عن العرب واقلياتهم: الأكراد مثلا

17

في الدول العربية اقليات كثيرة. مثلهم في ذلك مثل الغالبية العظمى من دول العالم. واساس احد اهم عناصر قوة الدول، هو درجة انسجام مكونات المجتمع في الدولة المعنية، انسجام وتكامل الاغلبية والاقلية او الاقليات، سواء كانت الاختلافات عرقية وقومية، او دينية او طائفية بين اتباع الديانة الواحدة.
نشهد هذه الايام انفجارات دموية مشينة، بين مكونات مجتمعات دولنا العربية، جميع المشاركين فيها، من هذه المجتمعات، خاسرون. لكن الخاسر الاكبر بينهم، هو الاغلبية العربية السُّنية، لانها تخسر مثل ما يخسره الآخرون، على صعيد الدم والارواح والخسائر المادية، وتخسر، منفردة، فوق ذلك، هيمنة كانت مفهومة ومقبولة من قبل جميع الاقليات في الدول العربية. سبب هذه الخسارة الزائدة، هو اعتماد غالبية الدول العربية، سياسات غير حكيمة وغير منصفة، على مدى عقود عديدة، ممتدة منذ انهيار الامبراطورية العثمانية وبدء تشكُّل الدول العربية الوطنية، وحتى الآن. وتستوي في ذلك الدول العربية المستقلة، او تلك التي خضعت لاستعمار صريح لدول اوروبية غربية، او استعمار مبطّن تحت اسم «الانتداب»، باستثناء وحيد، في مرحلة الزعيم المصري سعد زغلول، وشعار «الدين لله، والوطن للجميع».
هذه السياسة للاغلبية، او للاغلبيات، في العديد من الدول العربية، تسببت في تحشيد طبقات فوق طبقات، من مشاعر الغبن لدى هذه الاقليات، انفجرت في ايامنا ببشاعاتها الدموية، كما ترصدها وتنقلها فضائيات العالم.
لا مجال هنا لرصد وتحليل كل ما له علاقة باحوال جميع الاقليات في الدول العربية. لذلك ساركز على مسألة العلاقة العربية الكردية، دون ان يعني ذلك أي انتقاص من اهمية معالجة كل قضية لكل اقلية اخرى في عالمنا العربي، بدءاً من الاقليات الشيعية في دول عربية عديدة، والاقلية الامازيغية في اقصى دول شمال افريقيا، واقليات الطوارق، والاقليات الافريقية السوداء، والاقليات العرقية الاخرى، مثل الارمن والشركس وغيرهم، وكذلك الاقليات الدينية المسيحية، بكل طوائفها، في غالبية الدول العربية، واقليات يهودية قليلة العدد هذه الايام، تعيش في مجتمعاتها بانسجام، حتى ايامنا هذه، رغم كل جهود ومؤامرات الحركة الصهيونية، كما هو الواقع في المملكة المغربية، حيث تتعايش تلك الاقلية بانسجام مع الاغلبية الحاسمة من المجتمع العربي المسلم السنّي، وحيث يتخذ القصر المغربي من بينهم مستشارين ومساعدين؛ وكما هو الواقع ايضا في مملكة البحرين، حيث شغلت السيدة العربية اليهودية هدى عزرا نونو، على سبيل المثال، منصب سفير دولة البحرين في واشنطن، ولتكون بذلك اول امرأة عربية تشغل مثل هذا المنصب في أمريكا.
[ لا يستقيم الكلام هنا، دون تسجيل ملاحظة واقتباس مما قاله استاذ الفلسفة والدراسات اليهودية في الجامعة العبرية في القدس، وفي جامة نيويورك، موشي هلبرتال، في سياق مقابلة مع الصحافي الاسرائيلي المعروف، ناحوم برنياع، انتقادا لسياسة بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الاسرائيلية، تجاه الاقلية الفلسطينية العربية في اسرائيل، نشرها في جريدة «يديعوت احرونوت» يوم الجمعة الماضي، حيث يقول هلبرتال: «نحن، (اليهود)، نعرف جيدا ماذا يعني ان نكون اقلية، لكننا لا نعرف ماذا يعني ان نكون اغلبية. نتنياهو يتحدث بلغة الاقلية، لغة الضعيف، رغم انه هو من يمتلك القوة. انه لا يثق بصهيونيته بما يكفي لأن يلتزم بما تضمنته «وثيقة الاستقلال»، (أي وثيقة «اعلان اقامة دولة اسرائيل»، وما تضمته تلك الوثيقة بخصوص المساواة والحريات وعدم التمييز). أَن تتخذ موقف الضحية، في حين انك انت من يمتلك القوة، يعني تشكيل خلطة قاتلة»].
في هذا السياق، بقدر هذا العمق في التحليل والتشخيص والفهم، يمكن القول بقناعة كاملة، ان العرب المسلمين السُّنة، في الغالبية الاعم من دول العالم العربي، يعرفون ماذا يعني ان يكونوا هم الاغلبية، لكنهم لا يعرفون، (او ان غالبيتهم لا تريد ان تعرف) معنى ومشاعر الاقليات في دولهم. ولو استبدلنا في الاقتباس اعلاه، تعبير «الصهيونية»، بتعبير «القومية العربية»، لأمكن لنا فهم دلالات ومخاطر وأبعاد الخلل في مجمل سياسات العديد من الدول العربية، بخصوص التعامل مع الاقليات فيها، على مدى عقود.
رغم الانسجام والتكامل بين الامتين العربية والكردية، منذ مطلع الانطلاق العربي حاملا راية الاسلام، واستمرار هذه العلاقة إلى ان بلغت ذروتها المشرِّفة ايام القائد الكردي، صلاح الدين الايوبي، وحتى بدء مرحلة تكون الدولتين العربيتين المعاصرتين، العراق وسوريا، حيث الاقلية الكردية الكبيرة، اخذت العلاقة بين الاغلبيتين العربيتين والاقليتين الكرديتين في التوتر والتردي. لكن التوتر والتردي بلغ ذروته مع نجاح حزب البعث العربي الاشتراكي، في الاستيلاء على السلطة في البلدين، (او قل «القُطرين» بلغة اهل البعث)، بانقلابين عسكريين، وفرض البعث نفسه حزبا وحيدا في البلدين، وشعاره : «امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة»، على ملايين من الاكراد، الذين تهمّهم «رسالتهم الكردية الخالدة».
هذه السياسة العربية، حتى قبل وصولها ذروة/درك البعث، فتحت الباب واسعا لتواصل وتعاون صهيوني مع قيادات كردية، خاصة في العراق، منذ ثلاثينات القرن الماضي، وحتى اليوم، على حساب المصالح والامن العربي.
لا يتسع المجال هنا للتفصيل، لذلك اختصر واقول: طالما تفهمنا كعرب وفلسطينيين، لاستدارة في السياسة التركية، قادها الرئيس التركي اردوغان، تخلّى فيها عن كبريائه الشخصي المعروف، لمصلحة شعبه ودولته، وتصالح مع حليفته اسرائيل، (وإن يكن على حساب مصالح شعبنا الفلسطيني)، واعتذر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، (وإن يكن على حساب كرامته الشخصية)، وسعى ويسعى للتركيز على مصالح تركيا التي اقسم بالاخلاص لها، فما الذي يمنع استدارة سياسية عربية، تقول للاكراد: نحن معكم. ان اردتم البقاء ضمن صيغة فدرالية او كونفدرالية في سوريا والعراق فمرحبا بكم. وان اردتم الاستقلال والانفصال لتشكيل دولة قومية او وطنية مستقلة لكم، فنحن معكم وحلفاؤكم.
بهذه السياسة، نكون عادلين اولا، ثم نستثمر ذلك بالقاء الجمرة الكردية الملتهبة، في حضني ايران وتركيا.
ثم، وبعد كل ذلك: في الشرق الاوسط خمسة مكونات بشرية، اربعة منها لا تحول ولا تزول: الفرس والترك والكرد والعرب، ومكوِّن جديد هم اليهود في اسرائيل.
ليس من الحكمة ان نسمح لانفسنا، مهما كانت الذرائع، ان تتشكل تحالفات ثلاثية، ولا تحالفات رباعية الأطراف، كما هو واقع الحال عمليا (وليس رسميا) هذه الايام، ضدنا وضد مصالحنا ومستقبلنا. ولا مصلحة لنا ان نستبدل عدوا يحتل ويستعمر فلسطين عمليا، بـ»عدو متَوَهَّم»، قضت الجغرافيا والطبيعة ايضا، ان نكون جيرانا.

عماد شقور

المصدر: القدس العربي