… في مخاضات ثورة السوريين أمس واليوم

27

مشكلتنا أننا نتصرّف في السياسة على نحو يختلف عن تصرفاتنا إزاء مشكلاتنا الشخصية، التي تنضبط بعقلانية صارمة، تتحدّد وفقاً لإمكانياتنا وللمعطيات المحيطة بنا. هكذا تعودنا في السياسة، أو في الشأن العام، أن نتمثل، على الأغلب، وعياً يتأسس على العواطف والرغبات، وليس على الإمكانيات والوقائع والمعطيات. هذا ما حصل مع الفلسطينيين، وما يحصل مع السوريين، اليوم، علماً أن تفكيراً كهذا لا علاقة له بالسياسة، التي تتعلق بصراعات موازين القوى، والتي ربما تتخلّلها مساومات أو تدرّجات، وحتى توقّفات أو تراجعات.

هكذا يبدو من المكابرة إنكار أن الثورة السورية لم تعد ذاتها، كما كانت في عامها الأول وحتى الثاني، فهذا غير صحيح، فضلاً عن أنه غير مجدٍ، علماً أن النظام، أيضاً، لم يعد هو ذاته، بمعنى أننا بتنا إزاء واقع مختلف تماماً، عن الذي كان قبل آذار (مارس) 2011. وهذا ما ينبغي إدراكه جيداً، والتصرّف على أساسه، لتصحيح المسار لمصلحة الشعب السوري.

لعل أول ما ينبغي إدراكه أننا لم نعد إزاء معادلة شعب في مواجهة نظام، فقط، فهذه «البراءة» اختفت مع تغيّر المعطيات، وبعدما بتنا إزاء وضع جديد محمّل بتعقيدات جمّة، ومداخلات عدة، وطبقات مختلفة من الصراعات، أهمها أن الأمر انتقل من الصراع في سورية، إلى الصراع على سورية. والمشكلة أن هذا الصراع تدخل في إطاره قوى لا دولتية، تتمثل بجماعات الاسلام السياسي المتطرف، المحسوب على «القاعدة»، كـ «داعش» و «جبهة النصرة»، ومعها جماعات الاسلام السياسي (الشيعي)، من لبنان والعراق، المحسوبة على ايران، ما يسبغ الصراع بالطابع الطائفي.

ومن ناحية ثانية، ثمة الصراع الذي تخوضه قوى دولية واقليمية لحسابها، سواء مع النظام، أو ضده. ففي المحصلة خرج الأمر من يد السوريين، وباتت تتحكم به التوافقات الخارجية، حتى أن الصراعات المسلحة في الجغرافية السورية باتت محكومة، أو تسير وفقاً، لتلك الحسابات، غالباً.

مفهومٌ أن الثورات ليست محكومة بحتمية الانتصار، فهي قد تحقق بعض أهدافها، وقد تذهب في ظروف معينة نحو نوع من تسوية، وقد تفشل تماماً، وهذه الاحتمالات تنطبق على كل الحالات وضمنها الحالة السورية.

إذاً، الثورة لم تنجح، والنظام لم يرحل بعد، هذه هي المعادلة باختصار، لكن المشكلة، في هذه المعادلة، أن كل واحد من الطرفين المعنيين استطاع كسر الطرف الآخر، وتغييره، بحكم عوامل متعددة، تنبع أساساً من طبيعة النظام، وتكوينات المجتمع السوري، ومكانة سورية، ومداخلات الفاعلين الإقليميين والدوليين.

مثلاً، فمنذ البداية اشتغل النظام في مواجهة عصيان السوريين، على أساس المعادلة الصفرية، التي عبر عنها بكل جلاء شعار: «الأسد أو نحرق البلد»، ما يفسر استخدام سلاحه الأمضى، أي البراميل المتفجرة وقذائف المدفعية. فالنظام لم يفكر بمجرد قمع الثورة، أو وأدها، وإنما بقتل روح التمرد وفكرة الحرية عند شعبها.

هكذا شهدنا أن جهد النظام لم يتركز، منذ البداية، على القضاء على شكل معين من أشكال الحراك الشعبي، فكل الأشكال قمعت بطريقة فجة ومفرطة، بالهراوات وبالإخفاء بالمعتقلات، كما بالرصاص والقنابل والدبابات، كما جرى في فض اعتصامي أهالي حماه وحمص في الأشهر الأولى من 2011. أيضاً لم يركز النظام لاحقاً على استهداف المسلحين، أو مراكز تجمعاتهم، بل تعمد تطويق مناطق وجودهم، ومحاصرتها، وتحويلها الى حقل رماية لقذائف مدفعيته وطيرانه. وهذا ما حدث في حمص في شكل مبكر، ثم في حلب، وبعدها في غالبية المناطق. وإذا تتبعنا سلوك النظام، بعد طغيان العمل المسلح، يمكننا ملاحظة أنه تعمّد، في حالات كثيرة، الانسحاب من بعض المناطق، في ما يشبه معاودة الانتشار، لتخفيف العبء الأمني عنه، بالتخلص من البيئات التي يعتبرها غير موالية، والاستفادة لأقصى حد من قدراته، محوّلاً، عبر هذا التكتيك، تلك المناطق من حاضن للثورة إلى عبء عليها.

بالنتيجة، أثقل هذا الوضع على الثورة، وشتّت جهدها، وحرمها حواضنها الشعبية، بل وضعها أمام تحدي تقديم الخدمات للبيئات المساندة لها، أو المتعاطفة معها، ما لم تنجح فيه، كما سهّل على النظام تفريغ هذه المناطق، بتشريد سكانها.

المشكلة أن الجماعات المسلحة لم تلتقط هذا التكتيك، في غمرة انتشائها بما اعتبرته انتصاراتها، وسعيها لتعزيز سيطرتها في إقطاعياتها، أي انها لم تدرك أن النظام نجح بإخراج الشعب من معادلة الصراع. وقد شهدنا ان الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ بات النشطاء الذين أطلقوا روح الثورة، هم أيضاً، غير قادرين على البقاء، لا في المناطق التي تخضع للنظام، ولا في المناطق التي باتت «محررة»، ما أدى إلى تغير الخطابات وأشكال العمل، بل تغير مضمون الثورة، بحيث لم تعد هي ذاتها.

وكما شهدنا، فسياسة النظام لم تتوقف عند حد قتل السوريين وتشريدهم، وإنما وصلت الى فتح البلد على ايران، والميليشيات الطائفية، التي تشتغل كذراع لسياساتها الاقليمية، ما يعني أن هذا النظام لم يتنازل لشعبه، وإنما لإيران ولميليشياتها، وللولايات المتحدة (في قصة الكيماوي)، بل تنازل لإسرائيل بعدم رده على اعتداءاتها، كما لـ «داعش» الذي تركه يسرح ويمرح بين الأراضي السورية والعراقية.

ومع أن النظام يتحمل المسؤولية الأساسية عن الاهوال التي يعيشها السوريون، فمعسكر «أصدقاء» الثورة يتحمل مسؤوليته، أيضاً، في حرق المراحل، والتشجيع على الثورة المسلحة، في واقع لم يصل فيه الحراك الشعبي الى حد تنظيم عصيان مدني في دمشق أو حلب. والمعنى ان هذا التحول لم يأت نتيجة نضج أو تطور سياسي في وعي الثورة أو بناها أو أشكال عملها، وانما بناء على مراهنات خارجية لم تثبت مصداقيتها البتّة، لا في فرض مناطق آمنة، ولا في فرض حظر جوي، ولا حتى في وقف البراميل المتفجرة. والمشكلة أن هذه التشجيعات والمراهنات (مع إغراءات التغيير الحاصلة في تونس ومصر وليبيا) شلّت قدرة السوريين على التفكير على نحو صحيح بتدرجات ثورتهم، وكرّست اعتمادهم على الخارج، ما أفقدهم السيطرة على أحوالهم ومستقبلهم. هكذا، ربما كان الأجدر أن يشتغل السوريون، على نحو متواضع، على الشعارات وأشكال العمل، باعتبار ثورتهم جولة من جولات الصراع، مع أن لا أحد يخوض صراعاً وفق حسابات تتضمن الفشل، لا سيما أنهم، في غمرة توقهم للحرية، وحرمانهم السياسة، ما كانوا يمتلكون نمطاً من التفكير ينطوي على هذا «الترف»، لذا فهذه المسألة ستبقى في حكم التاريخ.

 

ماجد كيالي

المصدر : الحياة