فلسفة الحرب والسلام من منظور أخلاقي

77

د . مهيب صالحة

كاتب وأكاديمي سوري

أستاذ الاقتصاد وعميد سابق لكلية إدارة الأعمال في الجامعة العربية الدولية aiu

 

قد نعرف كيف تبدأ الحرب , ولكن لا نعرف كيف ومتى تنتهي , وهل تنتهي بسلام أم تؤسس لكراهية تعيد إنتاجها من جديد . قد يشعلها جاهل , أو حاقد , أو متعجرف , أو مجنون عظمة , أو ذو مصلحة خاصة , أو مرتبط بمصلحة غيره …لكن من المؤكد أن من يشعل الحرب وهو قوي لا يعطيه أحد السلام وهو ضعيف . يقال أن الحرب هي استمرار للسياسة ولكن نقول إنها الوجه الأقبح للسياسة . أما وجهها القبيح فهو المصالح . وعلى هذا الأساس فإن السياسة هي نقيض الأخلاق لأنها تقوم على المصالح وليس على المبادئ .

والمفارقة الغريبة في الحرب أن من يقاتل تحركه المبادئ , بينما من يشعل الحرب يستثمر ضحاياها في سبيل  المصالح . فالحرب , كل حرب , تبدأ بالمصالح وتنتهي بالمصالح . أما الضحايا التي تسقط , وإن كانت مفعمة بالمبادئ , فهي تهدر في سبيل المصالح . في الحرب , الموت والحياة يتساويان , إلا أن آلام الموت لا تقاس بآلام الحياة . فمن يموت , لحظة الموت , لا يختلف شعوره بالألم عن شعور من يخرج إلى الحياة , لحظة الولادة , كلاهما الميت والمولود يحتفظ بسر اللحظة , التي تفرق بين الحياة والموت . فلا المولود يفصح عن آلام الولادة إلى الحياة , ولا الميت يفصح عن آلام الحياة إلى الموت . أما الآلام , التي تتركها الحرب , في الحياة , فلا تضاهيها آلام الموت ولا حتى سكراته . تخلف الحرب, في الحياة , أرواح مكسرة , وقلوب مدماة , وآمال محطمة , فهل يتساوى ألم الميت مع ألم من تسببت الحرب بإعاقته , أو من تركت في نفسه جرحاً عميقاً لفقد الولد أو الوالد أو الأم أو الأخ أو الأخت أو الحبيب ؟؟ . الميتون في الحرب يأخذون سر عذاب الموت معهم , بينما الباقون في الحياة , يحملون معهم كل عذابات الحرب , من آلام ,وانتهاكات وفظائع وشروخ…

قد يفهم المرء حروب الدول فيما بينها من أجل المصالح , وإن كان لا يجد لها مبررات أخلاقية لأن الإنسان , أي إنسان , أثمن من أية مصلحة . لكن كيف له أن يفهم حرب الأهل فيما بينهم ؟. وإذا كانت الحرب هي استمرار للسياسة التي تقوم على المصالح فعن أي سياسة وأية مصالح يمكن أن يتحدث المرء في حرب أهلية , يتمايز الناس فيها , بهويات , ما قبل هوية وطنية يفترض أنها موجودة أساساً لتمنع الحرب فيما بينهم , وتصبح الحرب عصية عن الفهم إذا كانت بين شعب يمتلك دينامية عالية للحياة وبين نظام للحياة يمتلك قوة تعطيل هائلة لهذه الدينامية , عندئذٍ لا قيمة للنظام طالما يعطل الدينامية سواء في السلم أو في الحرب ؟؟؟.

والحروب الأهلية بهذا المعنى تصنع تبوهات تحجب الرؤية وتغم العقول , كما تصنع أبطالها من ورق جاف لا روح فيه , فلا القاتل ولا المقتول له شرف البطولة طالما الكل قاتل ومقتول , هازم ومهزوم , تابع ومتبوع , سائق ومساق في مجاريها وأتونها , وليس كل من يتذوق طعومها  يلعنها , ويتمنى نهايتها بسلام لأن معادلاتها تصوغها ذهنياتها المبنية على موازين الربح والخسارة . كل طرف في الحرب الأهلية يظن نفسه منتصراً على الطرف الأخر لكن الحرب هي المنتصر الوحيد على جميع أطرافها لأنه بميزان الانتصار والهزيمة الكل مهزوم , والكل يبرر هزيمته بانتصار موهوم . كما لا توجد حرب عادلة وحرب غير عادلة فكل الحروب عدالتها كعدالة السماء أضغاث أحلام لأن الحرب , أي حرب , نقيض السلام .  

إن أي نظام هو في جوهره مخرجات أكبر وأحسن من حيث الكمية والنوعية من المدخلات , ولكن عندما تنتهي العمليات بمخرجات أقل وأسوأ فإن النظام يفقد صلاحيته , أما إذا كان النظام من أساسه لا يقوم على مدخلات سليمة , جيدة , وعملياته مهترئة , ورقابته ( التغذية المرتدة ) ضعيفة أو منحرفة , فإن النظام عندئذٍ يفقد قيمته كنظام ويتحول إلى ما يشبه الفوضى المنظمة أو الفوضى الفوضوية أو أي شيء آخر غير النظام .

من الطبيعي أن يختلف الأهل , حول نمط حياتهم , أو طريقة إدارتها , أو توزيع المهام والأدوار فيما بينهم . ومن المنطقي والطبيعي جداً أن يصل الاختلاف بينهم حد التناقض . لكن من غير الطبيعي , ولا المقبول , أن يتحول الاختلاف إلى عداوة , أو حرب , لأنه في هذه الحالة لا يصح القول أن الحرب استمرار للسياسة , فالبشر دائماً تواقون لتحسين شروط حياتهم , وعلى هذه الشروط يختلفون . وإذا كان هذا الاختلاف , هو سياسة, فهل يستدعي الاختلاف الحرب ما دام هناك وسائل أخرى , سلمية , من شأنها تغيير شروط حياة الناس نحو الأفضل من دون حرب وسفك دماء وتعذيب وتجويع وتدمير وتهجير؟؟.

في معادلة الحرب والسلام لا تقاس آلام الحرب بآمال السلام , لأن الآلام هنا وسيلة بينما الآمال هي غاية , والغاية لا تبرر الوسيلة بالمنظور الأخلاقي الصرف . أما بلغة المصالح فإن الحرب هي وسيلة الضعيف نحو السلام .   

لا أدري , إذا كان من حسن حظ المرء , أو من سوء طالعه , أن يشاهد مسرحية للحرب وللسلام , بكل تفصيلاتها , التي تصل إلى حد ملل الصالة , وتغوص عميقاً في عبث بشري لا طائل منه ولا جدوى إنسانية . فعلى خشبتها تدور , نهاية وطن , وفي كل مشهد من مشاهدها نار ودخان ودمار , وفي كل فصل من فصولها تشظٍ وشرذمة وانقسام . إن مجرد التفكير في البقاء في مدينة أو بلدة تحت القصف أو تدور في شوارعها وفوق أسطحها رحى الحرب , أو تهاجمها كلابها الضالة , يعني انتظار الموت في أي وقت , لأن السلاح الذي يستخدم لا يستعمل إلا في حروب الدول فيما بينها على المصالح . بل ليس الموت وحده ما تحمله حرب مجنونة , قاعها ليس له قرار , إنما تحمل آلام انتظار الموت من جوع وعطش وبرد وتشرد وقهر ودماء ودموع لا تقل هي الأخرى إيلاما بالناس من مآلات الحرب . لقد وصف عنترة الحرب بأن أولها شكوى… وأوسطها نجوى … وآخرها بلوى , لذا فإن آلام الحرب , ما بعد الموت , لا تقتصر على جيش من الأرامل واليتامى وجيش من المعوقين جسدياً ونفسياً بل أيضاً جيش من اللصوص والزعران وتجار الحروب . وتكلفة ما بعد الحرب ستكون أضعاف تكلفة إبان الحرب لأن وقود الحرب هم الجنود والفقراء , وهؤلاء يعدون غالبية السكان الذين سيحملون وحدهم وزر وأعباء إعادة إعمار ما دمرته الحرب ,علاوة عن كونهم يدفعون الدماء ضريبة للحرب ويدفعون العرق ضريبة للسلام , يقول أحمد شوقي :

                        والحروب يبعثها القوي تجبراً                   وينوء تحت بلائها الضعفاء

من صورة الحرب ترتسم صورة السلام . ومن آلام الحرب تنبثق آمال السلام , في مشهدية تراجيدية , لا تقل فظاعة , عن مشهدية الحرب . فنيرون يولد من جديد مع كل حرب يكون ثمنها احتراق روما . إن فرص السلام لا تأتي دائماً بعد حرب لا يعرف المتحاربون فيها أين ومتى تنتهي , وما هو حجم الخراب الذي تخلفه , ولا سيما إذا رهن الجميع إرادته سواء بالنسبة للحرب أو بالنسبة للسلام , ومن ثم وجود وطن برمته , لمشيئات خارجية , لا تكترث سوى لمصالحها الخالية من أية قيم أخلاقية , أو إعادة ترتيب خرائط جيوسياسية على نحو يضمن مصالحها فقط على حساب من يُضيع فرص السلام بتشبثه بالحرب , ولعل أخذ خيارات الشعوب إلى ماضوية لا ترحم يجدد صراعاتها الطائفية والمذهبية والأثنية , ويثنيها عن خياراتها الوطنية الحقيقية . في كل مرة تتحين الأطراف المتحاربة إضاعة فرص السلام , تتزايد فرص الحرب , ويتكبد المتحاربون خسائر فادحة , ويزداد تشظي المجتمع , ويتهتك نسيجه . وإذا ما استمرئ المتحاربون إضاعة فرص السلام لا يمكن التكهن بما ستؤول إليه فرص الحرب , ولكن مع كل توغل في الجحيم تضيع فرص للسلام .

إن سلاماً , مهما يكن هزيلاً , ولا يعطي كل طرف كل ما يريد , هو أفضل ألف مرة من حرب قد يظن من أشعلها أنها “عادلة ” لكنها قد تحرقه وتحرق معه الجميع . والسلام الذي يضع حداً للحرب , في حده الأدنى لأجل الحياة , أساسه تغيير نمط الحياة وشروطها وقواعد إدارتها , لتحسين نوعها , ورقي جودتها . فالحياة بين الناس لا تكون صالحة إذا طغا أحد على أحد أو تجبر , أو طغت فئة أو طبقة على فئة أو طبقة أخرى أو تجبرت . ولا تكون تشاركية إذا شيدت على إقصاء أو إلغاء . إن الحرب والسلام صنوان ونقيضان . صنوان لأن كلاهما استمرار للسياسة في الحياة طالما السياسة تقوم على المصالح , ونقيضان إذا قامت الحياة على مبادئ وأخلاق تشاد عليها المصالح بواسطة سلام لا يمكن أن تنفيه حرب .

الحرب حوار المدافع ليس له آداب ولا أخلاق , كل طرف يطمح للفوز بها بلا زمام من عقل أو ضمير , فمن يربحها يسير على أديم ضحاياها بقدمين ملوثتين بالزيف والعار . وحوار الآداب والأخلاق هو لغة السلام , التي تتفتق من حروفها ورموزها , معاني حياة خصبة في جواهرها ورسومها وألوانها . قد يهزم حوار المدافع حوار السلام , لكنه لا ينتصر عليه طالما الحياة نقيض الحرب , وربيبة السلام , وطالما ديدن الإنسان الحياة رغم أنف المصالح نقيض الأخلاق ونافيها وناهيها.

ومن يتشبث بالحرب لقضاء مصالح على حساب المبادئ والأخلاق نهايته وخيمة لأن معطيات الحرب تتغير بتغير المصالح , بينما معطيات السلام تتغير بتغير المبادئ وقيم الأخلاق وتبقى في سياقها ومجاريها , ومن يتشبث بالسلام يفوز به في أولها وتاليها . من رحم معاناة الحرب ومآسيها يولد السلام , وعلى نقيض المصالح تنتصب أعمدة الأخلاق في نهاية تراجيديا هزلية للحرب .

الثورة السلمية نقطة افتراق تاريخية بين حرب أهلية وسلام أهلي لأن الثورة , كمصطلح سياسي , هي الخروج من وضع راهن وتغييره , أو الانتقال من وضعية إلى وضعية أفضل وأرقى . والثورة , كل ثورة , هي عملية نفي مستمرة للقديم , وصيرورة جارية لكل جديد تطلبه متغيرات الحياة . والثورة التي لا تنادي بحرية الإنسان وتحرره من سلطة القديم لا تدعى ثورة , وبالتالي كل ثورة تحمل منظومة قيمية أخلاقية لأنها , أصلاً , ما كانت لتقوم لولا أن منظومات أخلاقية ما , أصبحت بالية لا تواكب الحياة ويصير تغييرها لا مفر منه .

إن الظلم والاستبداد والفساد وقمع الحريات والاستغلال والإقصاء والإلغاء والفقر والجوع والتمييز والتفريز .. أحكام قيمية أخلاقية بالية , تواجهها قيم أخلاقية مضادة مفعمة بالحياة هي العدالة والحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان وسيادة القانون وتنمية البشر والحجر …وصيرورة الثورة بخلاف صيرورات الطبيعة , من فعل البشر وللبشر بواسطة البشر . إلا أن البشر , في الثورة أيضاً , يتصرفون بتأثير ظروف اجتماعية لا يختارونها بحرية , إنما يرثوها من القديم ويجعلوها تهيمن على ذهنيتهم وسلوكياتهم , أو تربكها. ولهذا السبب بالضبط , فإن للثورة قوانينها الخاصة وصيروراتها التاريخية التي فيها الكثير من المد والجزر , والكثير من العثرات والهنات والسقطات والانتكاسات إلى جانب , طبعاً , إنجازات ومكاسب بل حتى انتصارات لا تظهر أفاعيلها ولا آثارها إلا بعد حين . ولما كانت سلمية الثورة , وهي أعظم قيمة أخلاقية في سياق التغيير , فإن التخلي عنها هو استجابة غير منطقية لنزعة الحرب عند القديم تتساوق مع رغبته بنفيها ونهيها , وفي الوقت ذاته استسلام للظروف التي يخلفها القديم .

إن الثورة الفرنسية الكبرى ( 1789-1799 ) التي غيرت وجه فرنسا وأوربا عموماً وصارت مصدر إلهام لأحرار العالم عبر إرسائها مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والمساواة والإخاء تعرضت لسقطات تخلت في أحيان كثيرة , إبان الثورة وبعدها ,عن المبادئ التي نهضت من أجلها , لذلك تعرض نظام الحكم في فرنسا إلى عدة تقلبات بين الجمهورية والديكتاتورية والدستورية والإمبراطورية كانت وراء ثورتي 1830 و1848, ومع ذلك تبقى الثورة الفرنسية الحدث الأبرز في تاريخ الإنسانية الذي ترك في حياة الشعوب بصمة حضارية , في جوهرها , أخلاقية بامتياز . وفي نهاية المطاف انتصرت الثورة الفرنسية في جميع مراحلها , منذ ولادتها , بفضل سلميتها ومنظومتها القيمية الأخلاقية الجديدة وليس بالحرب التي كانت في الذهنية الفرنسية في مراحل كثيرة أقوى من السلام , وأدت إلى سوق قادة الثورة ومفكريها إلى مقاصلها , واحتلت دولاً وشعوباً لم تتوانَ عن مقاومتها بكل السبل .

إن الثورات تنهض لتنتصر على الظلم وعلى الطغيان وليس بمقدور ظالم وطاغية مهما امتلك من قوة إفشال ثورة , إنما الثورات يفشلها الثوار أنفسهم وهنا يصدق المثل القائل : غلطة الشاطر بألف , ولكن ههنا غلطة الثائر بألف … إن الثورات تنتصر بقيمها الأخلاقية , بسلميتها ونزعتها الإنسانية , وليس بما تمتلكه من قوة حربية أو أوهام أيديولوجية أو استجداء السماء .

لم يبدِ السياسيون أية كفاءة ثورية لأنهم فشلوا في تحقيق التغيير الذي حملوه على ظهر أيديولوجيات غير ثورية . الكفاءة الثورية في الأعوام القادمة ستكون على عاتق المفكرين التنويريين وقادة الرأي والمثقفين النوعيين والنشطاء المدنيين , الذين يؤمنون بأن التغيير  صيرورة تتكئ عليها كل صيرورات التطور المجتمعي . والشرط اللازم لقيام هذه الدينامية هو عودة الفلسفة إلى حياة الأمة , لأن أمة بلا فلسفة مثل طفل رضيع تحركه غرائزه . والفلسفة , بهذا المعنى , هي عقل الأمة وزمامها  …وكلاهما لا يدركان ويزدهران  إلا في بيئة سلام .  وطالما هي الحياة متغيرة ومتجددة والأخلاق نسبية ومتطورة فإنه ما من شك في حتمية سقوط القديم ومنظومته الأخلاقية وصعود الجديد ومنظومته الأخلاقية في صيرورة جدلية لا تنقطع أبداً وإن تعرضت لانتكاسات مؤقتة ..

كثيرون يناصرون السلام , ولكن مناصرة السلام ليست مجرد كلمة تقال , إنما هي أفعال ملموسة تأتي أُكُلها برداً وسلام على الناس , ولغة السلام الحوار , وهم يسوقون الذرائع الواحدة تلو الأخرى لرفض الحوار , أو منعه , ويزرعون في طريقه كل ما يتسنى لهم من ألغام وعراقيل . والحوار وحده وسيلة العقل  لبلوغ السلام , بينما الحرب تتكفل بتغييب العقل عن إدراك السلام . فهل ندرك السلام قبل أن تغدو الحرب وسيلة وحيدة لبلوغ المقاصد تضيع معها كل فرص وآمال السلام ؟؟؟؟؟

د . مهيب صالحة / السويداء / شباط 2021

مقال خاص بالمرصد السوري