سورية وميراث الحرب العالمية الثانية

23

كانت الحرب العالمية الثانية قد أورثت سورية ثلاث أدوات مكنتها للمرة الأولى أن تكون بشكلٍ ما «جزءاً من العالم». فهي سمحت بأن تتحول البؤر النُخبوية الصغيرة للأفكار الماركسية الشيوعية أحزاباً وحركاتٍ شعبية، وتحولت معها النتاجات الثقافية والسياسية الشيوعية المُترجمة إلى أدوات للتفكير والنقاش العام، استطاعت عبرها الكُتل الشعبية الموالية لهذه التنظيمات أن تحاجج التراث الثقافي والفكري لـ «سورية القديمة».

كانت تلك النتاجات المُترجمة بوابة لكُل ما يُمكن أن نُسميه «الحداثة الاجتماعية» التي واجهت ما كان عالقاً وباقياً في مجتمعاتنا من ميراثها العثماني.

من جهة أخرى، أثبتت الحرب للقوى الاستعمارية في بلداننا أن استمرارها المديد على أشكال احتلالات عسكرية في هذه البلدان غير مُمكن. بذا نزعت القوى الاستعمارية لأن تسعى لتوافقات سياسية مع نُخب الحُكم والقوى المُناهضة لها، وتُوجت تلك الديناميات التوافقية باستحصالنا في النهاية على «دولةٍ حديثة»، بمؤسسات ساهم هؤلاء المُستعمرون في بنائها بشكل مُطابق لما كانت حالها في بُلدانهم، وشرائع وقوانين لا علاقة لها تقريباً بما ساد في منطقتنا لقرونٍ كثيرة.

أخيراً فإن الأزمة الاقتصادية للحرب في أوروبا، خلقت الآليات لأن تتفاعل القوى الاقتصادية في سورية مع نظيراتها الأوروبية، وأن تُنمي مواردها وتطور أدواتها الاقتصادية. كانت المصانع والمؤسسات البنكية والزراعة بأدواتٍ حديثة من نِتاج هذه العلاقة الثُنائية، وكانت هذه العوالم الاقتصادية أدواتٍ لخلق عالم «الديموقراطية البورجوازية». فبالعودة إلى أرقام التنمية الاجتماعية والاقتصادية خلال عقدي الأربعينات والخمسينات، يُستدل بأن سورية كانت دولة أخرى تماماً، تصل فيها نسبة النمو وبشكل متواتر إلى قُرابة 9 في المئة.

كانت الأسدية وريثة نهائية لكل أشكال الأنظمة الاستبدادية التي حكمت سورية بعد فترة قصيرة بين نهاية تلك الحرب وبداية القضاء على ذلك الميراث، بدءاً من حُكم العسكر الانقلابيين ثم الناصرية الأيديولوجية وانتهاء بالعُصبوية البعثية. لكن السر في قُدرة الأسدية على الاستمرار من دون أن يصيبها الانهيار السريع الذي أصاب أشكال الحكم الاستبدادية التي سبقتها هو قُدرتها على خلق مساومات مُستترة مع تلك الديناميات الثلاث.

استعملت الأسدية أداة بسيطة في عملية احتوائها لهذه المنظومات، ففصلتها عن السياسة، وبقولٍ أكثر دقة «فصلتها عن السُلطة»، حيث احتفظت الأسدية بهذه الأخيرة وبشكل احتكاري تام لنفسها.

سمحت الأسدية لنُخب الاقتصاد السوري، خصوصاً كبار تجار وصناعيي المدن، بأن يُنمّوا أعمالهم وثرواتهم، لكن من دون أن يُسمح لهم بإنشاء أحزابٍ أو جمعياتٍ تمتهن السياسة وتسعى إلى مشاركة الأسدية سلطتها المطلقة. وبالتقادم كان ينهار ذلك التوازن، فتطمع الأجيال الأحدث من موالي الأسدية إلى الشراكة مع هؤلاء التُجار والصناعيين، وبرأسمال وحيد هو السُلطة. وكان ذلك بالضبط بوابة القضاء التام على الاقتصاد السوري.

الأمر ذاته كان ينطبق على التيارات السياسية والفكرية الأيديولوجية التي كانت بوابة «العالم الحديث» إلى المجتمع السوري، من الحزب الشيوعي السوري وحتى حزب البعث نفسه. فقد سمحت الأسدية لها بأن تستمر، لكن فقط كأجهزة خِطابية، معزولة تماماً عن أي فعلٍ أو تطلُعٍ سياسي. ولنفس السبب، وبالتقادم نفسه، انهارت كُل هذه الديناميات المعرفية والنُخب الحديثة لمصلحة نظيراتها «الرجعية»، انهار صادق جلال العظم على يد محمد سعيد رمضان البوطي، وانهار الحزب الشيوعي السوري لمصلحة الإخوان المُسلمين.

الأمر نفسه كان ينطبق على الدولة السورية ذاتها، فكُل مؤسساتها وشرائعها ومواثيقها بقيت بشكلٍ هيكلي مُحافظة على البُنية التي ورثتها عن تلك السنوات، لكنها جميعاً أفرغت تماماً من مضمونها الفعلي الحقيقي. كان ثمة برلمان في سورية بانتخابات متواترة مُنتظمة، لكن من دون حياة قط، وكانت ثمة مخافر للشرطة، لكنها كانت تطلب من المواطنين أن يُنهوا خلافاتهم عبر المُصالحات العشائرية، وكان ثمة دستور في سورية، لكن قانون الطوارئ بقي يحكُمها فعلياً لأكثر من نصف قرن، وكان كُل شيء على ذلك المنوال.

من هُنا، ثمة قوسٌ كبير يجب أن يُفتح حول مسألتين ما زالتا بالغتي الحيوية في النقاش العام السوري مُنذ بدء الثورة السورية وحتى اليوم: هل كان أيُ إصلاحٍ ما مُمكناً في، ومع، الدولة الأسدية، وهي التي كانت مُتخمة بغريزة القضاء على كُل ذلك الميراث الذي كانت تعتبره عدو سُلطتها المُطلقة، وعدو أساس وجودها؟، وهل لا يزال أي تحولٍ سياسي بُنيوي ممكناً، الآن ومُستقبلاً، من دون القضاء على الدولة الأسدية نفسها، وبكل مؤسساتها الحقيقية؟!

رستم محمود

المصدر: الحياة