عار العرب ونعي الأمة: عندما تصبح المجازر وجهة نظر!

18

4343305015TH_SYRIA_1299995f

تابعنا خلال الأيام القليلة الماضية السجالات التي دارت وتدور في أكثر من عاصمة حول العالم عما تشهده سورية من جرائم ومجازر كان أفظعها قتل وإصابة الآلاف بالأسلحة الكيمائية الشهر الماضي. وكان من عجب تميز هذه المساجلات، حتى بين من يستنكرون هذه المجازر ويدعون إلى ردعها، بالاستخفاف بالإنسان السوري واعتبار ما يقع من عسف في حقه مسألة تخضع لحسابات لا تتعلق بالإنسان وقيمته. فهناك من ينكر وقوع هذه المجازر في الأساس، أو يلوم ضحاياها. وهناك أيضاً من يرى أن هذه المجازر جائزة، بل وواجبة، وأن ضحاياها إما أنهم لا يستحقون الحياة، وإما أن التضحية بهم ‘ثمن يستحق الدفع′ كما قالت طيبة الذكر مادلين ألبرايت حول موت مئات الآلاف من أطفال العراق نتيجة الحصار الدولي. وترى طائفة أخرى هي الغالبية إقليمياً ودولياً، أن هذه المجازر بشعة وإجرامية، ولكن كلفة التصدي لها كبيرة لا تطاق. وعليه فمن الأفضل تجاهلها طلباً للسلامة. ويرى غير هؤلاء أن ما يقع فيسورية اليوم يخدم أهدافهم كما خدمت الحرب العراقية-الإيرانية تلك الأهداف من قبل. فعندما تتطاحن القوى المتطرفة، فإن هذا يتحول إلى مصيدة لها وكفاية لشرها. وقد صاحب هذا المنحى نبرة استهزاء كتلك التي عبرت عنها المرشحة الجمهورية السابقة لمنصب نائب’رئيس الجمهورية سارة بالين التي قالت إن كلا طرفي القتال في سورية يكبران الله، فلندع الله يحسم النزاع بينهما!

ما يجمع بين أصحاب هذه التوجهات المختلفة هو أنهم جميعاً يعلمون أن المجازر تقع في سورية بشكل يومي منذ عامين ونصف، وأن سورية تدمر بصورة منهجية، كما يعلمون علم اليقين من الجاني. فلا بد أن يكون الشخص أعمى وأصم حتى تغيب عنه مثل هذه الحقائق الصارخة. ويستوي في هذا أنصار النظام وخصومه، بدليل أن إعلام النظام وأنصاره المخلصين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها عندما تقع واقعة صغيرة في مناطقه، ويقيمون الجنائز المهيبة لقتلاهم، بينما لا يكترثون لعشرات الآلاف من الضحايا في أماكن أخرى. فلو كان هؤلاء يعتقدون صادقين أن ‘الجماعات التكفيرية’ هي المسؤولة عن كل هذا الخراب والقتل كما يزعمون، لكان أضعف الإيمان أن يعبروا عن الأسى والحزن لمصير الضحايا ويظهرون الأسف على خراب البلاد. ولكن خطابهم هو خطاب إنكار وقلوب متحجرة وعدم اكتراث مرضي بمصير من قتل ومن شرد ومن عذب. وهذه إدانة لهم من أفواههم وسلوكهم، واعتراف ضمني بأنهم هم المسؤولون عن تلك الجرائم.

إذن في ظل هذا الاعتراف شبه الإجماعي بما يقع من فظائع في سورية تشيب لهولها الولدان، كيف من الممكن أن تتضارب المواقف بهذا الشكل، وتصبح المجازر وجهة نظر؟ كيف تتراوح المواقف بين العجز واللامبالاة من جهة والرضى التام وطلب المزيد من جهات أخرى؟ هل ماتت القلوب، وتحول البشر إلى وحوش ضارية من جهة، وأنعام وسوائم من جهة أخرى، الأولى تفترس والبقية تنزوي في انتظار دورها؟ هل عميت البصائر بعد أن عميت الأبصار؟

ثالثة الأثافي هي أن هذه كارثة عربية-إسلامية في المقام الأول: كارثة إنسانية وحضارية لأن الشعب السوري يباد ويشرد، والوطن السوري يمزق والبلد السوري يدمر، وتنتقل العدوى منه إلى جيرانه؛ ولكنها أكبر من ذلك وفوقه، كارثة أخلاقية، لأن هذه المنطقة الوحيدة التي يتركز فيها من يصفقون للإبادة، وينتشون للقتل والمجازر، بل يهرع الكثيرون منهم للمشاركة فيها بأيديهم.

وقد تعودنا في الماضي أن تكون اللامبالاة بما تتعرض له منطقتنا تسود بين الأبعدين، وهو أمر مفهوم، لأن الأقربين أولى بالمعروف. ولكن المصيبة اليوم هي أن الخارج يظهر رأفة بمصابنا أكثر بكثير من الأقربين. ففيما عدا روسيا، وهي بلد يعيش إلى حد كبير خارج التاريخ مثل مومياء من عهد القياصرة، فإن معظم شعوب العالم ودوله استنكرت المجازر، وأدانت مرتكبيها وبرئت من المجرمين. أما في منطقتنا، فهناك كثيرون لا يرون المنكر منكراً، ولا تهتز فيهم شعرة لذبح الأطفال أمام أمهاتهم، ولا يلقون بالاً لتدمير البيوت على ساكنيها، وقصف المدارس فوق رؤوس اللاجئين الذين شردوا من منازلهم بسبب قصف سابق لا يميز بين بريء ومذنب. معظم هؤلاء لا يهمهم أن يعذب الأطفال، ولا يقلقهم انتزاع الحناجر، والإعدام على الحواجز، ولا يؤرقهم وجود مئات الآلاف معتقلات وحشية هي أشبه بنار جهنم التي نخشى أن يساق إليها كثيرون منا بسبب الصمت على مثل هذه الفظائع.

وليس ما يحدث في سورية ببدعة، فهناك أيضاً صمت عربي مريب عما يقع في العراق هذه الأيام من جرائم قتل عشوائي للأبرياء بتفجيرات إجرامية لم توفر مساجد الله، ولم تتورع عن قتل الركع السجود وهم يبتهلون إلى خالقهم. وقد وقع مثل ذلك في قاهرة المعز، حيث قتل الركع السجود من قبل أناس لو ان كلباً مسعوراً احتمى بجدار السفارة الأمريكية لما جرؤوا على مسه. ولكنهم يتجرأون على بيوت الله والمستجيرين به. وأنا أجرؤ على الزعم بأن الله سبحانه وتعالى أقوى من أمريكا وأشد بطشاً، وأعز جاراً، فليكن من تحداه وتعدى على ضيوفه على حذر شديد وترقب.

محصلة ما سبق أن هذه الأمة، أو فئات غالبة منها، في ضلال مبين، وفي عمى وغواية، حتى عندما تقارن بمن لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فمعظم شعوب العالم تستنكر الفظائع عندما تقع من أي جهة كانت. فليس هناك ما يبرر قتل الأطفال وتشريد الأبرياء، حتى في الحروب المشروعة. فهناك قواعد لشن الحروب وإدارتها تواضع عليها سواد العالمين منذ اتفاقيات جنيف، وتعززت بمواثيق الأمم المتحدة، وكانت قبل ذلك مجسدة في قيم الإسلام وتعاليمه، كما جاء في وصية أبي بكر المشهورة لجنده (المتوجهين إلى الشام تحديداً): ‘لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة.’ ولكن كل بنود هذه الوصية تم التنكر لها في شام اليوم.

إذن حين نكون الأمة الوحيدة في العالم التي يخرج منها من يرى في التنكر لهذه القيم وجهة نظر، اليس هذا إعلاناً منا بأننا أمة في حالة سقوط؟ فلا عبرة هنا بأننا نغشى المساجد ونرتل القرآن، فكثير من الخلق يحملون الكتاب ‘كمثل الحمار يحمل أسفاراً’ كما جاء في محكم التنزيل عن أسلافنا ممن قيل فيهم أيضاً: ‘ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة’. وقديماً نقل عن المسيح عليه السلام قوله عن الأنبياء الكذبة: ‘من ثمارهم تعرفونهم.’ وهو عين ما جاء في محكم التنزيل: ‘قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين’.

فلماذا إذن نكون نحن الأمة الوحيدة في العالم التي ينتشر فيها من ينسفون المساجد، ويقتلون الأطفال والنساء، ويخربون بيوتهم بأيديهم؟ أليس هذا دليلا على أننا أمة هالكة ومستحقة للهلاك؟ لماذا نكون نحن الأمة الوحيدة التي تنتظر الأجانب حتى يردعوا مجرميها، وينصروا أبرياءها، ثم عندما يقع ذلك نصرخ: لقد جاء الاستعمار؟!

لقد أصابنا ما هو شر من الاستعمار: السقوط الأخلاقي الكامل. إننا لم نتنكر فقط لقيمنا وتراثنا الذي علم بقية الأمم القيم الرفيعة في التعامل، حتى أصبح أمثال صلاح الدين الأيوبي، وهو ليس بخيرنا، رمزاً في التراث الغربي للتعامل الإنساني مع الأعداء، وإنما نوشك أن نتنكر لإنسانيتنا. إننا الأمة التي تتسابق اليوم على الآثام والفظائع، خلافاً للأمر القرآني: ‘فاستبقوا الخيرات’. وبدلاً من أن نكف يد الظالم ونردعه، سواء في سورية أو مصر أو العراق أو غيرها، نتسابق على تمويل المجرمين من إرهابيين وانقلابيين ومرتكبي مجازر، ويتبارى كبار مجرمينا على الدفاع على ما لا يمكن الدفاع عنه، ويسكت الجميع عما لا يجوز السكوت عليه. وحتى حين ندين ونشجب، نتوسل إلى غيرنا كي يتدخل ويحمينا من أنفسنا! أليس عاراً أن الولايات المتحدة وحلفاءها هم من يتنادون للذب عن أبرياء’سورية، بينما العرب يتفرجون وكثير من الجيران المسلمين ضالعون في الجرائم؟ أليس سبة أن الاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي هما من أدان انقلاب مصر ومجازرها، بينما الجامعة العربية صامتة صمت القبور، وكثير من العربان يمولون الجرائم وينافحون عنها في إعلامهم الكسيح بحمد الله؟ أليس كارثة أن العراق يدمر نفسه وينتحر منذ سنوات، وبقية العرب منهمكون فيما لا نريد الخوض فيه من أمور؟ أليس مدعاة للويل والثبور أن فلسطين لم تنس فقط، وإنما هي تتعرض لحصار وحشي ممن ينتسبون زوراً للإنسانية (ولا نقول العروبة والإسلام، فهذا شأو بعيد)؟

لقد تحدث مالك بن نبي في سالف الأيام عن ‘القابلية للاستعمار’ عند بعض الشعوب، وأنا أضيف هنا أن هناك أيضاً ‘الجدارة بالاستعمار’. ولا أزيد.


‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

القدس