عودة النشاط إلى الحراك الدبلوماسي بشأن سوريا

24

انفتحت شهية الصحافة على محاولة قراءة ما وراء الظاهر من الحراك الدبلوماسي متعدد الأطراف الجاري بنشاط حول المشكلة السورية، وتعددت السيناريوهات المفترضة وتنوعت حول كيفية إخراج الزير السوري من بير الفوضى والعنف اللذين يعصفان به منذ سنوات. ليس جديداً، في هذا السياق، القول بأن «الحل السياسي هو الوحيد الممكن» كما يكرر الأمريكيون بصورة خاصة، وجميع المعنيين بالمشكلة السورية بصورة عامة، منذ سنوات. بل الجديد هو أنهم باتوا الآن يقصدون فعلاً ما يقولونه بذلك، في حين كانوا جميعاً منهمكين في كل شيء ما عدا السعي إلى حل سياسي. مع ذلك يمكننا القول إن حلفاء النظام هم الذين بدأوا بكسر الحلقة المفرغة، لاستشعارهم بتراجع الوزن النسبي للنظام في معادلات الحرب الداخلية، بصورة مطردة لا أفق لعكسها.
وعلى رغم تأكيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره السعودي عادل جبير، على «استمرار خلاف روسيا مع وجهة النظر السعودية فيما يتعلق بمصير رأس النظام»، يمكننا ملاحظة أن ما تم تسريبه من «مبادرة إيرانية» يتضمن فكرة جديدة تماماً تتعلق بـ»ضمان حقوق الأقليات دستورياً» في أول إشارة إيرانية إلى تغيير في النظام السياسي لسوريا. خاصةً إذا ربطنا ذلك بالمفاوضات التي جرت بين ممثلين عن الحكومة الإيرانية وحركة أحرار الشام حول مقايضة بين مدينة الزبداني التي فشل حزب الله المدعوم من قوات النخبة في جيش النظام الكيماوي في السيطرة عليها، وقريتي الفوعة وكفريا المحاصرتين من غرفة عمليات «جيش الفتح» في ريف محافظة إدلب.
وتتمتع مدينة الزبداني بقيمة استراتيجية كبيرة لحزب الله لأنها بمثابة معبر لإمداده بالسلاح والعتاد، لكن سوء حظه الجغرافي قضى بأن سكانه من المسلمين السنة. أي أنه حتى لو تمكن الحزب وحليفه السوري المزود بسلاح الطيران من القضاء على مقاومة الثوار المتحصنين في المدينة، ستبقى الحقيقة الديموغرافية عقبة لا يمكن تذليلها إلا بتطهيرها من سكانها. لذلك كان المطلب الإيراني في المفاوضات مع حركة أحرار الشام يتمثل بترحيل متبادل للسكان السنة من الزبداني والشيعة من الفوعة وكفريا بصورة متقابلة. فشلت المفاوضات، في مرحلتها الأولى على الأقل، واشتد الضغط العسكري بالتقابل على الزبداني من جهة والقريتين الشيعيتين في الشمال من جهة أخرى، قبل اتفاق الطرفين على هدنة لمدة 48 ساعة.
بالنظر إلى عملية المقايضة المفترضة هذه ذات السمة الطائفية والاستراتيجية، يمكن فهم الكلام الإيراني الجديد حول «ضمان حقوق الأقليات» في دستور لسوريا ما بعد الحرب. بمعنى أن طهران التي يئست من قدرة رجلها في دمشق على الاحتفاظ بكامل سوريا، باتت تخفض سقف تطلعاتها إلى مستوى مناطق نفوذ داخل سوريا قائمة على خطوط طائفية، الأمر الذي ألمح إليه أيضاً رأس النظام الكيماوي ـ وللمرة الأولى أيضاً ـ في ظهوره الإعلامي الأخير، حين تحدث عن انسحابات محتملة لقواته من مناطق «أقل أهمية» لضمان حماية مناطق «أكثر أهمية»، واعداً حزب الله، ضمن مجموعة ميليشيات شيعية مرتزقة متعددة الجنسيات، بحصة من الأرض السورية مقابل إسقاط الحق في الوطن السوري عن معارضي النظام، وذلك بتحديده لملكية هذا «الوطن بمن يدافع عنه، وليس من يحمل جنسيته أو جواز سفره» كما قال.
تجب الإشارة كذلك إلى تقدم قوات «جيش الفتح»، في الأسبوعين الأخيرين، في سهل الغاب، بوصفه تهديداً مباشراً وخطيراً لإحدى مناطق الحاضنة الشعبية للنظام. سنرى، في الأيام القليلة القادمة ما إذا كانت التجاذبات الاقليمية والدولية ستسمح لجيش الفتح بالسيطرة على معسكر جورين، أم ترغمه على الوقوف عند حدوده. لكل من هذين الاحتمالين دلالة مختلفة فيما يتعلق بقبول إيران بما يطرح من حلول سياسية أو رفضها لها ومحاولة فرض مطالبها.
إذا كانت التطورات الميدانية المذكورة أعلاه هي الإطار المحلي لاقتراب روسيا وإيران من فكرة الحل السياسي، فإنجاز الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى (5+1) هو الإطار الدولي الذي أتاح التغييرات في مواقف الفاعلين في المشكلة السورية. من ذلك هذا التقارب السعودي ـ الروسي الذي جعل القيادة الروسية تدرك أن مصالحها في الاقليم ليست محكومة حصرياً بنظام نافق في دمشق، عبء استمرار دعمه أكبر من أي مكاسب يمكنه أن يجنيها منه، بل لديها خيارات أخرى واعدة أهمها دول الخليج التي اكتشفت بدورها قيمة تنويع علاقاتها الدولية بعيداً عن تلك الأحادية المقتصرة على واشنطن أو تكاد.
وفي خط مواز للتقارب السعودي الروسي، كان من شأن إنجاز الاتفاق النووي إخراج طهران من عزلتها وفتح أبواب واشنطن وباريس أمامها، فضلاً عن نهاية العقوبات القاسية التي أرهقتها. أما تركيا الغارقة في مشكلاتها وتناقضاتها الداخلية من جهة، وفي الصراع السوري من جهة ثانية، فقد شكل توقيع الاتفاق النووي حافزاً مهماً لأنقرة لإنهاء خلافها مع واشنطن حول الحرب الدولية على داعش. فمن جهة أولى بات التقارب الأمريكي ـ الإيراني مقابل الفتور الأمريكي ـ التركي عامل إخلال بالتوازن بين القوتين الاقليميتين الرئيسيتين المتنافستين، ومن جهة ثانية شكلت العلاقة الدافئة المستجدة بين واشنطن وحزب العمال الكردستاني نذير خطر بالنسبة لأنقرة، وحافزاً إضافياً لها للتفاهم مع الأمريكيين. وهكذا تمكن أردوغان من تمرير حربه المفتوحة على «الكردستاني» مقابل فتحه لقواعده الجوية، إنجرليك وغيرها، أمام طائرات التحالف الدولي لضرب داعش في الأراضي السورية، إضافة لضمان عدم سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على المنطقة الممتدة من جرابلس إلى أعزاز وصولاً إلى مارع قرب حلب، أي ما راج في الإعلام على أنه «منطقة آمنة» في حين صرح الأمريكيون، مراراً، رفضهم لفكرة المنطقة الآمنة داخل الأراضي السورية.
الخلاصة أن الحركة الدبلوماسية النشطة على أكثر من خط، ليست من باب إدارة الأزمة كما كانت الحال سابقاً، بل هي بحث جدي بين الفاعلين الاقليميين والدوليين عن حل سياسي متوافق عليه. المرجح أنه ليست هناك صيغ جاهزة لهذا الحل، بل هو يخضع لمساومات شاقة بين الدول المعنية.

٭ كاتب سوري

بكر صدقي

القدس العربي