سورية في المدارين الروسي والإيراني

21

26346851212

يوماً بعد يوم، يثبت بالدليل القاطع أن روسيا وإيران مستعدتان للذهاب إلى آخر الطريق من أجل تثبيت الوضع في سورية لصالح نظام بشار الأسد. بالنسبة إليهما هذا الصراع وجودي، ويتعاملان معه بصفته هذه، لذا فإن خياراتهما فيه محدودة جداً وتقع بين حدين متناقضين، إما أن تبقى سورية تحت حكم الأسد أو لا تكون.

 

 

تشارك روسيا وإيران بشكل علني ومكشوف في دعم حليفهما، كما أنهما تستخدمان كل طاقتهما الحربية، وعلى كل المستويات، من العتاد والمقاتلين والخبرات وحتى هندسة أرض المعركة، وتبدي الدولتان استعداداً كبيراً لاستمرار مثل هذا الدعم، ذلك أنهما تعتبران أن سورية تشكل جزءاً من منظوماتهما الأمنية والأيديولوجية، وتحت هذا الاعتبار يرفع البلدان من منسوب تقديراتهما للأهمية المصلحية لسورية، الأمر الذي يجعل من الأثمان التي تتكلفها الدولتان أمراً يمكن تبريره وقبوله باعتباره ضرورة لا بد منها.

 

 

فسورية بالنسبة إلى موسكو وطهران تشكل لب عقيدتهما الإستراتيجية، وقلب «الجغرافيا السياسية» لهما، وفي التقييم الجيواستراتيجي الروسي والإيراني عن سورية، تختلط الخرائط بسياسات الهوية بأنابيب النفط بتصورات خاصة عن القدر الحضاري، لتنتج عنها جملة من الرؤى والتصورات المتعلقة بالمجال الحيوي، مناطق النفوذ، تقسيم العالم، خطوط التماس ونطاقات تصادم القوى، هي الجناح الجنوبي لجيوإستراتيجية الطرفين.

 

 

لم يتعاطَ الروس والإيرانيون مع الثورة السورية سوى بوصفها حدثاً مؤامراتياً جرى تصنيعه في مختبرات أجهزة الاستخبارات الغربية للانقضاض على أدوارهما الناشئة في المنطقة ولوقف تمددهما باتجاه سواحل البحر المتوسط، أو كمقدمة لاختراق حوافهما الجنوبية، وفي الإدراك الروسي، فإن انتصار الثورة في سورية سوف يجعل ظهر الجنوب الروسي منكشفاً أمام مد «الراديكاليات الإسلامية: التي تخوض روسيا ضدها حرباً ضروساً في الجنوب، في الوقت الذي تشكل فيه سورية بالنسبة إلى إيران، اختراقاً متقدماً في العالم السني وجسراً لربط هلالها الشيعي الممتد من طهران إلى جنوب لبنان.

 

 

وفق هذا الإدراك تغدو سورية لدى دوائر صنع القرار في روسيا وإيران مجال نفوذ حيوياً لهما، من خلاله تمكن حماية أمنهما القومي المهدد دائماً بالأخطار، فالدولتان مهجوستان بشيء اسمه تهديد غربي لوجودهما ومشاريعهما، ولديهما تصور راسخ بأن كل سياسات الغرب في السنوات الأخيرة في المناطق المحيطة بهما لم تكن سوى محاولات لاحتوائهما إستراتيجياً ضمن المشروع الغربي الهادف إلى السيطرة على العالم وإعادة صياغته بما يخدم مشاريعه الكونية الكبرى، لذا، فإن السلوك الموازي لكل من روسيا وإيران والجهد الحثيث في تطوير ترساناتهما العسكرية وتوسيع مدى نفوذهما، ليس سوى نوع من الاستجابة لما يعتقدانه تحدياً مفروضاً عليهما.

 

 

وثمة اعتبارات أخرى تدخل في إطار ما يسمى المصالح الإستراتيجية في سورية لكل من روسيا وإيران، حيث تشكل سورية رابطاً جغرافياً مهماً لمشاريع النفط والغاز للبلدين، فتتجه روسيا إلى احتكار سوق الغاز ومواقع إنتاجه على المستوى القاري وتتطلع لمد سيطرتها على المنتج برمته على مساحة واسعة من العالم، وفي هذا الصدد تسعى لاحتكار الغاز المنتج في الشرق الأوسط عبر احتكار التنقيب عنه في شواطئ البحر المتوسط، وتشكل سورية بهذا الصدد واسطة العقد، كما أنها الممر الأرضي الإجباري باتجاه أوروبا لمد خطوط نقل الغاز، في خطوة تهدف أيضاً إلى حرمان الخليج العربي هذه الميزة، وخاصة بعد اكتشاف كميات تنافسية في قطر والسعودية والإمارات توازي كتلة الاحتياطي الروسي من الغاز، بوصفها صاحبة المرتبة الأولى.

 

 

وكذا بالنسبة إلى إيران، التي تعول على احتياطيها من الغاز، حيث تحتل الترتيب الثاني في هذا المجال على المستوى العالمي بعد روسيا، وقبل قطر بكميات بسيطة، حيث ترتبط مصالحها هنا بالشريك الروسي الذي يسعى إلى إخضاع أوروبا لهيمنته بسبب حاجتها إلى صادراته من الغاز. والغريب أن رأس النظام السوري كان قد طرح نظرية إستراتيجية قبل الثورة بأعوام، تقوم على فكرة ربط البحار الموجودة في المنطقة وربط الموانئ الرئيسية فيها بخطوط نقل النفط والغاز القادمة من آسيا وإيران إلى أوروبا، على أن تكون الأرض السورية جزءاً من هذا الرابط، وقد سمى مشروعه هذا حينها بمشروع «البحار الخمسة».

 

 

لا شك في أن جملة هذه الاعتبارات الأمنية والاقتصادية والأيديولوجية، تأخذ مسارها في سياق تصعيب الحل السوري ودفعه باتجاه واحد، إما أن تعود سورية كما كانت قبل 15 آذار (مارس) 2011 أو لا تكون لأحد، وهذه ليست خلاصة تحليلية استشرافية بل هي عبارة نطقها المرشد الإيراني علي خامنئي أمام احد الديبلوماسيين العرب في بداية الثورة السورية، وهي تحولت إلى موقف صلب على الأرض وقاعدة يعمل بها حلفاء بشار الأسد في طول الأرض السورية وعرضها، ويطبقها وكلاؤهم على الأرض تحت شعار «الأسد أو نحرق البلد».

 

 

وبالتالي، فإنه لا تمكن مواجهة قناعات وسياسات صلبة بمجرد تكتيكات تجريبية هنا وهناك، فلا يمكن إيقاف هذا الزخم الآتي من روسيا وإيران من دون أن يصدر حلفاء الشعب السوري إستراتيجيات مواجهة جدية وفاعلة لكسر ذلك التصميم وإفشاله وإثبات عدم جدواه وضرره، لأن ذلك وحده ما سيساهم بإقناع موسكو وطهران بضرورة التراجع عن تلك السياسات، فطالما ظلّ الروس والإيرانيون على قناعة بأنهم لا يواجهون سوى الشعب السوري الأعزل، وان لديهما الهامش من الوقت والذخائر لتجريبها على السوريين، فلن يتراجعوا. وحده منطق تهديد المصالح والعقاب على الجرائم هو الذي ينقذ الشعب السوري من هذا التكالب ويخرج سورية من مدار أسوأ قوتين أخلاقيتين معاصرتين، ذلك أن شطحاتهما قد توصلهما إلى حد تدمير سورية وتمزيقها والجلوس على أطلالها، ولو على كورنيش ميناء طرطوس أو في مصيف دريكيش.

 

غازي دحمان