صاروخ روسي يضرب علاقة موسكو بتل أبيب

29

لم يكن مستغرباً ربط نتائج الحرب الروسية في أوكرانيا بالملف السوري. اتهامات وزير الخارجية الروسي، لافروف، لإسرائيل بتمرير مقاتلين مرتزقة للقتال إلى جانب الأوكرانيين، ونسبه الخلفية اليهودية لزعيم النازية هتلر، كانا ردّاً على موقف تل أبيب المتماهي مع الغرب والعقوبات الغربية نتيجة الحرب في أوكرانيا، وتلك أمور عكّرت صفو العلاقات الإسرائيلية الروسية التي جعلت من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، ننتياهو، يحجّ إلى موسكو بشكل دوري لتنسيق الأعمال العسكرية في سورية، خصوصاً بعد تعهّد موسكو خلال السنوات الأخيرة بتحجيم الوجود الإيراني في سورية، واستمر صفو العلاقة بين القيادتين، الروسية والإسرائيلية، مع حكومة الاحتلال الراهنة، برئاسة نفتالي بينت.
منذ التدخل العسكري الروسي الميداني في سورية في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015، حافظت تل أبيب على علاقاتٍ طيبة مع موسكو، بعد إحداث خط ساخن بين غرفة عملياتها في حيفا وعمليات قاعدة حميميم، والاتفاق على التنسيق الدائم بما يخص الملف السوري، بعد شروط متبادلة وضعها كل طرفٍ على الآخر، لضمان حسن سير العمل وعدم الوقوع في أخطاء تتسبّب بصدام عسكري في السماء السورية، فتعهدت موسكو بعدم إعاقة ضربات الطيران والصواريخ الإسرائيلية، وتعهدت تل أبيب، في المقابل، بعدم إحراج الروس وتنفيذ ضرباتها الجوية ليلاً، واختلفوا على جزئية زمن الإعلام المسبق عن الضربات. وكانت موسكو تصرّ على 15 دقيقة ما قبل الضربات، وأصرت تل أبيب على ما بين ثلاث وخمس دقائق فقط، حرصاً على سلامة طياريها، ولمنع فشل ضرباتها، لأنها لا تثق بالروس، لأنهم حكماً سيبلغون إيران وحزب الله ونظام الأسد عن المواقع المستهدفة.

حافظت موسكو، نحو سبع سنوات، على عدم التعرّض المباشر للهجمات الإسرائيلية في الأراضي السورية

حافظت موسكو، نحو سبع سنوات، على عدم التعرّض المباشر للهجمات الإسرائيلية في الأراضي السورية، والاكتفاء ببيانات تنديدٍ إعلامية روتينية لا تزعج تل أبيب، لكن القيادة العسكرية الإسرائيلية لاحظت، في بعض الأحيان، أن عملية التصدّي لصواريخها المطلقة على أهداف للحرس الثوري الإيراني، أو لمواقع تتبع حزب الله، كانت تتعرّض لمضادّات ليست سورية، ثم أعلنت قاعدة حميميم صراحة أن مضادّاتها الجوية شاركت في التصدّي لصواريخ أطلقتها طائرات إسرائيلية من فوق قاعدة التنف، وأن تصدّياً روسياً آخر جرى لصواريخ أطقت على أهداف إيرانية في محيط السيدة زينب وفي منطقة الكسوة. وقالت مصادر وزارة الدفاع الإسرائيلية إن مراصدها ووسائط استطلاعها أكدت وجود زيادة في أعداد بطاريات الدفاع الجوي لدى نظام الأسد من منظومات “بوك إم2” و”بانتسير”، ما يدلّ على دعم روسي جديد وواضح لنظام الأسد لإفشال الضربات الإسرائيلية.
ترافقت مواقف تل أبيب الداعمة للغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا مع اضطرار روسيا لسحب عدة قيادات ميدانية من جنرالات الروس العاملين في قاعدة حميميم والجبهات الساخنة في سورية إلى غرف عملياتها في أوكرانيا، ومنهم الجنرال ألكسندر دفورنيكوف الذي نقله بوتين من سورية، وعينه قائداً للقوات الروسية العاملة في الأراضي الأوكرانية، وترافقت تنقلات الضباط الروس مع انسحاب عدة وحدات روسية مقاتلة من نقاط عسكرية مهمة، كانت تشغلها في حلب وحماة وتدمر وأرياف الرقة، وتلك الفراغات العسكرية استغلّها الجانب الإيراني، وقام بالسيطرة عليها، خصوصاً بعد زيارتي استجداء لطهران، قام بهما اللواء علي مملوك ورئيس النظام السوري بشار الأسد، وتمحورت معظم نقاشات الزيارتين على كيفية ملء فراغ الانسحاب الروسي (الجزئي أو الكلي)، لمنع تغيير موازين القوى والخرائط الحالية داخل سورية على أقل تقدير.

اتخذت إسرائيل، في المرحلة الأخيرة، إجراءات احترازية لمنع الصدام مع الروس

التغوّل الإيراني في الجغرافيا السورية وسيطرة الحرس الثوري الإيراني على مراكز البحث العلمي ومراكز التصنيع السورية، مع زيادة طاقة خطوط الإنتاج العسكري من صواريخ معدّلة تمتلك زيادة في دقة إصابتها، وقرار إيراني جديد بتحديث مخزون حزب الله من صواريخ تقليدية، ومع تراجع موسكو عن تعهداتها لتل أبيب بتحجيم الوجود الإيراني في سورية وإبعاده عن الجولان ما بين 40 إلى 80 كم، خصوصاً بعد وصول مليشيات إيران للانتشار على بعد مئات الأمتار من الحدود السورية مع الجولان المحتل، الأمر الذي أتى بعد نقل إيران مليشيات “كتائب الإمام” من مواقعها في الميادين والبوكمال والبادية السورية إلى أرياف القنيطرة وأرياف درعا في الجنوب السوري، هذا ما انعكس تصعيداً إسرائيلياً عبر ضربات صاروخية وجوية متتالية، لكن إسرائيل اتخذت، في المرحلة الأخيرة، إجراءات احترازية لمنع الصدام مع الروس، فباتت ضرباتها ضد أهداف حزب الله والحرس الثوري الإيراني في سورية تجرى إما عبر صواريخ أرض – أرض تطلق من مرابض تتموضع في الجولان السوري المحتل، أو عبر طائرات تقصف من خارج الأجواء السورية عبر سماء لبنان أو البحر المتوسط، وفي الحالات الحرجة تستخدم إسرائيل طائرات من طراز إف 35 العصية على الكشف بوسائط الاستطلاع الروسية الأكثر حداثة.
قصفت طائرات إسرائيلية، في 14 مايو/ أيار الحالي، مواقع الحرس الثوري الإيراني في منطقة مصياف في أرياف حماة، حيث يوجد أحد مراكز البحث العلمي، وأطلقت حينها 22 صاروخاً، جرى اعتراض بعضها ووصل الآخر إلى أهدافه. ولدى تشغيل نظام الأسد بطارية دفاع جوي للاعتراض، دمّرت الطائرات الإسرائيلية تلك البطارية، وفجأة تخرج قاعدة حميميم لتعلن عن إطلاقها صاروخاً من إحدى قطعاتها العسكرية باتجاه طائرة إسرائيلية شاركت في الهجوم على أهداف إيران في سورية، وتذرّعت، بحسب مصادر خاصة، بأن هذا كان رداً على تهديد أحد صواريخ الطائرات الإسرائيلية إحدى عربات منظومة الدفاع الجوي الروسية إس 400 التي تنتشر في منطقة مصياف.

موسكو غير قادرة على تخصيص الجهود الجوية الكافية لمواجهة القدرات العسكرية لإسرائيل

كان الخبر الذي أعلنته القناة 13 في التلفزيون الإسرائيلي مفاجئاً لكل التوقعات، وإقدام موسكو على تلك الخطوة، وإن تعمدت (بحسب مصادرها)، إبعاد صاروخها عن الطائرة الإسرائيلية لعدم إصابتها والوقوع في صدام غير محسوب مع تل أبيب، يفتح العلاقات الروسية الإسرائيلية على الاحتمالات كافة، بما فيها احتمال صدامٍ عسكري فوق الأراضي السورية. ولكن موسكو المنشغلة عسكرياً اليوم بحربها على كييف، وتبعات تلك الحرب من عقوباتٍ غربيةٍ أنهكتها، وجعلتها تدفع أثماناً باهظة لها، ليست في موقع تحتاج فيه مزيداً من العداوات مع الغرب، إذا ما اصطدمت مع إسرائيل، وهي المدركة أن تل أبيب شكّلت، في وقتٍ ما، بوابتها للحوار مع الغرب، ومع السياسيين الأميركيين بالتحديد. وتدرك موسكو تماماً أنه في حال اندلاع مواجهة (ولو فرضياً) مع تل أبيب فهي غير قادرة على تخصيص الجهود الجوية الكافية لمواجهة القدرات العسكرية لإسرائيل، والتي تعد أكبر وأحدث قوة عسكرية جوية في جيوش دول منطقة الشرق الأوسط. وتدرك ايضاً أن قدرات إسرائيل في مجال الحرب الإلكترونية فائقة ومتقدّمة، وأن إسرائيل تتشارك مع الولايات المتحدة المركز الأول للدول المتقدّمة بتقنيات الحرب الإلكترونية والطيران المسير وعمليات التشويش الإلكتروني، وأن استخدام إسرائيل تقنياتها من التشويش الإلكتروني ضد الوجود الروسي في سورية سيجعل من شاشات راداراتها، وكل وسائط سطعها، بيضاء ومن دون قدرة على تشغيلها والاستفادة منها، بل أكثر من ذلك أن تقنيات التشويش الإسرائيلي قادرة على شل كل منظومات الاتصال الروسية البرّية والبحرية والجوية، وبالتالي ستكون الطائرات الإسرائيلية مفصولة تماماً عن قيادتها العملياتية بمجرّد إقلاعها عن مدرّجاتها في قاعدة حميميم.
وصلت الرسالة الروسية إلى تل أبيب، لكن الرد لم يأتِ بعد، فهل نكون أمام صدام حقيقي بين قوتين مدمرتين، وهو أمر مستبعد لكنه وارد، أم نكون أمام رسم قواعد اشتباك جديدة بين موسكو وتل أبيب، لن تتخلى فيها إسرائيل حتماً عن حريتها بقصف كل ما يهدّد أمنها القومي؟

المصدر: العربي الجديد

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.