لن تنجح في تحقيق ما تعد به، إن بقيت محكومةً بتبعثرها وعجزها

ثانيا، بناء ساحة خارجية للثورة تستكمل ساحتها الداخلية المتجدّدة، وما تشهده من تطورات إيجابية تتيح لها النشاط في إطار دوائر إعلامية وسياسية وقانونية ومالية وثقاقية، لكل دائرة منها مكاتب تغطي بلدان انتشار السوريين، ومندوبين في التشكيل السياسي الموحد ودوائره القيادية والتوجيهية.
 ثالثا، توحيد تنظيمات المجتمع المدني، الناشطة في الداخل خصوصا، ويتسم عملها بالجدّية والقبول الشعبي، لاتصالها بالناس خدميا ووطنيا. هذه التنظيمات يمكن أن تتسع لتضم تشكيلات نخبوية عديدة وفئات متعلمة ومثقفة تلعب دورا وازنا في إحياء الحراك السلمي والمدني في بلدان اللجوء أيضا، وفي الداخل السوري بجميع مواقعه: من البحر إلى حدود العراق، ومن حدود الأردن إلى حدود تركيا.
هذا التحول في وضع الثورة الذاتي سيدمج ويوحد أول مرة في تاريخنا تمثيلات سياسية ومدنية متنوعة، وسيلزمها بعمل دلالته الوحيدة حاضنته المجتمعية الموحدة وطنيا، التي سيعظم قدراتها التكامل بين ساحتي الثورة المنظمة والعفوية، الداخلية والخارجية، القيادية والقاعدية، السياسية والمقاومة، وسيبقي شعلتها وهاجة، ومطالبها راهنة وضاغطة.

البديل الثاني: إن كان البديل الأول مستبعدا، لأسباب منها الأنانية الحزبية، والافتقار التاريخي إلى الخبرة الضرورية للعمل الثوري في سياقه العام، فإنه سيكون باستطاعة الأطراف الحزبية والسياسية والمدنية إقامة “جبهة وطنية” تجافظ على تنظيماتها، لكن قيادتها المتوافق عليها تنسق أعمالها وتوحد خططها، لتحقيق هدفين استراتيجيين: مواصلة المعركة ضد الاستبداد، بغض النظر عن حل الصراع الراهن أو تسويته، والدفاع عن جميع فئات الشعب من دون أي تمييز بينها، وعن حقها في إقامة نظام ديمقراطي بديل للأسدية، التزاما بالخطوات الجبهوية التالية:
 أولا: إجراء حوار معمق ومخلص حول أسس خطط تحدّ من الخلافات السياسية القائمة بين الأحزاب، وتبني قراءات مشتركة لاستراتيجية العمل في المرحلة الراهنة، تحول دون بروز اجتهاداتٍ لدي أي منها، تسهم في تفريق ما بقي لدينا من حاضنة مجتمعية، والإبقاء على تناقضاتها وخلافاتها في الحقل السياسي الخاص بها والعام. بتخطي الفرقة والخلافات في مرحلة أولى، وبإزالة ما يترتب عليها من تباين في القراءات والمواقف حيال القضايا السورية، ومن أحكام مسبقة تعمّق الهوة القائمة منذ زمن طويل بين التيارين، الديمقراطي والإسلامي، وأثبتت حقبة ما بعد الثورة أن أحدا لم يفد منها غير الأسدية، لكونها لم تساعد أيا منهما على إحداث تحوّل، مهما كان بسيطا في ميزان القوى مع السلطة، أو لوقف تدهور الثورة، وكبح ما شهدته من تراجع حثيث في أوضاعهما وقدراتها.

إقامة حكومة تحافظ على علاقات الحقل السياسي الجبهوية يبقى الخيار الأفضل بعد قيام النظام الديمقراطي الذي تجب حمايته من تناقضات وصراعات خطيرة

ثانيا: الانتقال من طور الخلافات والتباينات العبثية الراهن، الذي يجب أن تزول بفضل التوافق على العمل الجبهوي وأسسه، إلى مرحلة ثانية ينضبط العمل خلالها بقرارات هيئاته القيادية المشتركة، التي ستقود المرحلة التوافقية بحد أدنى من تباين حسابات الأطراف الجبهوية وخياراتها، بالاستناد إلى ما تمت بلورته من برامج وخطط جبهوية على الصعيدين، النظري والتنفيذي، تنظم شراكتها وتلزم تنظيماتها بما بينها من أعمال موحدة، وتزيل نقاط ضعفها التي لطالما جعلتها لقمة سائغة للأسدية، وعزلتها بعضها عن بعض، وعزّزت مآزقها، وغلبت دوما تمسكها بانتماءاتها الذاتية محض الحزبية، قليلة الفاعلية بالنسبة لانتمائها الوطني الذي كان عليها رؤية نفسها بدلالته، بدل رؤيته بدلالة وضعها الخاص، الضيق والجزئي، الذي قيد مقاومتها للاستبداد قبل الثورة، وأضرّ جدا بحاملها المجتمعي بعدها، وكرّس رهانين متعارضين لها، قال أحدهما بالحرية والديمقراطية، والآخر بالدولة الدينية، فكان من الحتمي أن يلعبا دورا خطيرا في ما آل حالها إليه من مآزق، وأن يسهما في تنافسهما على السلطة، بدل تركيز جهودهما على تعبئة قدرات الشعب الثورية وتقنينها، واستخدامها لمواجهة ما اعترض سبيلها من عقباتٍ فشلت في تخطيها. هذه المرحلة، الثانية من البناء الجبهوي، يجب أن تتأسّس على أعظم قدر من الوحدة ضد الأسدية، والإرهاب والتطرّف، وأن تتعين بتوافقات سياسية وتنظيمية لا رجعة عنها، بغضّ النظر عن نهاية الصراع في سورية، فإن كان لصالح الأسدية حافظت أطراف الجبهة عليها وبقيت موحدة، وواصلت نضالها من أجل هدفيها الاستراتيجيين السابق ذكرهما. أما إذا جاءت التسوية متوازنة، كان عليها توطيد نضالها الموحد من أجل النظام الديمقراطي الذي ستدخل بعد قيامه في مرحلة ثالثة، ستلي تغيير النظام، وستمكّنها من استعادة وضعها الحزبي الخاص، إن كان ذلك لا يُفضي إلى تهديد النظام الجديد. عندئذ، سيكون باستطاعتها التقدّم منفردةً إلى الانتخابات البرلمانية، والانفراد بتشكيل الحكومة، من دون التخلى عن التزامها لأي سبب وتحت أي ظرف بالأسس التي نهضت عليها رؤيتها الجبهوية الوطنية في المرحلة الأولى، وضبطت نضالاتها المشتركة في المرحلة الثانية، بالنظر إلى أن استقرار الدولة وشرعيتها سينضبط بهذه الأسس التي ستغدو أسسا ما فوق حزبية للدولة، وستبقى فوق تباينات الساحة السياسية وخلافاتها، وما ستشهده من قراءاتٍ حزبيةٍ متنوعة، وربما متباينة، لها، وما قد يترتّب عليها من خلافاتٍ محتملة لا يجوز أن تتخطى الإطار الحزبي وتبلغ الصعيد الدولوي، ما فوق الحزبي، الذي سيتكفل بضبط قراءاتها المختلفة باختلاف البرامج الحكومية والحزبية.
لا داعي للقول إن إقامة حكومة تحافظ على علاقات الحقل السياسي الجبهوية يبقى الخيار الأفضل بعد قيام النظام الديمقراطي الذي تجب حمايته من تناقضات وصراعات خطيرة، يرجّح أن تعرفها فترة الانتقال إليه.
أخيرا: في ظل ما أراه من تدمير مجتمعنا هدفا رئيسا للأسدية وداعميها، أعتقد أن رفض دمج وتوحيد ما لدينا من تنظيمات وتيارات سياسية ومدنية طوال حقبة الصراع مع الأسدية سيكون وخيم العواقب. وأن عدم الأخذ به يعني أننا لم نفهم ما وقع حقا في الحقبة التي نعيشها، وفاتنا وعي مراميها وأبعادها، وعالجنا بوسائل عاجزة وناقصة مأزقا لا تصلح لمعالجته، كما أعتقد أن رفض العمل الجبهوي سيكون خدمة ثمينة جدا للأسد الذي لعبت أخطاؤنا دورا لا يستهان به إطلاقا في انقاذه.

البديل الثالث: هناك بديل ثالث يقوم على محافظة الأطراف السياسية على أوضاعها التنظيمية والسياسية الراهنة، والحدّ مما يلازمها من تبايناتٍ وخلافاتٍ وتوجس وشكوك. يقترح هذا البديل قيام التيارات المختلفة وتنظيماتها بجهدٍ يصحّح ما شاب مساراتها من أخطاء وعيوب، وهو كثير جدا وخطير، وببلورة رؤى وخطط تقرّبها من الحاضنة المجتمعية، وتجدّد التزامها بالحرية ومحاربة الاستبداد بمختلف أشكاله وأنواعه إلى أن يتم التخلص منه، وبالدفاع عن الشعب السوري: هدف أعدائه الأسديين الطائفيين، والمذهبيين المتطرّفين، الرئيس، على أن يطال الإصلاح قيادات التنظيمات والأحزاب وبناها، وخططها، وأولوياتها، وأساليب اشتغالها، وممارساتها، وعلاقاتها ببعضها وبالمجتمع السوري، وتعد نفسها لملاقاة مرحلة ما بعد العمل المسلح التي ستكون مرحلة انتقالية، إما إلى أسديةٍ من دون مجتمع، أو إلى مسارٍ يحمل من الممكنات المتنوعة بقدر ما يتوفر ميزان قوى يرغمها على التراجع، مهما كان محدودا وجزئيا، عن الخيار البديل الأول، في مرحلةٍ سيملي أخذها بجدّية مهاما نوعية وجديدة على أحزاب الطرف المواجه للأسدية وتياراته وتنظيماته، الأسدية التي ستجد نفسها أمام تحدٍّ لا قبل لها في أوضاعها الراهنة بمواجهته وتخطيه، يتمثل في ظروفٍ جديدة لا تقارن مصاعبها بالمصاعب التي همّشتها، على الرغم من الفرص التي أتاجتها لها للرافعة الشعبية الثورية، وأغرقتها في العجز عن القيام بواجبها في ترقية التمرّد الثوري المجتمعي إلى ثورة، وبلورة ما كان هذا الارتقاء يتطلبه من برامج وخطط ضرورية لتوحيد الحراك وتنظيمه، ولبناء قيادة ومرجعة له، مؤهلة للإمساك بأعنّة الحدث، وقيادته إلى نهاية ظافرة.

أمام مجتمعنا إما الصيغة الاستبدادية التي عرفناها قبل الثورة، أو أن يتولى السوريون إنقاذها من الأسدية والاحتلال الاستعماري

يقف مجتمعنا، وتقف دولتنا، أمام تحوّل مفصلي، فإما أن يذهبا إلى وضع يقلعا فيه عن الوجود، حتى بالصيغة الاستبدادية التي عرفناها قبل الثورة، أو أن يتولى السوريون إنقاذهما من الأسدية والاحتلال الاستعماري. بما أن شروط الاحتمال الأول تكاد تكون مكتملة النضج، فإنه لا يبقى من خيار للوطنيين غير الشروع في عمل إنقاذي، ينجيهم من الهلاك مواطنين في شعب، ومن التشرّد في أربع أصقاع الأرض، قبل أن ينقذها هي من مصيرٍ يكاد يصبح واقعهم وواقعها.

 

 

 

 

الكاتب: ميشيل كيلو – المصدر: العربي الجديد