صناعة عناصر التسوية في سورية

21

تدرك جميع الأطراف المعنيّة بالأزمة السورية أنّ الوضع الحالي لا يشكّل فرصة لصناعة تسوية في سورية، نظراً لحجم التعقيد الذي تنطوي عليه الأزمة وعدم وضوح الصورة، لكن إدراك المخاطر الكبيرة التي يولدها إستمرار الأزمة والتي تتوالد بشكل ميكانيكي مذهل، وكذلك إعتقاد الأطراف أنّه من المفترض قيامها بدور ولو بحدّه الأدنى يتطابق مع مسؤولياتها في حفظ السلام العالمي، وبخاصةً بعد إنجازها لما تعتقده صفقة العصر، الإتفاق النووي مع إيران، ومحاولة هذه الأطراف إستثمار مناخ التقارب الحاصل بينها على هامش مفاوضات النووي، يدفعها إلى محاولة تنشيط الحراك حول الملف السوري، أو أقلّه إبقاء المسألة مطروحة.

ملامح هذا الحراك وحدوده تكشف بشكل واضح أنّ سقف أطرافه منخفض وطموحاتها واقعية وغير مندفعة، ومن الطبيعي انها إستنتجت من خبرتها السابقة بأنّ التسوية لن تحصل لمجرد حضور أطراف الصراع إلى جنيف أو موسكو، تلك ليست سوى تكتيكات يمارسها الطرفان لتحسين مواقعهما الديبلوماسية، ولن تحصل التسوية نتيجة تصورات نظرية للحل يصوغها خبراء في العلوم السياسية عن طبيعة نظام الحكم وشكل الدولة. تلك قضايا جيدة لكنها متقدمة كثيراً وثمة فجوة كبيرة بينها وبين الواقع الجاري.

بدل ذلك يذهب الحراك الدولي بإتجاه صناعة عناصر التسوية، ويشير حتى اللحظة إلى محاولة بناء عناصر محدّدة تساهم في إنتاج عملية التسوية، وهذه العناصر تتمثل بوجود طرفين مستعدين للتفاوض ولذلك جرى التركيز في الفترة الماضية على بلورة طرف معارض واضح من خلال توحيد المعارضة السورية «الإئتلاف الوطني» و»هيئة التنسيق»، وثاني تلك العناصر وجود خريطة طريق للتسوية ويبدو أن خطوط هذه الخريطة تقوم على توحيد الجهود على محاربة «داعش» في مرحلة أولى قبل البحث في قضايا الحل الباقية والتي تأتي على رأسها المرحلة الإنتقالية والقوى التي ستقودها، وثالث تلك العناصر انخراط القوى الكبرى بإتصالات مع إيران تمهيداً لتعديل موقفها أو التوصل أقله إلى صيغة مقبولة معها.

يقوم التحرك المشار إليه على فرضيات يتطلب فحصها والتحقق منها على أرض الواقع، مثل فرضية أنّ «داعش» بات يمثل خطراً مشتركاً على جميع الأطراف الإقليمية والدولية وبالتالي وجود مصلحة عند الجميع للتوافق على آليات محاربته، ونقطة الضعف في هذه الفرضيّة أنّ الكثير من أطراف الصراع، بما فيها نظام الأسد وبعض القوى الإقليمية ترى في وجود «داعش» فرصة تكتيكية لها أكثر من كونه خطراً وجودياً عليها، وثمة فرضيّة أخرى قوامها وجود إختراقات إلى حد ما في الموقف الروسي تجعله أكثر مرونة وانفتاحاً على تقبل مقاربات جديدة لحل الأزمة وبخاصة بعد الإنفتاح الروسي على السعودية وطرح بوتين فكرة التحالف الرباعي في مواجهة «داعش»، وهذه الفرضية تعاني من ضعف أيضاً ذلك أن الموقف الروسي نفسه قام على فرضية خاطئة أساسها إعتقاد الكرملين أنّ أطراف التحالف المشار إليه باتت في موقف مأزوم جراء وصول الارهاب اليها، وبالتالي هي بحاجة لمن ينزلها عن الشجرة، والفرضية الثالثة تقوم على إحتمالات إنعكاس الإتفاق النووي مع إيران، بعد مدة زمنية، على مواقفها الإقليمية، وهو ما فنّده وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس بعد زيارته طهران.

هذا في الشكل العام، أما في ما يخص منهجبّة التحرك وآليات العمل، فيبدو أنّ الجهود الدولية تذهب بإتجاه تفكيك الواقع في سورية وتوضيح الصورة الداخلية والوضع الإقليمي المرتبط بها للبناء عليه، وفي هذا السياق تأتي مقترحات الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا «محادثات حول مواضيع محددة في شكل متواز أو متزامن، عبر مجموعات عمل بين السوريين». من هنا وبعكس المرات السابقة يجري التركيز على تفاصيل صغيرة تتعلق بالفوارق التفصيلية بين القوى الميدانية وأحجامها وإرتباطاتها ومدى فعاليتها، وهذا الأمر انعكس بشكل واضح على المدة الزمنية لإنجاز هذا التحرك إذ يبدو أنّ غالبية الأطراف ترغب في إستمرار حالة الستاتيكو القائمة لمدة أطول وعدم حصول تغييرات تخل بالتوازن القائم وتخلق معادلة جديدة وبخاصة من جهة فصائل المعارضة حتى يصار الى إنضاج عناصر التسوية بشكل أفضل.

لكن من الواضح أن أطراف الصراع الداخلية باتت على بينة بطبيعة الحراك وظروفه وبناء عليه راحت تعمل بدورها على صناعة حيثيات واضحة كأوراق مساومة قادمة وباتت تجهز النطاقات التي ستتحرك بداخلها وهو ما يقف في خلفية إعلان بشار الاسد نيته التمركز في مناطق محددة وفي محاولة «حزب الله» تفريغ المنطقة من الزبداني الى القصير من المقاتلين والسكان، وكذلك إقتراب الفصائل المقاتلة في الشمال من خط القرى العلوية بشكل أكبر، فيما يبدو أنه عمليات ترسيم حيثيات جغرافية لمرحلة التفاوض المنتظرة.

ولعلّ العائق الأكبر الذي يقف في مواجهة هذا التكتيك أنه يأتي متأخراً لدرجة أنه لا يصلح لتحقيق إختراقات مهمة في جدار الأزمة السميك، كما أن فعاليات هذا التحرك تبدو مقتصرة على بناء تصوّر في المدى المنظور وفهم الخريطة وترتيبها لإستيعاب تسوية ما، وهذا الأمر يحتاج مدّة زمنية تطول لأكثر من عام لبناء هذا السياق هذا اذا استمرت الأمور على سوية معينة من الزخم الديبلوماسي، إضافة إلى أن بؤرة هذا التحرك تنطوي على محاولة صناعة أوراق ضاغطة على أطراف الصراع وقادرة على تحريك مواقفهم ومواقعهم في الأزمة، وهو أمر تجاوزته ظروف الأطراف الميدانية التي تكيّفت بدرجة كبيرة مع الواقع وصنعت لنفسها مصادر تمويل في إطار إقتصاد الحرب ومصادر دعم بشري من البيئات المفقرة بازدياد يكفيها للقتال مدداً زمنية أطول حتى لو ضمن مساحات أضيق.

المشكلة أن صناعة عناصر التسوية هي نفسها قد تكون عناصر لزيادة تفجير الأزمة وإستدامة الحرب. أي خطأ بسيط في المقادير ودرجة الحرارة قد يحرق التسوية بدل إنضاجها.

 

غازي دحمان

الحياة