صراع الذوات في رواية «رصاصة».. مغامرة فنية لكاتب سوري

39

يخوض الكاتب السورى فؤاد حميرة مغامرة فنية في رواية رصاصة الصادرة مؤخرا عن دار نشر «إنسان»، فهو ينطلق من ذات مشتتة، لا تعرف أبعادها الروحية أو النفسية فضلا عن الجسدية، ليطرح ما يسميه «سوق الأسئلة». وهى لعبة فلسفية محببة تبدأ بمعطيات واضحة إلا أنها لا تنتهى بالضرورة إلى نتائج محددة. بل سرعان ما تنبثق ذوات أخرى، تحفر عميقا في ذاكرة البشر، تصدمهم بأسئلة بديهية لدرجة مدهشة. عن الميلاد والحياة والموت والحب والكراهية والأسرة والمجتمع والدولة. بأسلوب أقرب للتداعى الحر، وتقنيات فنية ولغوية متعددة، تثير الخيال وتصنع جدلا بين النص والمتلقى، تتسارع حيوات الأبطال أو البطل ـ الراوى ـ المتعدد، وشخصيات قليلة تدور في فلكه، ويكاد الصراع يمتد بين الراوى وذواته، إلى درجة نفى كل ذات للأخرى، ومحاولة الاستئثار بالذات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة، والتخلى عن الذوات الأخرى رغم ما فيها من تفاصيل محببة ولمسات إنسانية شفافة. بأسلوب خاص ومميز يعرج الكاتب على تقنيات مسرح العبث.

حيث تعدد الذوات وصراعها مع المؤلف الذي يقوم بكسر الإيهام والإعلان عن نفسه ككاتب سيناريو، ويبدأ صراع جديد في وضع سيناريوهات تسعى لتفسير حالته الملتبسة بين ثنائيات مثل «الحياة والموت» و«الحلم والواقع» والرضا والتذمر، متذرعا بالفلسفة كقناع شفيف قادر على احتواء أسئلة تراوغ القناعات الجاهزة وتطعنها في مقتل. الأجواء الكافكاوية التي بدأت بها الرواية تعتبر سمة عابرة إذا توغلنا أكثر في تقنيات السيناريو وحالة النوستالجيا ولعبة الضمائر المدمجة والمتعددة ـ وهى لعبة جديدة. بقدر ما هي مرهقة في استيعابها، إلا أنها تحمل تجديدا في السرد وثورة في اللغة. كما لا يخلو العمل من مخاتلة تتمثل في عنوانه الذي ليس له حضور فاعل داخل النص. الحبكة الدرامية التي لا تقتصر على صراع «الذوات الراوية» بل تمتد لتتحول إلى نقاش مفتوح في قاعة محاضرات. لنصطدم بسيناريوهات متعددة وقد تكون لا متناهية. تعتمد الرواية على طرح ما يمكن تسميته بـ«الأسئلة الكبرى» التي تحدد علاقة الإنسان بوجوده.

والصراع بين حضوره المادى وهويته الروحية، وفى النهاية تترك الباب مفتوحا للذوات المتصارعة. منذ بداية الرواية يبدأ الجدل أو المونولوج الشخصى للبطل الراوى الأول باحثا عن حقيقته وعن أبعاده الروحية والمادية وهل هو على قيد الحياة ومستغرق في حلم أو كابوس أم أنه ميت، فهو لا يستطيع أن يحرك جسده، ولا يستطيع أن يسمع صوته، ويبدو الحوار بينه وبين عقله الباطن وكأنه صراع على إثبات الوجود، ويظل يبحث عما يثبت أنه حى، معللا الأمر بأنه ربما يكون في معتقل أو سجن أو يخضع لتعذيب من نوع ما، ومع مرور الوقت يكتشف أن جسده ليس جسده وأن ملامحه ليست هي التي عهدها ويعرفها جيدا، وأن زوجته وأبناءه ليسوا هم الذين يقفون أمامه ويحاولون أن يعالجوه مما يعتقدون أنه مس شيطانى أصابه، وحين ينجح في التحرر منهم ويذهب إلى بيته الذي يعهده لا تعرفه زوجته، هو ساقط إذن في فخ بين أهل لا يعترف بهم وأهل لا يعترفون به، ليجسد فكرة الضياع بشكل درامى غاية في القسوة والعنف، وفى الوقت نفسه يتأسى هذا الشخص على حضوره الجديد وكأن روحه حلت في هذا الشخص الأصلع الأسمر، في حين أنه كما يعهد نفسه كان وسيما وأبيض وليس أصلع، ويحاول تبرير ذلك بفكرة تناسخ الأرواح، ويبحث عن سبب حلول روحه في هذا الجسد الغريب.

يقوم الكاتب في نهاية الرواية بألعاب لغوية غاية في الحداثة والطرافة، فهو يقدم كلمات مثل «قاسى» و«لعل» و«روح» و«نهر» وغيرها مضافا إليها لصيقا بها ثلاثة ضمائر دفعة واحدة المتكلم والمخاطب والجماعة. ليصل في نهاية الرواية إلى خاتم الصراع بين ذوات البطل بطريقة تترك حياته مفتوحة للتأويلات ولخيال القارئ.

 

المصدر: المصري اليوم