كيف اختفى مجرمُ حرب سوري وعميلٌ مزدوج في أوروبا؟

بدّل خالد الحلبي ولاءه في خضم حرب أهلية دموية،ولكن أيّ دولة يخدم حقاً؟

109
 في أحد الأيام من شهر أيلول (سبتمبر) عام 1961، دلف رجل ناحل القامة ذو شارب صغير إلى أحد ‏مكاتب البريد في دمشق ليستلم طرداً مُرسلاً إلى جورج فيشر. كان قلّة من الناس يعرفون أن ‏فيشر، وهو تاجر أسلحة نمساوي ذو مزاج سيئ، لم يكن في الواقع سوى الضابط في قوات ‏العاصفة في ألمانيا النازية الويس برونر “المساعد السابق لأدولف أيخمان في إبادة اليهود” حسبما ‏ذكرت برقية أميركية سرية. لكن أحد عملاء الموساد الذي تسلل إلى النخبة السورية كان من بين ‏من علموا بهويته. انفجر الطرد عندما فتحه برونر، ما أسفر عن مقتل اثنين من عمال البريد ‏وانطفاء العين اليسرى لبرونر.‏
قُبض على الجاسوس الإسرائيلي لاحقاً، وجرى تعذيبه وإعدامه. أما برونر، فعاش علانية في ‏دمشق لعدة عقود في شقة بالطابق الثالث من البناء رقم 7 بشارع حداد. وكتب صياد النازيين ‏سيمون ويزنتال  عام 1988 “إن الويس برونر هو الأسوأ بلا شك من بين مجرمي الرايخ ‏الثالث الذين ما زالوا على قيد الحياة”. وقد حكمت فرنسا على برونر بالإعدام غيابياً، وحاولت ‏إسرائيل قتله للمرة الثانية، لكن القنبلة لم تنل سوى من بعض أصابعه. جاء في حديث لبرونر ‏إلى مجلة ألمانية أنه نادم بشكل رئيسي لأنه لم يقتل مزيداً من اليهود.‏
تجاهل ديكتاتور سوريا حافظ الأسد، عدة طلبات لتسليم برونر. فقد كان برونر مفيداً له، إذ عمل ‏كتأكيد على سيادة الدولة السورية، والاستهزاء بالمعايير والقيم العالمية، وإهانة إسرائيل ‏المجاورة العدوة لسوريا. وعلى حد وصف أحد المقربين ضمن دائرة الأسد الضيقة، فقد كان ‏برونر “ورقة أبقاها النظام في يده”.‏
لكن بحلول أواخر تسعينيات القرن العشرين، ومع تدهور صحة الأسد، أولى الأسد الأب ‏اهتمامه لتمهيد عالمه القاسي أمام ابنه. وبعدما ورث الرئاسة، بدأ بشار الأسد ‏يصور نفسه على أنه إصلاحيّ. وبالتالي فإن وجود ضابط متّهم بارتكاب جرائم إبادة بشكل علني ‏في الحي الدبلوماسي محاطاً بالحراس السوريين يمكن أن يكون عبئاً. وعلى مدى الأعوام ‏الخمسة عشر التالية، افترض صيادو النازيين أن برونر كان مختبئاً في شارع حداد، ربما حتى ‏بعد عيد ميلاده المئة،لكن أحداً لم يره، لذلك لم يكونوا يعلمون ذلك على وجه اليقين.‏
ساعد برونر ونازيون آخرون في هيكلة أجهزة المخابرات السورية، ودربوا ضباطها على فنون ‏الاستجواب،وما زالت تقنياتهم تلك مستخدمة حتى يومنا هذا في مراكز الاعتقال السورية. وكان ‏من بين ممارسي تلك التقنيات المدعو خالد الحلبي، وهو ضابط في الجيش السوري تم تعيينه في ‏أجهزة المخابرات عام 2001.وبحسب ما جاء في سرده للوقائع، فقد كان الحلبي جاسوساً ‏متردداً، إذ إنه أراد أن يبقى جندياً في الجيش. ومع ذلك، فقد خدم في المخابرات على مدى ‏السنوات الاثنتي عشرة التالية وتدرج في ترقيات الرتب.‏
وعندما اندلعت الثورة في سورية عام 2011، ألقى الأسد ونوابه باللائمة في الاحتجاجات على ‏قوى خارجية، وقاموا بسجن النشطاء الذين تحدثوا إلى وسائل الإعلام الأجنبية، وقبضوا على ‏الأشخاص الذين تحتوي هواتفهم على أغانٍ “مسيئة للسيد الرئيس”.بل وحتى أن الاتصالات ‏الحكومية الداخلية أكدت أن عدم الاستقرار في سوريا كان نتيجة “مؤامرات صهيونية ‏أميركية”. غير أن الحلبي أدرك أن الأزمة كانت حقيقية، فصارح رئيسه في العمل ‏بمخاوفه. ويتذكر الحلبي في وقت لاحق قوله “إن خمساً وتسعين في المئة من السكان ضد ‏النظام. فسألته ما إذا كان علينا قتل الجميع، إلا أنه لم يستطع أن يجيبني”.‏
وخلال السنوات العشر التالية، شاءت الظروف أن يصبح الحلبي وريثاً لظروف برونر،إذ قارن ‏دبلوماسيون وجواسيس من حكومات أخرى الخدمة السابقة للحلبي وبرونر وفائدتها المتصورة ‏مع المخاطر المستقبلية المحتملة، غير أن الصواب جانبهم أحياناً في تقديراتهم.فالحلبي وبرونر ‏تاجرا ببلديهما،لكنهما لم يكونا متشابهين من بعض النواحي: فبرونر النمسوي كان وحشاً؛ أما ‏الحلبي السوري -حسب معظم الروايات- لم يكن كذلك. ولكن في المقابل فقد قام كل منهما بوظائف ‏في نظام سفاّك، وفي النهاية، أصبحت أفعالهما كضابطي استخبارات هي حماية أنفسهم، فـ “يا ‏روح ما بعدك روح”.‏
وبحلول نهاية شباط ( فبراير ) 2013، كان الوقت يداهم خالد الحلبي، وعلى مدى السنوات الخمس ‏الماضية شغل الحلبي منصب رئيس فرع المخابرات العامة في الرقة، وهي محافظة صحراوية ‏مترامية الأطراف في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا، حيث عمل هناك بعيداً عن زوجته ‏وأطفاله. وكان الحلبي بالنسبة للسكان المحليين دخيلاً يتمتع بسلطة اعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم.لكن ‏الحلبي، العميد الذي ناهز الخمسين من عمره، كان يشعر بعدم الأمان داخل جهاز المخابرات ‏السورية. ووصفه موظف في فرع المديرية بأنه “رجل مثقف وكريم” وليس زعيماً قوياً أو ‏حازماً. وأشار آخر إلى أن الحلبي، الذي ينتمي إلى أقلية دينية تعرف باسم الدروز، كان يخشى ‏اثنين من مرؤوسيه العلويين الذين ينتمون إلى طائفة الأسد،فتغاضى عن فسادهما المستشري ‏وتجاوزاتهما.‏
ومن خلال هذه العدسة الطائفية، بدا الحلبي وكأنه يفهم خيبات أمله المهنية وإن على نحو ‏جزئي. حيث قال الحلبي لاحقاً إنه يعتبر نفسه “ضابطاً لامعاً”، وأنه كان الدرزي الوحيد في ‏المخابرات السورية الذي أصبح مديراً إقليمياً،لكنه أضاف: “بصراحة، الرقة هي المنطقة ‏الأقل أهمية في البلاد، ولهذا السبب وضعوني هناك. كان الأمر أشبه بوضعي في خزانة”.‏
كان الحلبي ينظر إلى السكان المحليين بنظرة ازدراء مشوب بالتعاطف. فهؤلاء السكان المحليون ‏هم أبناء قبائل ذات طبيعة محافظة، بينما كان الحلبي رجلاً علمانياً يحمل إجازة في القانون ‏ويشرب الخمر ويقرأ الأدب الماركسي. وكانت معتقداته السياسية تتماشى مع معتقدات بعض ‏المثقفين اليساريين الذين أُمر باعتقالهم من حين لآخر. وقد رفضت زوجة الحلبي وأبناؤه زيارة ‏الرقة، وبقوا في دمشق التي تبعد عنها مئات الأميال، وفي مدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية ‏التي ينحدر الحلبي منها. ومع مرور الوقت، وقع الحلبي في علاقة غرامية مع امرأة كانت تعمل ‏في وزارة البيئة، وتتذكر إحدى الممرضات أنه طلب الفياغرا.‏
استغل خصوم الحلبي تلك التجاوزات. إذ يتألف جهاز الأمن والمخابرات السوري من أربع ‏أجهزة متوازية ذات مسؤوليات متداخلة. وكان نظير الحلبي في المخابرات العسكرية ضابطاً ‏علوياً يُدعى جامع جامع، وقد أبدى كراهية خاصة له. واشتكى الحلبي من أن جامع “كان ينشر ‏شائعات بأنني كنت مخموراً طوال الوقت، وأنني لا أعمل، وأنني لا أغادر المكتب لأن هناك ‏صبياناً يأتون لرؤيتي”. وذات يوم، وبعد أن غادر الحلبي الرقة لزيارة عائلته في السويداء، ‏تعرضت سيارته لكمين عند نقطة تفتيش.وقال الحلبي فيما بعد إنه نجا من الاغتيال بشق ‏الأنفس، وكان على قناعة بأن جامع هو من أمر بهذا الكمين. و لم يكن خوف الحلبي الزائد ‏دخاناً بلا نار، إذ كانت المخابرات العسكرية تتنصت على هاتفه.‏
الرقة
كانت الأغلبية الساحقة من سكان الرقة من الريفيين السنّة، وأولئك لم يستفيدوا كثيراً من ‏الحكومة في دمشق. وعندما بدأت الاحتجاجات، أبلغ محافظ المنطقة لجنته الأمنية أن “التهديد ‏والترهيب هما فقط ما يجدي نفعاً”. وقد حاول الحلبي بادئ الأمر أن يمثل صوت الاعتدال.
‏وبحسب أحد المنشقين، طلب الحلبي من ضباطه عدم اعتقال القاصرين، والقيام بدوريات دون ‏أسلحة متى أمكن ذلك. لكن في آذار (مارس) 2012، وبعد أن قتلت قوات الأمن مراهقاً من السكان ‏المحليين، اندلع النزاع المسلح في محافظة الرقة. فجمع الحلبي رؤساء أقسامه في أحد الأيام ‏وأمرهم بفتح النار على أي تجمّع يضم أكثر من أربعة أشخاص. وقال الحلبي إن ذلك لم يكن ‏قراره، بل إنه قد تلقى الأمر من رئيسه في دمشق، علي مملوك.‏
رأى الحلبي أن الدائرة المقربة من الأسد تعاملت مع الرقة كطرف يجب التضحية به من أجل ‏حماية “قلب البلاد” على حد قوله،إذ قاموا بنشر ألف جندي فقط في المحافظة التي يبلغ حجمها مساحة ولاية نيوجيرسي. وبحلول نهاية عام 2012، كان “الجيش السوري الحر”، وهو كوكبة من ‏الفصائل المتمردة ذات الأيديولوجيات المتباينة- قد استولى على أجزاء رئيسية من الطريق ‏الواصل بين الرقة ودمشق. ثم انضم “الجيش الحر ” إلى الجماعات الإسلامية والجهادية في الريف ‏المحيط. وبحسب تقدير الحلبي، انتهت المعركة قبل أن تبدأ، ويقول: “كل من يعتقد غير ذلك فهو ‏أبله”.‏
للرقة مداخل خمسة رئيسية، وبحلول شباط (فبراير) من العام 2013، كانت المدينة مهددة من جميع ‏مداخلها. إذ كان أربعة منها تحت حراسة أعضاء أفرع المخابرات الأخرى. أما المدخل الخامس ‏الذي يؤدي إلى ضواحي الرقة الشرقية، فقد كان من مسؤولية رجال الحلبي في المخابرات ‏العامة. وكان المئات من رجال الشرطة والجيش وضباط المخابرات قد انشقوا بالفعل لينضموا ‏إلى المتمردين، أو فروا من الخدمة، بما في ذلك ما يقارب من نصف مرؤوسي الحلبي. وكثيرون ‏من هؤلاء حضّ الحلبي على الانضمام للثورة، لكنه بقي في موقعه.‏
وفي الثاني من آذار (مارس)، اقتحم الثوار مدينة الرقة عبر نقاط التفتيش التابعة لحلبي، ولم يواجهوا ‏مقاومة حقيقية. وكان الثوار بحلول وقت الغداء قد احتلوا أول عاصمة إقليمية لهم. وأطاح السكان ‏المحليون بتمثال مطلي بالذهب لحافظ الأسد في دوار الرقة الرئيسي، ونهب مقاتلون المباني ‏الحكومية وحطّموا صور بشار. كما أُلقيت جثة أحد كبار المحققين الذين يخدمون تحت إمرة ‏جامع جامع من أحد المباني ثم سحلت في الشوارع. وفي غضون ذلك، استولت كتائب إسلامية ‏على قصر المحافظ واحتجزت رئيس فرع حزب البعث ومحافظ الرقة كرهائن. وبحلول نهاية ‏الأسبوع، كان ضباط مخابرات النظام الذين لم يهربوا إلى إحدى القواعد العسكرية إما أسرى أو ‏منشقين أو قتلى. وكان هناك مسؤول كبير واحد فقط في عداد المفقودين: لقد اختفى خالد الحلبي. ‏
الحلبي في باريس
مرّ أكثر من عام، وكان الانهيار الفوري للرقة يغذي نظريات المؤامرة الإقليمية.حيث نشرت ‏صحيفة لبنانية شائعات بأن الحلبي ربما يكون “مختبئاً في جبل لبنان”. كما زعمت وسيلة إعلام ‏إيرانية أن القوى الغربية دفعت للحلبي أكثر من مئة ألف دولار لمساعدة الجهاديين على إسقاط ‏النظام.‏
وفي أحد الأيام في عام 2014، تلقى كاتب وشاعر سوري منشق يُدعى نجاتي طيارة مكالمة ‏هاتفية مُقلقة. فطيارة، الذي يبلغ من العمر نحو سبعين عاماً ويعيش في المنفى بفرنسا، دخل ‏المعتقلات السورية وخرج منها مرات عديدة خلال العقد الماضي بسبب انتقاده حكومة الأسد. ‏وعلم طيارة الآن أن الحلبي كان في باريس وأنه يريد مقابلته. وعلم طيارة الآن أن الحلبي كان ‏في باريس وأنه يريد مقابلته.‏
قال لي طيارة: “كنت قلقاً، إذ لبثت في السجن قبل مجيئي إلى فرنسا. وها هو ضابط مخابرات يأتي ‏الآن ويسأل عني”.‏
كان الحلبي قد اعتقل طيارة مرتين أواسط العقد الأول من الألفية، وذلك عندما كان منتدباً للعمل ‏في حمص وسط سوريا.وكان طيارة جزءاً من دائرة المنشقين والمثقفين الذين يقيمون صالونات ‏أدبية في منازلهم. ويتذكر أن الحلبي لم يكن مهتماً باستجوابه بعد كل اعتقال،ويضيف: “لقد كان ‏رجلاً مثقفاً، وكان لطيفاً ومهذباً معي. قال لي: معذرة منك، لكنني مُلزم بإرسالك إلى دمشق ‏للاستجواب. لا يمكنني رفض الأمر”. أعطى الحلبي طيارة رقم هاتفه الخلوي، وطلب منه ‏الاتصال إن هدده أحد أو أساء إليه أثناء اعتقاله. وأخبرني طيارة: “هكذا تعامل الحلبي مع ‏أشخاص مثلي من دعاة حقوق الإنسان والمثقفين العامين. أما مع الإسلاميين، فكان شخصاً ‏مختلفاً. لا يمكنني أن أكون شاهداً على ما كان عليه مع الآخرين”. وقد وافق طيارة على ‏الاجتماع بالحلبي بعد أن هاتفه في باريس.‏
أخبر الحلبي طيارة بأنه لم ير زوجته أو أطفاله منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأن ابنته الكبرى ‏التي كانت تدرس في دمشق، أُجبرت على ترك المدرسة واحتجزت لفترة وجيزة في أعقاب ‏سقوط الرقة، بينما كانت والدتها وإخوتها في السويداء تحت المراقبة المستمرة من قبل النظام. لم ‏يكن الحلبي قد انشق علناً وانضم إلى المعارضة،لكن طيارة يتذكر: “أخبرني أنه غادر سوريا ‏لأنه اتصل بالجيش السوري الحر، وأخبرني أنه أعطاهم مفاتيح الرقة”.‏
وبحسب ما قاله أعضاء القوة التي هاجمت الرقة، فقد بدأت المفاوضات قبل الهجوم ‏بأسابيع. ويتذكر ناشط مرتبط بالثوار، في مكالمة هاتفية جرت مؤخراً من الرقة: “طلبنا منه ‏القيام بأشياء في المدينة تسهّل الأمور على المتظاهرين والثوار للتأكد من أنه لا يخدعنا. كنتُ ‏مطلوباً من فرع الأمن التابع له، لكنه وضع مذكرة التوقيف على الرف حتى يتسنى لي التحرك ‏بحرية”.‏
وقبيل أيام قليلة من الهجوم، تواصل أحد قادة كتيبة إسلامية قوية مع الحلبي، ووعد بترتيب ‏هروبه وإنقاذ حياة مرؤوسيه إذا تمكن الثوار من دخول الرقة من الضواحي الشرقية ‏للمدينة. وعشية الهجوم، قام متمردون مسلحون بتهريب الحلبي إلى بلدة الطبقة الواقعة على ‏ضفاف نهر الفرات وسلموه إلى كتيبة أخرى أخذته إلى منزل آمن بالقرب من الحدود التركية ‏يملكه زعيم عشيرة محلي يدعى عبد الحميد الناصر. يتذكر محمد، نجل الناصر: “أراد بعض ‏عناصر الجيش السوري الحر اعتقاله، لكن بما أن والدي كان شخصية محلية لها مكانتها فلم ‏يستطع أحد فعل أي شيء”. وفي صباح اليوم التالي، أخذ الناصر الحلبي إلى الحدود ‏التركية،حيث اجتاز الحدود سيراً  في الوقت الذي قضى فيه ضباط من أفرع ‏المخابرات الأخرى ذبحاً في مواقعهم.‏
امتلأت مناطق الحدود التركية باللاجئين والمجندين الجهاديين والجواسيس. وبقي الحلبي على ‏اتصال مع ذلك القيادي الإسلامي، غير أن الراحة لم تجد إليه سبيلاً وهو في تركيا. ومن خلال ‏وسطاء، اتصل الحلبي بوليد جنبلاط، السياسي اللبناني الزعيم الفعلي ‏للطائفة الدرزية.كان بشير جنبلاط، جد جد وليد، قد قاد الهجرة الجماعية للدروز المضطهدين في ‏القرن التاسع عشر، وكان أسلاف الحلبي من بين المهاجرين خارج محافظة حلب.(ولاحظ ‏العلاقة بين كنية الحلبي واسم حلب بالعربية).وسأل الحلبي جنبلاط خلال الاتصال ما إذا كان ‏بإمكانه اللجوء إلى لبنان،لكن جنبلاط أخبره بأنه لن يتمكن من الوصول إلى هناك أبداً، وأن ‏”حزب الله” -الذي أرسل مقاتلين إلى سوريا لدعم النظام- كان يحظى بنفوذ في مطار ‏بيروت. ويذكر الحلبي أن جنبلاط بدلاً من ذلك “نصحني بالذهاب إلى الأردن”.‏
كانت الرحلة إلى الأردن مستحيلة عن طريق البر، لذلك أرسل جنبلاط مبعوثاً إلى اسطنبول في ‏أيار (مايو ) 2013 اصطحب الحلبي على متن طائرة. ومع أن الحلبي لم يكن يحمل جواز سفر، ولم ‏تكن بحوزته إلا هوية عسكرية سورية، إلا أن معارف جنبلاط رافقوا الحلبي عبر معبر الهجرة ‏الأردنية. وقال الحلبي لاحقاً: “كان وليد جنبلاط هو من نسّق كل شيء مع الأتراك والأردنيين.لا ‏أعرف كيف فعل ذلك”.‏
رتب رجال جنبلاط لقاء الحلبي بضباط دروز آخرين، ومنشقين سوريين، وعناصر من ‏المخابرات الأردنية من أجل دعم الثورة(اغتيل والد جنبلاط عام 1977، وكان وليد جنبلاط ‏يعتقد على الدوام أن حافظ الأسد هو الذي أمر بقتله).بيد أن معظم الدروز بدأوا يشكّون في أن ‏الحلبي ما زال يعمل لصالح النظام.وقال لي جنبلاط: “اكتشفنا أنه لعب دوراً قذراً جداً في ‏الرقة.ونعتقد أنه بذل قصارى جهده ليكشف للنظام نقاط ضعف المقاومة في الرقة، وأنه غيّر ‏ولاءه في اللحظات الأخيرة فقط لإنقاذ نفسه”. لذلك قطع جنبلاط وأتباعه كل الاتصالات مع ‏الحلبي،وقال: “والآن لا أعرف أين هو”.‏
وفي وقت لاحق من عام 2013، وبعدما واجه رفض زملائه الدروز، دخل الحلبي إلى السفارة ‏الفرنسية في عمّان وقدّم نفسه على أنه رئيس فرع مخابرات لا يؤمن بما يقوم به، وأن توجهاته ‏ السياسية والثقافية تتماشى مع أذواق الفرنسيين. وقال الحلبي لاحقاً: “أنا أهوى الكحول ‏والعلمانية وفرنسا والطعام و نابليون”، مضيفاً أنه منذ بداية الحرب السورية “أصبحتُ مقتنعا ‏بأن هذا النظام لن يدوم، وأن أي شخص يتحدث عن طول بقائه فهو غبي”. وفي هذه المرحلة، ‏انشق حتى الضابط الأعلى المسؤول عن منع الانشقاقات. وقال الحلبي: “بعد عقود من الخدمة ‏لدى النظام، قررت ألا أربط مصيري به”.‏
فرنسا
كانت الحكومة الفرنسية قد أمضت أكثر من عام في استخلاص المعلومات من كبار المنشقين ‏السوريين عن الجيش والمخابرات، تحسباً لخسارة الأسد للحرب من جهة، ولتسهيل خسارته ‏إياها من جهة أخرى. فقد كانت فرنسا قد احتلت سوريا ولبنان قبل مئة عام كجزء من الانتداب ‏بعد حقبة العثمانيين، وبدأت الآن عقد صفقات مع أي شخص تعتبره مقبولاً لقيادة سورية في ‏مرحلة ما بعد الأسد، وهي المرحلة التي بدت وشيكة أكثر فأكثر. ففي وقت ما من عام 2012، ‏وقع إطلاق نار قريب من منزل الأسد لدرجة أنه هرب وعائلته إلى اللاذقية، معقل العلويين في ‏الساحل السوري. وقال وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لسام داغر في كتابه “الأسد أو ‏نحرق البلد” المنشور عام 2019: “إذا كنا لا نريد انهيار النظام كما حدث في العراق والعواقب ‏الوخيمة في أعقاب التدخل الأمريكي، فكان علينا عندئذ إيجاد حل يمزج بين المقاومة المعتدلة ‏وعناصر من النظام لا حرج في التعامل معها”. وفي غضون ذلك، قام الأسد بإقصاء العديد من ‏المرشحين المحتملين لخلافته، بما في ذلك على ما يبدو صهره آصف شوكت، الذي كان على ‏اتصال بالمسؤولين الفرنسيين قبل مقتله في تفجير اعتبره كثيرون بفعل فاعل من الداخل.‏
اتخذ الحلبي مساراً حذراً، وقال للفرنسيين: “لم أكن لأغادر لو لم يقتل النظام الناس، إذ لم أرد ان ‏تتلطخ يداي بالدماء. ولهذا السبب تكرهني المعارضة المتطرفة،ويعتبرني النظام خائناً لأنني لم ‏أقتل الناس معهم”. وقال الحلبي إنه طالما بقيت أسرته في السويداء “فأنا عالق بين نارين”.‏
وبعد شهور من التعامل مع مسؤولي السفارة، تعرّف الحلبي على رجل كان يعرفه فقط باسم ‏جوليان. وقال الحلبي لاحقاً: “أدركت أنه من جهاز المخابرات ما إن وقعت عيناي عليه، لأنني ‏أعمل في هذا المجال”.ويبدو أن جوليان لم يجزم باحتمال وجود علاقة مع المخابرات الفرنسية، ‏لكن الحلبي رفض مشاركة أفكاره بلا مقابل، وقال: “أنا لست طفلاً، أنا ضابط مخابرات”.وأخبر ‏الحلبي جوليان أنه لن يفكر في مساعدة الفرنسيين إلا إذا تم إحضاره أولاً إلى باريس وحصل ‏على حق اللجوء السياسي، ثم عندما يتم تهريب عائلته من السويداء.‏
وفي شباط (فبراير) 2014، أصدرت السفارة الفرنسية في عمّان وثيقة سفر صالحة للاستخدام مرة ‏واحدة وتأشيرة دخول. ووصل الحلبي إلى باريس يوم 27 شباط بموجب خاتم الدخول، ونزل ‏في أحد الفنادق. ثم بدأت “لعبة الاستخبارات” على حد تعبير الحلبي: “كنت بحاجة إلى ‏المال. وأراد (الفرنسيون) الضغط علي لجعلني معوزاً”.‏
وعلى حد قول الحلبي، فقد كان جوليان يعلم أنه لا يملك سوى خمسمئة يورو وألف دولار.وكان ‏من المفترض أن يقابله شخص ما في الفندق في غضون يومين من وصوله ليسدد الفاتورة ‏ويساعده في التقدم بطلب للحصول على اللجوء والسكن والبدء باستجوابه، لكن أحداً لم يأت. وبعد ‏أسبوعين، نفد ما بحوزة الحلبي من المال،فحاول يائساً التواصل مع مموّل درزي في باريس له ‏صلات بجواسيس في الشرق الأوسط. وبعد حصوله على المال، أطل ضابط مخابرات فرنسي ‏أمام باب الحلبي.‏
يتذكر الحلبي: “لم تعجبهم حقيقة أنني اتصلت ببعض الأصدقاء”. وأشارت ضابطة المخابرات ‏التي قدمت نفسها على أنها السيدة هيلين، إلى العلاقة مع الشخص الدرزي على أنها دليل على ‏ارتباطه بوكالة استخبارات أجنبية أخرى. وأضافت أنه لا جدوى من تقديم طلب اللجوء. ولم ‏يرها الحلبي مرة أخرى بعد ذلك. ‏
انتهت صلاحية تأشيرة الحلبي بعد تسعين يوماً، لكنه تقدم بطلب لجوء على أي حال. واشتكى ‏الحلبي لموظف اللجوء من تجربته مع المخابرات الفرنسية: “أحضروني إلى هنا وتركوني،لو ‏كانوا مهنيين لحاولوا كسبي إلى جانبهم”.‏
رفض الحلبي التحدث معي، لكن مقابلة اللجوء الفرنسية -التي استمرت لأربع ساعات ونيف ‏وأجراها شخص لديه معرفة عميقة بالشؤون السورية، تقدم لمحة عن شخصيته وخلفيته ‏وأولوياته وحالته الذهنية. وقال الحلبي خلال المقابلة: “لقد تعرضت للغش، وهذا لا يتماشى ‏مع الأخلاق الفرنسية.يمكنهم فعل ذلك بجندي صغير، لكن ليس بضابط رفيع مثلي”.‏
فأجاب موظف اللجوء: “الأخلاق وأجهزة المخابرات ليسا الامر نفسه”.‏
كان رد الحلبي “أنا متأكد من أنهم سيتدخلون. وأعلم أنني أستحق وثيقة إقامة لمدة عشر سنوات، ‏اسأل ضميرك”.‏
وردّ الموظف “إذا أرادوا التدخل فسيفعلون ذلك، لكننا لن نتصل بهم.سنتخذ قرارنا بأنفسنا”.‏
‏”حكّم ضميرك! لا أحد في سوريا مهدد أكثر مني”.‏
تابع موظف اللجوء: “سوف نبذل ما يتوجب من العناية، ولعلك تدرك أنه وبالنظر إلى مهنتك، ‏فإنه سيتعين علينا التفكير في الأمر لفترة من الوقت. لا يمكننا اتخاذ قرار اليوم”.‏
مليون سوري هربوا الى أوروبا
بحلول نهاية عام 2015، فرّ نحو مليون سوري إلى أوروبا هرباً من الصراع. وبدأ الناجون من ‏الاعتقال والتعذيب اكتشاف معذبيهم السابقين في جميع أنحاء القارة سواء أكان  في محلات ‏البقالة أو في مراكز اللجوء، إذ دفعت الهجرة الضحايا والجناة إلى نفس نقاط الاختناق المروري، ‏وهي السواحل اليونانية وطرق البلقان وصناديق الحافلات في أوروبا الوسطى. وغرقت وكالات ‏الشرطة الأوروبية المحلية بالتقارير التي تفيد أنه ليست لديها القدرة على متابعتهم.‏
وفي أحد الأيام من ذلك الخريف، قادني محقق جرائم حرب كندي يدعى بيل وايلي إلى باب ‏مغلق في قبو بأوروبا الغربية. كانت توجد غرفة كبيرة في الداخل تحتوي على مزيل للرطوبة ‏ورفوف معدنية وصناديق من الورق المقوى تبلغ أكداسها من الأرض إلى السقف.
وكانت ‏الصناديق تحتوي على أكثر من 600 ألف وثيقة حكومية سورية، معظمها مأخوذ من منشآت ‏أمنية واستخباراتية صادرتها الجماعات المتمردة. وقامت مجموعة وايلي، وهي منظمة غير ‏حكومية تسمى “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” بإعادة بناء جزء كبير من التسلسل القيادي ‏السوري باستخدام هذه الوثائق.‏
شكّل وايلي وزملاءه لجنة العدالة والمساءلة الدولية استجابةً لما اعتبروه أوجه قصور رئيسية ‏في نظام العدالة الدولي. ونظراً إلى أن حكومة الأسد لم تصادق على الوثيقة التأسيسية للمحكمة ‏الجنائية الدولية فلم يكن بمقدور المحكمة فتح تحقيق في جرائم الحكومة السورية. وبالتالي وحده ‏مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هو من يمكنه تصحيح هذا الأمر، ولكن حكومتي روسيا ‏والصين أعاقتا الجهود المبذولة للقيام بذلك. لقد كان ذلك هو المَعلِم النهائي للفشل الدولي: حيث لم ‏يكن هناك من طريق واضح لملاحقة أكثر الحملات توثيقاً لجرائم الحرب والجرائم ضد ‏الإنسانية منذ الهولوكوست .‏
غالباً ما تركز المحاكمات الجنائية الدولية على السلطة والواجب وتسلسل القيادة، حيث تعني قوة ‏المشروع في الردع توضيح أن هناك معايير غير مرنة للسلوك أثناء الحرب. والافتقار إلى ‏الحماسة [في التجاوزات] لا يرقى لأن يكون حجة للدفاع،إنما المعول عليه هو ما يتم فعله، ‏وليس شعور الضابط حيال القيام بذلك.
وبالنظر إلى ما يعرف باسم “مسؤولية ‏القيادة” فإنه يمكن مقاضاة ضابط كبير، لفشله -مثلاً- في منع أو معاقبة الإجرام المنتظم ‏والمنتشر بين مرؤوسيه.‏
لكن يبدو أن هذا التمييز لم يجد طريقه إلى الحلبي، الذي يظهر أنه لم يفكر في “القانون” إلا من ‏ناحية التعليمات التي وُجّهت إليه، حيث قال الحلبي لموظف اللجوء الفرنسي: “عليك كجندي أن ‏تنفذ الأمر الذي تتلقاه”. ويبدو أنه لم يربط طاعته بما جاء بعد ذلك: فأكثر من مئتي فرد من فرع ‏الرقة التابع لمديرية المخابرات العامة سيتلقون الأمر، وعليهم تنفيذه. وقال الحلبي: “لم أفعل ‏أي شيء غير قانوني في سوريا قط، اللهم إلا مساعدة الناس. وإن كانت هناك محكمة دولية ‏لهؤلاء الناس، أي الأسد ونوابه، فسأكون أول من يمثل أمامها”.‏
أعدت لجنة العدالة والمساءلة الدولية إحاطة قانونية من 400 صفحة تثبت المسؤولية الجنائية ‏للأسد وحوالي عشرة من كبار مسؤوليه الأمنيين. وتربط الإحاطة بين التعذيب والقتل الممنهج ‏لعشرات الآلاف من المعتقلين السوريين حسب أوامر أصدرتها لجنة أمنية رفيعة المستوى في ‏البلاد ووافق الأسد عليها، ومن ثم أرسلت تلك الأوامر إلى سلاسل قيادية موازية. وتحتوي وثائق ‏لجنة العدالة والمساءلة الدولية على مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من أسماء المعتقلين ‏والمحققين والمخبرين البعثيين، ورؤساء كل جهاز أمني. كانت تلك الوثائق حجر الأساس ‏لعقوبات اقتصادية تستهدف مسؤولي النظام. وأصبحت اللجنة في السنوات الأخيرة مصدراً ‏للحصول على وثائق النظام السوري في ما يخص القضايا المدنية والجنائية في جميع أنحاء ‏العالم، وقد منعت معلومة حصل عليها أحد المحققين من الأراضي التي يسيطر “داعش” عليها ‏وقوع هجوم إرهابي في أستراليا. وفي غضون ذلك، تلقت اللجنة طلبات من وكالات إنفاذ القانون ‏الأوروبية بخصوص أكثر من ألفي سوري. وبحسب ستيفن راب، المدعي الدولي السابق الذي ‏شغل منصب سفير الولايات المتحدة المتجول لقضايا جرائم الحرب، وهو الآن رئيس مجلس ‏إدارة لجنة مكافحة الإرهاب، فإن الأدلة الموجودة في حوزة اللجنة أكثر شمولاً من تلك التي تم ‏تقديمها في محاكمات نورنبرغ.‏
ربما لا يكون للأسد ونوابه موطئ قدم في سلطة قضائية حيث توجه التهم إليهم. لكن في عام ‏‏2015، تلقى كريس إنغلز، رئيس العمليات في لجنة العدالة والمساءلة الدولية، معلومات من ‏محقق في سوريا تفيد بأن خالد الحلبي قد تسلل إلى أوروبا. وكان إنغلز يأمل في البداية في ‏إجراء مقابلة مع الحلبي بصفته منشقاً للحصول على معلومات موجزة حول الأسد. ولكن عندما ‏بدأ محللو اللجنة إعداد ملف عن الحلبي اعتماداً على وثائق النظام الداخلية وشهادة من ‏مرؤوسيه، بدأ إنغلز ينظر إلى الحلبي كهدف محتمل للملاحقة القضائية بدلاً من ذلك.‏
سأل موظف اللجوء الحلبي: “كم عدد الاعتقالات التي أمرت بتنفيذها؟”‏
‏”لا أتذكر، لا شيء في السويداء”.‏
‏”وماذا عن الرقة؟”‏
‏”أربعة أو خمسة”.‏
ووفقاً لتحقيقات اللجنة منتصف عام 2012، كان فرع المخابرات العامة الذي يديره الحلبي في ‏الرقة يعتقل حوالي خمسة عشر شخصاً يومياً،حيث يتم تجريد المعتقلين من ملابسهم الداخلية ‏ووضعهم في زنازين قذرة ومكتظة يعانون فيها من الجوع والمرض والعدوى. كما قام الفرع ‏بتحويل وحدات التخزين في الطابق السفلي إلى زنازين فردية يضم كل منها عشرة أشخاص أو ‏أكثر.‏
وجاء في إفادة لأحد مرؤوسي الحلبي السابقين: “يساق المعتقلون إلى مكتب الاستجواب، وعادة ‏ما يتم غمرهم بالماء البارد، ثم يحشرون في إطار احتياطي كبير، ويدحرجون على ظهورهم ‏ويضربون بالأسلاك الكهربائية أو أحزمة المراوح أو العصي أو الهراوات”. وتذكّر ناجون كيف ‏تعرضوا للصعق بالصدمات الكهربائية والتعليق من معاصمهم على الجدران أو السقف، وكان ‏الصراخ يُسمع في جميع أنحاء المبنى المكون من ثلاثة طوابق. وعادة ما يُجبر المعتقلون بعد ‏الاستجواب على التوقيع أو وضع بصمات أصابعهم على وثائق لم يُسمح لهم قط بقراءتها.‏
لم تر لجنة العدالة والمساءلة الدولية أي دليل على المعاملة المتصفة بضبط النفس التي وصفها ‏طيارة. والرعاية التي أظهرها له الحلبي قبل الثورة كانت بعيدة كل البعد عن الوحشية التي ‏تعرض لها نشطاء حقوق الإنسان والمثقفون الآخرون.‏
وقد ارتُكبت العديد من أفظع الانتهاكات على يد رئيس التحقيقات وكبير الموظفين لدى الحلبي، ‏وهما علويان كان يخشاهما على ما يبدو، حيث دأب هذان الرجلان وغيرهما على استخدام ‏التهديد بالاغتصاب، أو حتى ارتكابه فعلاً، أثناء الاستجواب. وقال المنشقون إن الحلبي، الذي لا ‏يفصل بين مكتبه وغرفة الاستجواب إلا جدار، كان “على علم تام” بما يجري. ويتذكر ضابط ‏سابق في الفرع “لم يكن لأحد أن يفعل أي شيء دون علمه. وكان يدخل ويشاهد التعذيب في كثير ‏من الأحيان”. وبصفته رئيس الفرع، فقد وقع الحلبي على كل أوامر نقل المعتقلين إلى دمشق ‏لمتابعة الاستجواب، وهناك تعرض آلاف الأشخاص للتعذيب حتى الموت.‏
وبعد أسابيع قليلة من سقوط الرقة، سافر نديم حوري، الذي كان حينها محلل الشؤون السورية ‏الرئيسي في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، إلى المدينة.وكان حوري يدرس هياكل أجهزة ‏المخابرات السورية وانتهاكاتها منذ عام 2006، والآن باتت وجهته هي فرع الحلبي الذي عاثت ‏يد النهب فيه خراباً. ‏
قال لي حوري: “تدخل [إلى الفرع] فيبدو لك الطابق الأول مثل أي مبنى بيروقراطي سوري ‏عادي، فهو عبارة عن مكاتب وملفات موزعة هنا وهناك، وستجد نفس الأثاث الذي عفا عليه ‏الزمن، ثم تنزل الدرج، فترى الزنزانات. لقد أمضيتُ سنوات في توثيق كيف حُشر الناس في ‏الزنزانات الانفرادية. والآن يتجسد الأمر نوعاً ما أمام ناظريّ”. وفي غرفة بالقرب من مكتب ‏الحلبي، يوجد بساط الريح، وهو أداة تعذيب خشبية كبيرة تشبه الصليب ولكن بمفصل في ‏وسطها، وهي تستخدم لثني ظهور المعتقلين، وأحياناً يصل الأمر إلى كسر ظهورهم.‏
يتابع نديم حوري: “هذا هو جوهر النظام السوري، إنه بيروقراطية حديثة فيها الكثير من ‏الأشخاص الأنيقين، لكنها تقوم على التعذيب والموت”.‏
التقى الحلبي وطيارة مرتين أو ثلاث مرات في باريس. وكانت اللقاءات ذات طابع ودي، وإن ‏سادها بعض التوجس فهذا لأن طيارة لم يفهم تماما دافع الحلبي للتواصل معه. ويقول طيارة إن ‏الدافع ربما كان الشعور بالوحدة أو الرغبة في الحصول على الصفح.‏
احتسى الشاعر والجاسوس القهوة السوداء مع السكر على نهر السين، وتجولا في حدائق المدينة، ‏وناقشا تحديات العيش في المنفى كرجلين كبيرين في السن. كانت حياتهما كخصمين تبدو أبعد ‏ما تكون عنهما، إذ إن كليهما محطمان ووحيدا ، وغير قادرين  على إتقان اللغة المحلية، حيث ‏شُرّدا في أرض آمنة لا تبالي بأي شيء يهتمان به وأي ممن يحبانه.عاش طيارة في استديو ‏صغير. وقال الحلبي لأسيره السابق إنه كان يقيم في حجرة إضافية لدى جزائري يعيش في ‏الضواحي. وقد كانت فرنسا عميقة الاهتمام في الشؤون السورية، ولكن النسيان طوى ‏المشهورين من السوريين في فرنسا، أولئك الذين باتوا متلهفين للعودة إلى ديارهم، ويشعرون ‏بالألم جراء الأحداث التي ينظر إليها الأشخاص من حولهم -سواء في الحافلات وقاطرات المترو ‏والمنتزهات والمقاهي – على أنها لا تعنيهم، بل لم يلتفتوا إليها قط.‏
سألتُ طيارة عما إذا كان الحلبي قد طلب مساعدته في أي وقت،فأجاب “لا،كان ذلك فقط للسؤال ‏عن صحتي وعائلتي.كان كل شيء جيداً جداً، ولم يكن بحاجة لأي شيء مني”.‏
لكن يبدو كما لو أن الحلبي كان يهيئ شاهداً، حيث أنه خطط لكي تتصل السلطات الفرنسية ‏بطيارة. وكان أيضاً يستغل عزلة هدفه -طيارة- وحنينه إلى الماضي. وقد استشهد الحلبي بطيارة ‏عندما سأل موظف اللجوء الفرنسي عن دوره في الإجراءات القمعية ضد المتظاهرين.‏
قال الحلبي: “ثمة شخص هنا في فرنسا”.‏
‏”ممن اعتقلتهم؟ “‏
فأجاب الحلبي: “إنه صديق، وهو عضو مشهور في المعارضة”.‏
بدأ الحلبي يسرد قصة اعتقال طيارة لأول مرة، حيث قال: “كان يعلم جيداً أن الأمر جاء ‏من الأعلى، وأنه لا علاقة لي به. بل إنني اشتريت له حتى منامة من مالي لأنني ‏أحببته، ومنعت رجالي من عصب عينيه وتقييد يديه، لكن كنت أعصب عينيه فقط عندما كان ‏يدخل منشآت الأمن القومي. ذهب طيارة وعاد، وبقينا أصدقاء. . . . يمكنك أن تسأله”.‏
قال الموظف الفرنسي: “أنا أفهم أنك تقلل من دورك بعض الشيء. فأنت تقول إنك كنت ضد ‏العنف والتعذيب والموت، لكنك بقيت رئيس فرع مخابرات لدى نظام كان معروفاً بقمعه. لماذا ‏بقيت تعمل مع هذا النظام كل هذه المدة؟”‏
لم ينتظر الحلبي صدور قرار بشأن وضعه كلاجئ. وبعد مرور أشهر دون ‏أن يسمع أي جديد حول هذا، اختار الاختفاء مرة أخرى. وقبل مغادرته باريس، ذكر الحلبي ‏لطيارة أن النمسا، حسب ما قاله أحد أصدقائه، كانت أكثر ترحيباً باللاجئين. وقد كان هذا تأكيداً ‏غريباً، إذ إن حكومة النمسا -التي تنتهج التوجه اليميني على نحو متزايد- اتخذت الموقف ‏المعاكس [لما قاله الحلبي]. وقد أخبرتني ستيفاني كريسبر، عضو البرلمان النمساوي التي تنتمي ‏للتيار الوسطي، والتي أفزعتها مقاربة الحلبي “إننا نحاول التخلص من طالبي اللجوء منذ ‏اللحظة التي يصلون فيها أرضنا”.‏
التقيتُ طيارة في باريس ظهيرة يوم ماطر من شهرتشرين الثاني (نوفمبر) عام 2019، وكان لم يكلم الحلبي ‏منذ سنوات. فطلبت منه المساعدة في الاتصال بالحلبي، لكن طيارة رفض بلطف وقال: “أنا رجل ‏عجوز أبحث عن السلام. وأنا أبحث عن الجمال وعن الشعر. وأحبّ مشاهدة الباليه! هذا اللغز صعب للغاية. ولا أريد الاستمرار في ذلك”.ثم تنهد وعدل وشاحه الذي حجب وجهه جزئياً ثم ‏أردف: “أخشى مواصلة التحقيقات بشأنه، فهناك الكثيرون منهم، يوجد الكثير من الضباط السوريين ‏هنا”.‏
داخل مقر لجنة العدالة والمساءلة الدولية، خلص إنجلز وويلي إلى أنه لا هدف أكثر أهمية ‏في متناول السلطات الأوروبية من خالد الحلبي بصفته عميداً ورئيساً لفرع استخبارات منطقة ‏‏[في سوريا], لقد كان أعلى مجرم حرب سوري رتبةً معروف بوجوده في أوروبا.‏
فشكلت اللجنة فريق  تتبع للعثور على الحلبي وأهداف أخرى: عمل المحققون على المصادر ‏والمنشقين، فيما انهمك المحللون في الوثائق التي يحصلون عليها، وكان هناك أيضاً وحدة ‏إلكترونية تبحث عن الآثار الرقمية. ولم يمض وقت طويل على وصول فريق التعقب إلى ‏حسابات الحلبي على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كان قد سمى نفسه “أخيليس” على ‏فايسبوك؛ بينما كان على سكايب “أبو قتيبة”، حيث أن نجل الحلبي الأكبر اسمه قتيبة. وادعى ‏الحلبي على الإنترنت أنه يعيش في الأرجنتين، لكن البيانات الوصفية على سكايب كشفت أنه ‏أخبر طيارة بالحقيقة حول خططه. حيث قام بتسجيل الدخول باستمرار من هاتف محمول مرتبط ‏بعنوان إنترنت في فيينا.‏
وكان محققو لجنة العدالة والمساءلة الدولية يتلقون بين الفينة والأخرى معلومات حول أعضاء ‏”داعش” في أوروبا، فيقوم وايلي بتنبيه السلطات المحلية على الفور. لكن عندما يتعلق الأمر ‏بضباط الجيش والمخابرات السوريين السابقين الذين لا يشكلون تهديداً مباشراً، فإن منظمته ‏تكون أكثر تعقلاً. حيث قال ويلي: “نحن لا نذهب إلى السلطات المحلية ونقول: سمعنا أن فلاناً ‏موجود في بلدكم. وإذا كان هؤلاء ما يزالون موالين للنظام، فإنهم قد يشكلون تهديداً للسوريين ‏الآخرين في بلاد المهجر بأوروبا، لكنهم لن يفجروا أو يطعنوا الناس في منطقة مخصصة ‏للتسوق. أضف إلى ذلك،أنه يمكن أن يدفع تسرب التنبيه شخصاً مثل الحلبي إلى التواري عن ‏الأنظار.‏
بحلول كانون الثاني (يناير) 2016، كان ملف الحلبي القانوني لدى لجنة العدالة والمساءلة الدولية قد اكتمل. ولم ‏يتغير موقع تسجيل الدخول إلى سكايب الخاص بالحلبي لمدة أربعة أشهر. فطلب ستيفن راب ‏اجتماعاً مع وزارة العدل النمساوية. وجاء الرد على ورق رسمي مكتوب عليه السنة الخطأ: ‏‏”عزيزي السيد راب! يسعدنا أن ندعوك أنت والسيد إنجلز إلى وزارة العدل الاتحادية النمساوية. ‏ستتحمل كافة نفقات الوفد، بما في ذلك الترجمة الفورية و / أو الترجمة والإقامة والتنقل ‏والوجبات والأدلاء والتأمين أثناء إقامتك في النمسا”.‏
وقال لي إنجلز: “لم نعمل مع النمساويين من قبل، فهم ليسوا نشيطين للغاية في مجال جرائم ‏الحرب الدولية. لكن عادة ما تكون هذه عملية تعاونية جداً وتتطلب السرعة”.‏
وفي صباح يوم 29  كانون الثاني (يناير) 2016، دخل راب وإنجلز إلى الغرفة 410 في وزارة العدل ‏النمساوية، حيث كان في انتظارهما خمسة مسؤولين هم: قاضٍ، ومسؤول إداري كبير، ونائب ‏رئيس قسم الجرائم الدولية، ورجلان لم يفصحا عن أسميهما. وبعد أن عرض إنجلز وراب ما ‏لدى لجنة العدالة والمساءلة الدولية من أدلة، بحث أحد المسؤولين في قاعدة بيانات حكومية وأكّد ‏أن خالد الحلبي مسجل في عنوان بفيينا.‏
انتهى الاجتماع، وسلم إنجلز وراب ملف الحلبي. وما إن غادرا الغرفة حتى طُلب من الرجلين ‏اللذين لم يتم الكشف عن اسميهما -واللذين كانا يعملان في المكتب الاتحادي لحماية الدستور ‏ومكافحة الإرهاب (وهو وكالة الأمن والاستخبارات الداخلية النمساوية) النظر فيما إذا كان ‏الرجل الذي وصفته لجنة العدالة والمساءلة الدولية هو نفسه الرجل الموجود في العنوان ‏بفيينا. ووافق الرجلان على القيام بذلك دون إعطاء أي إشارة إلى أنهما سمعا عن الحلبي قبل ذلك ‏الصباح. لكن في الواقع، كان أحدهما، وهو ضابط مخابرات يدعى أوليفر لانغ، قد أخذ الحلبي ‏قبل أسبوعين للتسوق من أجل شراء دروج للتخزين من متجر ايكيا، وكتب عنوان التسليم ‏باستخدام اسمه الحركي.‏
احتفظ لانغ بإيصال الدفع، ثم قدمه لاحقاً لتغطية النفقات. وكان الإيصال يحمل توقيع الحلبي الذي ‏لم يغيره منذ أيام توقيعه أوامر التوقيف في الرقة.وكانت أموال شراء الدروج دفعة نقدية جاءت ‏من الأشخاص السريين القدامى الذين كانوا يحركون الحلبي: أجهزة المخابرات الإسرائيلية.‏
بعد الحرب العالمية الثانية، أكدت الحكومة النمساوية أن شعبها كان أول ضحايا النازيين خلافاً ‏لما قاله أنصار النازيين المتحمسين. لكن لم يتم تعليم أطفال المدارس عن الهولوكوست، ولم ‏يتمكن اليهود الذين عادوا إلى فيينا من استعادة الممتلكات المصادرة لمدة نصف قرن تقريباً. وفي ‏عام 1975 أوقفت النمسا جميع الملاحقات القضائية للنازيين السابقين. وبعد عشر سنوات، ‏ذكرت صحيفة “التايمز “أن البلاد “تخلت عن أي محاولة جادة لاعتقال السيد برونر” النازي الذي ‏كان يعيش في دمشق آنذاك، والذي قام بترحيل أكثر من مائة وخمسة وعشرين ألف شخص إلى ‏معسكرات الاعتقال والإبادة. وقد أرسل برونر الأموال إلى زوجته وابنته في فيينا من شقته في ‏شارع حداد، حيث قاد المكتب الذي تخلّص من سكان اليهود للمدينة. ويبدو أن المستشار ‏النمساوي قد رفض تقبّل الموقف الرسمي للحكومة السورية الذي تقول فيه إنه ليست لديها فكرة ‏عن مكان وجود برونر.‏
النمسا
وفي عام 1986، تبين أن الدبلوماسي النمساوي المعروف كورت فالدهايم -الذي كان قد شغل ‏منصب الأمين العام للأمم المتحدة – كان ضابطاً في الاستخبارات النازية خلال الحرب. وقد نفى ‏فالدهايم -الذي كان مرشحاً لرئاسة النمسا- هذه المزاعم في البداية، ولكن مع ظهور مزيد من ‏المعلومات، بدأ فالدهايم الدفاع عن نفسه بأنه “جندي نزيه”، وادعى أن “الفضيحة” الحقيقية هي ‏الجهود التي تحاول إثارة نعرات الماضي. كما انبرى سياسيون آخرون للدفاع عنه،حيث قال ‏رئيس حزب فالدهايم لمجلة فرنسية إنه “طالما أنه لا يمكن إثبات أنه خنق شخصيا ستة من ‏اليهود، فلا مشكلة” . وقد فاز فالدهايم في الانتخابات، وبقي في المنصب حتى عام 1992. ‏وقالت وزارة العدل الأميركية إنه قد شارك في العديد من جرائم الحرب النازية، بما في ذلك نقل ‏المدنيين للعمل بالسخرة، وإعدام المدنيين وأسرى الحرب، والترحيل الجماعي إلى معسكرات ‏التعذيب والإبادة. وحتى نهاية ولايته، لم يكن فالدهايم محل ترحيب إلا في بعض الدول العربية ‏وفي الفاتيكان.‏
استغرق الأمر إلى حين انتهاء رئاسة فالدهايم لكي تبدأ الحكومة النمساوية في الاعتراف ‏بالجرائم التي ارتُكبت قبل عقود من الزمن. والعام الماضي فقط بدأت النمسا في منح الجنسية ‏لأحفاد ضحايا الاضطهاد النازي.لكن شبح الماضي بقي يخيم على البلاد،حيث قال بيل وايلي، ‏الذي أجرى أول تحقيق له في جرائم الحرب خلال التسعينيات عن نازي نمساوي هرب إلى ‏كندا: “يُعرف عن النمساويين في دوائر جرائم الحرب الأوروبية بأنهم عديمو الفائدة أكثر من ‏غيرهم، فأنت لا تعرف أبداً ما الذي يدفع أحدهم إلى عدم الكفاءة والكسل وعدم الاهتمام، وما ‏الذي يدفعهم للفساد”.‏
كما استُبعدت النمسا في السنوات الأخيرة من الاتفاقيات الأوروبية لتبادل المعلومات ‏الاستخباراتية، بما في ذلك اتفاقية نادي بيرن، وهي شبكة استخبارات غير رسمية تضم معظم ‏الدول الأوروبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وإسرائيل. (انسحبت النمسا من هذه ‏الاتفاقية بعد أن تسربت للصحافة النمساوية المراجعة السرية التي أجراها النادي حول البنية ‏التحتية الإلكترونية وأمن المباني وإجراءات مكافحة الانتشار لدى المكتب الاتحادي لحماية ‏الدستور ومكافحة الإرهاب، والتي وجد أنها كلها سيئة). واتُّهم مسؤولون نمساويون كبار ‏بالتجسس لصالح روسيا وإيران، وكذلك تهريب منشق رفيع المستوى من النمسا على متن ‏طائرة خاصة. كما أدين جاسوس إيراني كان يعمل تحت غطاء دبلوماسي في فيينا بالتخطيط ‏لهجوم إرهابي على مؤتمر في فرنسا، كما كان هذا الجاسوس قد أدرج في وثيقة للمكتب ‏الاتحادي لحماية الدستور ومكافحة الإرهاب على أنه “هدف محتمل للتجنيد”. كما وجد المدعون ‏البلجيكيون في وقت لاحق أنه قام بتهريب متفجرات في حقيبة دبلوماسية عبر مطار فيينا. وقال ‏لي ضابط كبير متقاعد في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية: “لا يتمتع النمساويون ‏بمستوى جيد من الخدمة”. وكان الرأي العام داخل وكالات الاستخبارات الأوروبية الغربية هو ‏أن ما تشاركه فيينا من معلومات سرعان ما يجد طريقه إلى موسكو، وهو مصدر قلق أصبح ‏أكبر عندما رقص فلاديمير بوتين مع وزيرة خارجية النمسا في حفل زفافها في عام 2018.‏
‏ لكن في آذار ( مارس) 2015، دعا الموساد قيادة الاستخبارات الداخلية النمساوية للمشاركة في عملية ‏بدت ذات مغزى، حيث كان أحد عملاء الاستخبارات الإسرائيلية بحاجة إلى مساعدة ‏نمساوية. وكانت قد انقضت ثلاثة أشهر على مقابلة اللجوء التي أجراها الحلبي في فرنسا، والذي ‏كان يختبئ ويتعرض في نفس الوقت لمزيد من الانكشاف، ويبحث عن وسيلة للخروج من ‏البلاد.‏
سافر نائب مدير المكتب الاتحادي لحماية الدستور ومكافحة الإرهاب إلى تل أبيب. وبحسب ‏مذكرة سرية للغاية صادرة عن المكتب، قال الإسرائيليون إنه بسبب “الأصول الثقافية” ‏للحلبي، فإنه كان من المقرر “أن يضطلع بدور مهم في هيكل الدولة السورية بعد سقوط نظام ‏الأسد”.
ولن يعمل الحلبي لحساب المكتب، لكن الإسرائيليين وعدوا بمشاركة المعلومات ذات ‏الصلة مع الوكالة من وقت لآخر، وكل ما كان على النمساويين فعله هو إحضار الحلبي إلى ‏فيينا ومساعدته على بدء حياته.‏
‏ أعدّ برنهارد بيرشر -رئيس وحدة الاستخبارات في المكتب الاتحادي لحماية الدستور ومكافحة ‏الإرهاب- ملفاً باسم مستعار للحلبي: “الحليب الأبيض”. وكلّف بيرشر بالقضية ضابطين هما ‏أوليفر لانغ ومارتن فيليبوفيتس تلقيا بعد فترة وجيزة أوامر بالذهاب إلى باريس ‏والاجتماع مع الاستخبارات الفرنسية ثم العودة إلى فيينا في اليوم التالي ومعهما الحلبي. ولم تكن ‏هناك تحديات واضحة. فقد كان الموساد قد وافق على عملية التهريب مع الاستخبارات الفرنسية ‏حسبما ذكرت وثيقة المكتب الاتحادي، وكان العملاء الإسرائيليون على “اتصال دائم” مع ‏الحلبي في باريس.‏
انطلق لانغ وفيليبوفيتس في فجر يوم 11 أيار (مايو) ، واستقلا رحلة إلى مطار شارل ديغول – الصف ‏‏6، ومقاعد الممر “سي” و”دي” التي دفع فاتورتها الموساد. وعندما هبطا على أرض المطار، ‏توجها عن طريق المترو إلى مقر وكالة الاستخبارات الداخلية الفرنسية.ووفقاً لرواية لانغ الرسمية ‏للاجتماع، فقد جلسا مع نائب رئيس مكافحة التجسس ومتخصص في الشؤون السورية إضافة ‏إلى مترجم فوري. كما حضر ثلاثة ممثلين عن الموساد من بينهم رئيس محطة باريس ‏والشخص المحلي المعني بالحلبي.‏
طلب الضباط النمساويون والإسرائيليون الإذن بأن يغادر الحلبي من فرنسا على متن طائرة ‏تجارية، وهو طلب افترضوا أنه إجراء شكلي. لكن المخابرات الداخلية الفرنسية رفضت ‏ذلك. وقال مسؤول فرنسي إن الحلبي تقدم بطلب لجوء، وأن القانون المحلي ينص على أنه لا ‏يمكن لطالبي اللجوء السفر خارج الحدود الفرنسية إلى حين اتخاذ قرار حول ذلك، فاقترح ‏النمساويون والإسرائيليون أن يسحب الحلبي طلب اللجوء إلى فرنسا، لكن المخابرات الداخلية ‏الفرنسية أجابت بأن الحلبي، في هذه الحالة، سيكون موجوداً في فرنسا بشكل غير ‏قانوني. وبحسب ملاحظات لانغ، فقد أخبره الإسرائيليون بعد الاجتماع أن الفرنسيين قد غيروا ‏موقفهم عندما علموا أن “الاستخبارات الداخلية النمساوية منخرطة في الموضوع أيضًا”.‏
اقترح لانغ أن يقوم الإسرائيليون بتهريب الحلبي من فرنسا في سيارة دبلوماسية عبر سويسرا ‏أو ألمانيا. وكانت الاستخبارات النمساوية تنتظر على الحدود لترافقهم إلى فيينا. وكتب لانغ: ‏‏”لقي الاقتراح ترحيباً طيباً”،غير أنه كان سيتعين على فريق الموساد أولاً الحصول على موافقة ‏من المقر الرئيسي في تل أبيب “لأن هذا النهج يمكن أن يكون له تأثير دائم على العلاقات” بين ‏وكالتي الاستخبارات الإسرائيلية والفرنسية.‏
‏ في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، كان الموساد قد اعتاد على العمل في باريس دون إذن ‏من فرنسا.حيث استدرج الموساد، الذي لا يخضع للإطار القانوني لإسرائيل باستثناء لرئيس ‏الوزراء، ضباط المخابرات الفرنسية إلى علاقات غير لائقة؛ وحاول بيع معدات اتصالات ‏مشبوهة للشرطة الوطنية الفرنسية وجهاز المخابرات المحلية من خلال شركة تعمل كواجهة؛ ‏واستُخدمت غرفة في فندق في باريس كنقطة انطلاق لعملية اغتيال في دبي. حيث دخل أعضاء ‏فريق الاغتيال إلى الإمارات وخرجوا منها من بجوازات سفر مزورة مستخدمين هويات ‏مواطنين فرنسيين حقيقيين، وهي حادثة وصفها قائد الشرطة القضائية في باريس في وقت لاحق ‏لصحيفة “لوموند” بأنها “اعتداء غير مقبول على سيادتنا”.‏
‏ وفي الثاني من حزيران (يونيو)، التقى لانغ وفيليبوفيتس وبيرشر بضباط من الموساد. وكتب لانغ: “جرى ‏الاتفاق على تسليم (الطرد)” في غضون أحد عشر يوماً، وربما كان الإسرائيليون قد توصلوا ‏بهدوء إلى اتفاق مع المخابرات الفرنسية تجنباً لأي احتكاك بينهم، لكن النمساويين لم يكونوا ‏على علم مطلقاً بأي ترتيب من هذا القبيل، فبقي دور الاستخبارات الداخلية الفرنسية في الظل.‏
على عكس فرنسا، لم تسع إسرائيل علانية للإطاحة بنظام الأسد، بل تركزت عملياتها في ‏سوريا على الأمور التي تراها تهديداً مباشراً لها: الأفراد الإيرانيون، ونقل الأسلحة، ودعم ‏”حزب الله”. فنفذت الطائرات الحربية الإسرائيلية منذ عام 2013 مئات عمليات القصف على ‏أهداف مرتبطة بإيران في سوريا. ونادراً ما كانت الحكومة السورية تندد بالضربات، لأن ‏الاعتراف بها يعني الاعتراف بأنه لا حول لها ولا قوة في منعها. ومن غير المحتمل أن يكون ‏الحلبي مفيداً بأي شكل من الأشكال للاستخبارات الإسرائيلية من مخابئه في أوروبا.‏
‏ وقبل يومين من إخراج الحلبي، تمت ترقية التصريح الأمني للانغ إلى “سري للغاية”. ولم يكن ‏من أحد على علم بالعملية خارج قيادة المكتب الاتحادي لحماية الدستور ومكافحة الإرهاب سوى ‏لانغروفيلبوفيتس فقط.وكان لانغ ما يزال يعتقد أن الحلبي لديه إمكانية الوصول إلى معلومات ‏‏”ذات أهمية كبيرة” للدولة النمساوية،فكتب إلى بيرشر: “المعجزات تحدث”.‏
أجاب بيرشر: “اليوم مثل ليلة الميلاد”.‏
‏”حسنا إذن . . عيد ميلاد مجيد”.‏
وفي 13  حزيران، انتظر لانغ وصول الإسرائيليين عند معبر فالزربيرغ على الحدود مع ‏ألمانيا. ومن غير الواضح ما إذا كانت الحكومة الألمانية على علم بأن الموساد كان ينقل ضابطاً ‏سورياً كبيراً من فرنسا عبر أراضيها في سيارة دبلوماسية. فحجز لانغ غرفاً في فندق في ‏سالزبورغ لنفسه وللإسرائيليين وللرجل الذي أصبح يشير إليه في تقاريره بعبارة “الحليب ‏الأبيض”، وتولى الموساد أمر فاتورة الفندق مرة أخرى.‏
يقول كيم فيلبي، الجاسوس البريطاني الذي انشق إلى الاتحاد السوفياتي عام 1967: “لكي ترتكب ‏الخيانة، يجب أن يكون لديك انتماء أولاً. أما أنا فلم يكن لدي انتماء أبداً”.‏
على مر العامين الماضيين، ناقشتُ قضية الحلبي مع جواسيس وسياسيين ونشطاء ومنشقين ‏وضحايا ومحامين ومحققين جنائيين في ست دول، وراجعتُ آلاف الصفحات من الوثائق السرية ‏باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والعربية والألمانية. كانت العملية مليئة بالخيوط الكاذبة ‏والمعلومات المضللة والشائعات المعاد تدويرها والأسئلة التي لا يمكن الإجابة عليها، وأحدها ‏هو التوقيت الدقيق لتجنيد الحلبي من قبل المخابرات الإسرائيلية وطبيعة ذلك التجنيد. ولم يكن ‏لدى أحد تفسير واضح لهذا الأمر، ولا أحد يدري ما المساهمة التي قدمها الحلبي للمصالح ‏الإسرائيلية. غير أن الصورة بدأت تتجلى على مهل.‏
بين الحلبي وإسرائيل
تصف مذكرة مسربة من الاستخبارات الداخلية النمساوية إسرائيل بأنها، ومن خلال قيامها ‏بتهريب الحلبي خلسة من باريس، “ملتزمة أمام عملائها الذين أتموا مهامهم بالفعل”. أدى هذا ‏إلى حل مسألة ما إذا كان قد تم تجنيده في أوروبا، حيث قال لي الضابط الكبير المتقاعد في وكالة ‏الاستخبارات المركزية الأميركية، صاحب الباع الطويل من الخبرة في الشرق الأوسط: “لا أحد ‏حقاً يريد منشقين.بل ما تريده حقاً هو عميل لا يزال في منصبه”. وبالتالي كان الإسرائيليون ‏يردّون المعروف لمصدر قديم من خلال نقل الحلبي إلى فيينا. لكن كيف بدأت العلاقة بينهم؟
‏ تخرج الحلبي من الكلية الحربية السورية في حمص عام 1984 عندما كان في الحادية ‏والعشرين من عمره. وحصل بعد ستة عشر عاماً على إجازة في الحقوق من دمشق، وهو ما أدى الى ضمه لمديرية المخابرات العامة. وقال الحلبي لموظف اللجوء الفرنسي: “لم أختر ‏العمل في جهاز الأمن، بل كان ذلك أمراً عسكرياً. فقد كنت ضابطاً عسكرياً لامعاً، وكنت غاضباً ‏من نقلي الى جهاز المخابرات”. خدم الحلبي في المديرية بدمشق لمدة أربع سنوات، وأصبح في ‏العام 2005 رئيس فرع المنطقة في السويداء أولاً ثم في حمص وطرطوس والرقة.‏
سلط الحلبي الضوء خلال إجراء مقابلات اللجوء على الطبيعة الدقيقة لوظيفته الأولى في إدارة ‏دمشق، وركز المحققون على ما فعله الحلبي خلال تسلمه منصبه الأخير. لكن الإسرائيليين ‏ارتكبوا خطأ في اجتماع سري للغاية، فوفقاً لملاحظات اجتماع الاستخبارات الداخلية النمساوية، ‏قال ضابط في الموساد إن الحلبي لا يمكن أن يكون متورطًا في جرائم حرب، لأنه كان “رئيس ‏‏’الفرع 300′ في الرقة”، والذي كان “مسؤولا بشكل حصري عن “إحباط أنشطة أجهزة ‏الاستخبارات الأجنبية”.‏
لم تسجل الاستخبارات الداخلية النمساوية الخطأ: لا يوجد فرع 300 في الرقة، بينما فرع الحلبي ‏كان 335. ومع ذلك فقد وصف عميل الموساد بدقة واجبات مكافحة التجسس للفرع300 الحقيقي ‏الموجود في دمشق.‏
فبدأتُ البحث عن إشارات إلى الفرع 300 والتجسس المضاد في مختلف ملفات الحلبي ‏وتسريباته. وقال أحد المنشقين للجنة العدالة والمساءلة الدولية إن الحلبي ربما خدم في الفرع ‏‏300، لكنه لم يحدد متى كان ذلك. وكان لديّ حينها مئات الصفحات من الوثائق الحكومية ‏مبعثرة على الأرض. وذات يوم، أعدت مراجعة طلب لجوء الحلبي إلى فرنسا المكتوب بخط اليد ‏بدءاً من صيف عام 2014. وجاء في وصفٍ لتاريخ عمله هناك أن وظيفته الأولى في ‏المديرية: “لقد خدمت في دمشق (جهاز مكافحة التجسس)”.‏
وبحسب رواية الحلبي عن حياته، كان ممكناً أن يكون هدفاً تقليدياً للتجنيد: حيث ناهز ‏منتصف العمر، وخالجه شعور أن براعته العسكرية لم تكن موضع تقدير. فأمسى الحلبي ‏متضايقاً من فكرة أنه في دولة تديرها النخب العلوية الطائفية بغض النظر عن مدى خدمته، ‏وهكذا فإنه لن يحصل أبداً على التقدير أو السلطة.وعلى حد قول الحلبي لموظف اللجوء ‏الفرنسي، فإنه حتى بعد ترقيته إلى رئيس مدير فرع المنطقة: “تعرضت للتهميش بصفتي أنتمي ‏إلى الأقلية الدرزية”. ويبدو أنه يعتبر نفسه درزياً أولاً وسورياً ثانياً،إذ إن الدروز ليسوا ملتزمين ‏بسياسة أي بلد على وجه الخصوص، بل هم ببساطة يتخذون ترتيبات عملية من أجل بقائهم.‏
من الصعب للغاية اختراق فرع مكافحة التجسس في سوريا من الخارج،لكن بقية أجهزة الدفاع ‏السورية ليست كذلك. وقد سبق أن أخبرني عضو سابق في مجتمع  الاستخبارات المركزية في ‏السنوات التي سبقت الثورة أن “الجميع  كان يتجسس لصالح جهة ما، إن لم يكن الإسرائيليون فهو ‏إما نحن إما الأردنيون. الجيش السوري بأكمله ليس إلا منظمة إجرامية ومافيا.لم يكن لديهم ولاء ‏حقيقي للدائرة الداخلية الضيقة، وكان العمل صعباً لأنهم كانوا يتجسسون على بعضهم البعض ‏أيضاً. لكن لم تكن هناك الكثير من الأسرار”.‏
ويبدو أن الحلبي بقي في سوريا خلال معظم سنوات مسيرته المهنية، إن لم يكن كلها. ولهذا ‏السبب فإنه من المرجح أن يكون جُنّد للعمل لصالح المخابرات العسكرية الإسرائيلية وليس ‏الموساد. وهناك عنصر استخباراتي عسكري سري يعرف باسم “الوحدة 504″التي تجند العملاء ‏وتتعامل معهم في مناطق الصراع والتوترات المجاورة، بما في ذلك سوريا، وعادة ما تستهدف ‏الضباط العسكريين الشباب الواعدين. ولو قُدّر للوحدة 504 الوصول إلى الحلبي عندما كان أقل ‏رتبة لكان تعيينه في الفرع 300 بمثابة انقلاب استخباراتي استثنائي.‏
‏ ربما لم يعرف الحلبي لبعض الوقت أنه كان يعمل لصالح إسرائيل، إذ يتظاهر جواسيس ‏إسرائيل عادة بأنهم أجانب من دول أخرى، لا سيما أثناء قيامهم بالعمليات في الشرق ‏الأوسط. وربما لم يدرِ أيضاً أنه تم تكليفه بمهمة ضيقة تتعلق بمصلحة مشتركة، فقد شعر الحلبي ‏بالاشمئزاز من نفوذ إيران المتزايد على سوريا، ووصف الأسد بأنه “دمية بيد إيران لا تصلح ‏لحكم أي بلد”.‏
من غير المعروف ما هو مدى خدمة الحلبي لإسرائيل، ولكنني لم أجد أي دليل على اشتراكها في ‏هروبه من الرقة إلى تركيا، أو على جهودها لإقناع السفارة الفرنسية في الأردن من أجل إرساله ‏إلى فرنسا، حيث انكشفت اتصالاته مع الممول الدرزي، وهو ما استرعى انتباه وليد جنبلاط ‏ورجاله حين كشفوا عن تدفق غير عادي للنقود والاتصالات إلى الجالية الدرزية السورية عن ‏طريق باريس. “هذا المال لم يأت من هنا”، هكذا أخبرني من قصره الحجري الأنيق في جبل ‏لبنان. كانت الأموال قادمة من إسرائيل، وأضاف جنبلاط: “نعتقد أن هذا الحلبي عمل مع جيراننا ‏السيئين، الإسرائيليون”.‏
بعدما تُرك الحلبي في باريس، بات على عاتق الموساد أن يساعد أحد الأصول الإسرائيلية.(من ‏غير المعروف أن الوحدة 504 تعمل في أوروبا).وبحسب ما ورد في مذكرة الاستخبارات ‏الداخلية النمساوية، فقد وضع الموساد “خطة مرحلية” للحلبي تقضي بالتسلل إلى النمسا، ‏بالإضافة إلى منحه راتباً شهرياً مبدئياً يبلغ آلاف اليوروهات،وكان الهدف على المدى الطويل ‏هو أن يصبح الحلبي “مكتفياً ذاتياً من الناحية المالية”،لكنه لم يكن، بحسب المذكرة “بلا سند”.‏
كان أوليفر لانغ أيضًا ضابطاً في مجال مكافحة التجسس، وكان تخصصه في الاستخبارات ‏الداخلية النمساوية هو الشؤون العربية.لكنه لم يتعلم اللغة العربية أبداً، لذلك أحضر رئيسه ‏بيرشر ضابطاً آخر، هو رالف بوشاكر الذي ادعى إتقانه للعربية، غير أن الرجلين لم يتمكنا من ‏التواصل عندما عرّفه لانغ بالحلبي، وقال لانغ لبيرشر: “حسنًا، يمكنك أن تنسى أمر رالف، فهو ‏لا يفهم لهجة [الحلبي] بأي شكل”,
وبيرشر هذا رجل قصير القامة أشقر الشعر يتمتع بطاقة اجتماعية محمومة.. وقبل أن يصبح ‏رئيسًا لوحدة الاستخبارات الداخلية في المكتب الاتحادي لحماية الدستور ومكافحة الإرهاب من ‏خلال حزبه السياسي في عام 2010، لم يكن لديه فهم يذكر للعمل الشرطي أو الاستخباراتي.‏
وبعد يومين من عبور الحلبي إلى النمسا، دفع لانغ بمترجم لمرافقة الحلبي من أجل إجراء ‏مقابلة في مركز لجوء في ترايسكيرشن، التي تقع على بعد ثلاثين دقيقة جنوب فيينا. وكان ‏فيليبوفيتس قد درس خلال الأسابيع السابقة الخيارات القانونية التي سيحصل الحلبي بموجبها ‏على الإقامة، ووجدت أن اللجوء يحمل ميزة رئيسية: حيث أن أي مسؤول حكومي مشارك في ‏العملية سيكون “خاضعاً لواجب السرية الشامل”.‏
قالت ناتاشا ثالماير، موظفة اللجوء التي أجرت المقابلة في وقت لاحق في ترايسكيرشن، إن لانغ ‏تأكد من أن الحلبي “معزول وأن طالبي اللجوء الآخرين لم يروه. لم يتم إخباري بالسبب وراء ‏ذلك”. ولم يقدم لانغ نفسه أبداً، وعلى الرغم من حذف حضوره من السجل إلا أنه كان ‏حاضراً.وتقول ثالماير :”لا أدري كيف وبموجب أي أساس قانوني يشارك مسؤول الاستخبارات ‏النمساوية الداخلية في المقابلة.لكنه كان هناك”.‏
كذب الحلبي على ثالماير بشأن دخوله النمسا، حيث قال إن صديقاً له في باريس “اشترى لي ‏تذكرة قطار” ووضعه في قطار متجه إلى فيينا دون أن يعلم في أي طريق يسير بالضبط. من ‏الواضح أن القصة كانت هراء. فقد كانت الاستخبارات الداخلية النمساوية قد رتبت المقابلة مع ‏مكتب اللجوء قبل وقت طويل من وصول الحلبي بمفرده بالقطار. ومع ذلك لم تطرح ثالماير ‏المزيد من الأسئلة في هذا الأمر،وتقول: “كان الاهتمام الخاص للاستخبارات الداخلية النمساوية ‏واضحاً”.‏
عند بدء عملية “الحليب الأبيض”، أشار بيرشر في سجلاته إلى أن الحلبي “يجب أن يغادر ‏فرنسا” لكنه “لا يواجه أي خطر”. إلا أن لانغ لفّق خطر التعرض للموت حيث كتب: “الوضع ‏في فرنسا من النوع الذي تتكرر فيه الاشتباكات العنيفة أحياناً بين مؤيدي النظام ومعارضيه، ‏ويؤدي بعض تلك الاشتباكات إلى وقوع إصابات خطيرة ووفيات”،وأضاف أنه بسبب “معرفة ‏الحلبي بأسرار الدولة السورية الكبرى فإنه يجب الافتراض أنه إذا تم القبض على الحلبي من ‏أجهزة المخابرات السورية المختلفة، فستتم تصفيته”. وقدمت الاستخبارات الداخلية النمساوية ‏مذكرات لانغ إلى وكالة اللجوء، التي أمر مديرها، وولفجانجتاوتشر، بالإغلاق على ملف الحلبي ‏‏”بالقفل والمفتاح”.‏
لم يكن لدى الاستخبارات الداخلية النمساوية منازل آمنة أو ميزانيات تشغيلية سوداء، لذلك ‏استأجر الحلبي شقة من والد زوجة بيرشر. ونفذ لانغ خلال الأشهر الستة التالية مهمات صغرى ‏نيابة عن الموساد”، ووجه رسالة إلى بيرتشر قال فيها “عزيزي برنارد! من فضلك تذكر أن ‏تتصل بحميك بخصوص الشقة!” وكاتبه أيضاً “عزيزي برنارد! لطفاً، تذكر الرسالة المتعلقة ‏بمنع التسجيل!”.
وافاه بيرشر بالرد “ربّاه، كم أنت مزعج”‏.
لئن كتب لانغ عبارة “عزيزي برنارد” في أوائل تموز، إلا أن حقيقة أنه كان عليه استخدام اسمه ‏الحقيقي في كل هذه المهام الصغيرة لم تعجبه. وكتب لانغ: “بالتأكيد لن يكون تخفيك وراء اسم ‏مستعار أمراً سيئاً،فما رأيك؟” وبحلول نهاية الشهر، كان لانغ يعرّف عن نفسه في جميع أنحاء ‏المدينة، سواء في ايكيا أو المصرف ومكتب البريد وخدمات التثبيت الإلكترونية، باسم ألكسندر ‏لامبيرغ. ‏
قام الإسرائيليون بتسديد نحو خمسة آلاف يورو شهرياً للانغ لقاء حسابات الحلبي، وكان ‏يجري تمريرها عبر محطة الموساد في فيينا. وقد احتفظ لانغ بسجلات دقيقة، وذكر أحياناً ‏أسماء الضباط الإسرائيليين الذين التقى بهم. وجد الحلبي أن شقة حمي بيرشر صغيرة جداً، لذلك، ‏وبعد بضعة أشهر، بدأ لانغ في البحث عن مكان آخر،فأرسل رسالة في يوليو 2015: “عزيزي ‏برنارد! إذا نجحنا، فإن الإيجار الشهري الذي اتفقنا عليه مع أصدقائنا سيزيد بشكل طفيف ‏بالطبع. ومع ذلك فإن رأيي هو أنه سيتعين عليهم القبول بالحال كما هو”.‏
وفي السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، زود الحلبي لانغ بمعلومات استخبارية تفيد بأن أحد مقاتلي “داعش” ‏المحتملين قد تقدم بطلب لجوء في النمسا. قدم لانغ تقريراً نقلاً عن “مصدر موثوق” وأرسله إلى ‏بيرشر، الذي أرسله إلى وحدة مكافحة الإرهاب.كان الضابط هناك مرتبكاً من المعلومة، فأرسل ‏رداً يقول: “ربما يستطيع المعني بالمصدر التحدث إلينا”. فقد انتشرت نفس المعلومات على ‏نطاق واسع على فايسبوك وفي نشرات الأخبار.‏
وفي الأسبوع التالي، ذهب لانغ وفيليبوفيتس إلى اجتماع في تل أبيب، ولدى عودتهما اصطحب ‏لانغ الحلبي إلى مقابلة اللجوء الثانية.ولأن الحلبي كان قد تقدم بالفعل بطلب للحصول على ‏اللجوء في فرنسا فقد طلب الضابط إذنه للاتصال بالحكومة الفرنسية. وقال الحلبي كما جاء في ‏محضر المقابلة: “أنا خائف على حياتي، وبالتالي فإنني غير موافق”.‏
سأله محاوره في إشارة إلى وجود العديد من السوريين في النمسا: “هل أنت خائف هنا؟”‏
رد الحلبي بأن عدد السوريين في النمسا أقل من عددهم في فرنسا بكثير : “لذا من السهل علي ‏الابتعاد عنهم هنا، علي الابتعاد قبل كل شيء عن العرب.وعلي البقاء بعيداً عن كل هؤلاء ‏الناس”.‏
واقع الحال هو أن الحلبي في كلا البلدين كان على اتصال مع مجموعة من السوريين كانوا ‏يحاولون إقامة مشاريع للمجتمع المدني في الأراضي التي يسيطر المتمردون عليها،لكنهم ‏اشتبهوا في أنه كان يجمع معلومات استخبارية عن أعضائهم. وقال لي أحد أعضاء المجموعة: ‏‏”جميع الضباط والمنشقين الآخرين يعرفون أن عليهم عدم طرح الكثير من الأسئلة من أجل ‏تجنب الشك فيما بيننا. لكن الحلبي كان عكس ذلك،فلطالما كان يطرح الأسئلة:كم عدد الأشخاص ‏الذين سيحضرون الاجتماع؟أين مكان الاجتماع؟ هل يمكنني الحصول على أسماء الجميع ‏وأرقام هواتفهم؟ أضاف العضو أنهم قطعوا عنه تدفق المعلومات وتابع بالقول:”أحد الاحتمالات ‏هو أنه ببساطة لا يستطيع أن يتخلى عن عقلية المخابرات. أما الاحتمال الآخر -الذي بدأنا نشك ‏فيه أكثر فأكثر بمرور الوقت – هو أنه لا يزال على صلة بالنظام”.‏
استضاف الحلبي في شقته بفيينا أعضاء موالين للنظام من الشتات السوري.وبحسب شخص ‏حضر إحدى هذه اللقاءات فقد تفاخر العديد من السوريين الذين يعرفونه بصلاتهم بأجهزة ‏المخابرات الأجنبية وأسلوب الحياة الذي جلبوه معهم.المصدر لهذه المعلومات، وهو منفيّ ‏سوري ذو صلات جيدة، استنتج لوحده وجود علاقة تربط الحلبي بالإسرائيليين، وقال إنه يعتقد ‏أن هذه العلاقات ترجع إلى العقد الماضي ومن المرجح أن تكون ضيقة النطاق، من قبيل الإبلاغ ‏عن شحنات الأسلحة الإيرانية أو أمور ذات صلة بحزب الله.‏
قال الرجل إنه في اللحظة التي غادر فيها الحلبي سوريا عام 2013أصبح: “الأضعف والأقل ‏أهمية في سياق الحرب،فقد شارك معظم الأشخاص المرتبطون بوكالات أجنبية -وفي بعض ‏الحالات فإنهم يواصلون المشاركة – في جرائم أسوأ بكثير”.وأضاف: “لديهم وصول كامل إلى ‏روسيا والغرب والأموال والحماية الدبلوماسية التي يحتاجونها”. عند البحث عن معلومات ‏استخباراتية لا يكون كل شخص مفيد شخصاً جيداً، كما أن معظم الأشخاص الجيدين ليسوا ‏بالمفيدين.‏
في الثاني من ديسمبر 2015 منحت النمسا الحلبي حق اللجوء، وأصدرت له في غضون أيام ‏جواز سفر صالح لمدة خمس سنوات.كما ساعد لانغ الحلبي في التقدم للحصول على مزايا من ‏الدولة النمساوية، وأيدت الاستخبارات الداخلية النمساوية طلبه مشيرة إلى أنه ليس لديها ‏‏”معلومات” تفيد بأنه “متورط في جرائم حرب أو أعمال إجرامية أخرى في سورية”.‏
بعد سبعة أسابيع، نبهت وزارة العدل النمساوية مكتب الاستخبارات الداخلية إلى أن لجنة العدالة ‏والمساءلة الدولية تعرّفت على مجرم حرب سوري رفيع المستوى موجود في النمسا.ولم يكن ‏مسؤولو وزارة العدل قد سمعوا عن الحلبي قط، ولم يكونوا على دراية بأن أحد أعضاء جهاز ‏المخابرات لديهم كان يلبي كل احتياجات الحلبي بناءً على طلب من وكالة أجنبية. فجرائم ‏الحرب في النمسا تندرج ضمن اختصاص التحقيق في وحدة التطرف التابعة للاستخبارات ‏الداخلية النمساوية،لكن لم يكن أ.حد في تلك الوحدة على علم بعملية الحليب الأبيض فأرسلت ‏الاستخبارات الداخلية النمساوية لانغوبيرشر إلى اجتماع في 29 يناير مع مسؤوليلجنة العدالة ‏والمساءلة الدولية بدلاً من ذلك.‏
تحتفظ وزارة العدل بمحاضر اجتماعات مفصلة. وحدث أن أشار ستيفن راب، رئيس مجلس ‏إدارة لجنة العدالة والمساءلة الدولية والمدعي العام الدولي السابق، إلى أن العديد من مرؤوسي ‏الحلبي من فرع المخابرات هم من بين شهود إدارة الاستخبارات النمساوية، وأنهم شهدوا ضد ‏رئيسهم السابق.‏
لم يكتب لانغ إلا جملة واحدة فقط خلال الاجتماع: “نائب الحلبي موجود في السويد وهو شاهد ‏ضد الحلبي”. كان الأمر كما لو أن الشيء الوحيد الذي استوعبه لانغ هو مدى التهديد. فقال ‏لانغوبيرشر لوزارة العدل إنهما سينظران فيما إذا كان الحلبي موجوداً في البلاد.ومع ذلك فقد ‏شرعا سراً في جمع معلومات استخبارية عن طاقم لجنة العدالة والمساءلة الدولية وشهودها ‏وتشويه سمعة المنظمة تحت عنوان “عملية الثور الأحمر”.‏
وقبل أيام من الاجتماع مع اللجنة، أدى سوء اتصال بين الاستخبارات الداخلية النمساوية ووزارة ‏العدل إلى اعتقاد لانغوبيرتشر بأن راب وانجلز، رئيس عمليات لجنة العدالة والمساءلة الدولية، ‏كانا جزءاً من وفد أمريكي رسمي.وعندما أدركا أخيراً أن اللجنة عبارة عن منظمة غير حكومية ‏أصابهما الذهول من كفاءة تحقيقاتها، واعتقدا أن قدرة المجموعة على تتبع الحلبي إلى فيينا ‏تشير إلى وجود ما يربطها بوكالة استخبارات، حيث ينتمي معظم موظفي لجنة العدالة ‏والمساءلة الدولية إلى أوروبا والشرق الأوسط.ولكن نظراً لأن الشخصيات المعروفة التي قابلاها ‏كانوا أمريكيين، فقد استنتج بيرشرولانغ أن قضية اللجنة ضد الحلبي تعكس تمزق العلاقات بين ‏الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. وقد كان راب متشككاً على نحوٍ خاص، وذلك ‏لأن كان قد عمل سابقاً في الحكومة.‏
بدأ لانغ في البحث عن خلفية راب، وأرسل النتائج التي توصل إليها بالبريد الإلكتروني إلى ‏مارتن فايس، رئيس العمليات ورئيس بيرشر.‏
الموضوع: معلومات حول ستيفن راب
إلى القيادة الموقرة، يرجى أخذ العلمأنك إذا كتبت “ستيفن راب” في غوغل. . .‏
اكتشف لانغ نفس معلومات السيرة الذاتية الأساسية التي كان سيعلمها هو وبيرشر لو أنهما ألقيا ‏السمع أثناء الاجتماع، أو لو أنهما قرأا محضر الاجتماع الذي أرسلته إليهما وزارة العدل.‏
الموضوع:معلومات عن عملية الثور الأحمر.‏
عزيزي برنارد!‏
أرسل بيرتشر إلى لانغ مقالة من صحيفة بفيينا، لخصها لانغ بقوله: اعتُقل لاجئ سوري يبلغ ‏من العمر 31 سنة اسمه محمد عبد الله في السويد، وذلك للاشتباه في ارتكابه جرائم حرب في ‏مكان ما في سورية في وقت ما خلال السنوات القليلة الماضية. وقد توصلت السلطات السويدية ‏إلى عبد الله من خلال المقالات والصور على شبكة الإنترنت. يبدو ذلك مثيراً للريبة مثل أسلوب ‏عمل لجنة العدالة والمساءلة الدولية”. وقال لانغ: “إن افترضنا أن هناك بضع عشرة محاكمات ‏جرائم الحرب في السويد، فلا بد أن عبد الله هو النائب المزعوم”.(لكن عبد الله ليس علىعلاقة ‏واضحة بالحلبي).‏
وفي 15 فبراير 2016 التقى ممثلو الاستخبارات الداخلية النمساوية والموساد لمناقشة موضوع ‏لجنة العدالة والمساءلة الدولية وما توصلت إليه من نتائج. ووفقاً لمذكرة بسرية صاغها فايس، ‏أشار فريق الموساد إلى أن اللجنة عبارة عن: “منظمة خاصة ليس لديها تفويض حكومي أو ‏دولي”. وبعبارة أخرى، لا داعي للقلق منها لأنها لا تستطيع محاكمة أي شخص. ومع أن ‏المحاكم في أوروبا والولايات المتحدة بدأت النظر في قضايا اعتماداً على أدلة جنة العدالة ‏والمساءلة الدولية، إلا أن هذا لا يعني أن على النمسا فعل الشيء نفسه.‏
وفي منتصف أبريل، أصدر بيرشر تعليمات إلى لانغ بالعثور على عنوان المقر الرئيسي للجنة. ‏فمراعاة لأسباب أمنية، كانت المنظمة تحاول الحفاظ على خصوصية موقعها، وتشير الوثائق ‏التي بحوزته إلى أن النظام السوري يحاول تعقب محققيها. وخلص لانغ إلى نتيجة مفادها أن ‏لجنة العدالة والمساءلة الدولية تشارك مكتبها مع معهد لاهاي للعدالة العالمية في هولندا، حيث ‏حصل راب على زمالة غير مقيمة.‏
وبعد بضعة أيام، توجه بيرشر وضابطة أخرى في الاستخبارات الداخلية النمساوية، هي مونيكا ‏جاستشل، إلى لاهاي.وكانت المهمة الرسمية التي أسندت إليهما هي حضور مؤتمر الأسلحة ‏النارية،لكن بيرشر أرسل جاستشل للتحقق من معهد لاهاي.وذكرت جاستشل أن “الموظفين ‏كانوا ظاهرين أمام شاشاتهم،وقد تم إحضار الطعام إلى المبنى وقت الغداء.من الواضح أنه تم ‏طلب الطعام.التقطت جاستشل ثماني صور على الأقل بزاوية عريضة تُظهر الشارع والرصيف ‏والمدخل وواجهة المبنى وقدمتها إلى بيرشر، الذي كان قد أرسل لها رسالة عبر البريد ‏الإلكتروني يطلب فيها “صوراً سياحية من لاهاي”.‏
لكن لانغ قدّم العنوان الخطأ، وبالتالي تجسست جاستشل على مكتب عشوائي فيه أناس ينتظرون ‏الغداء. وليس لدى لجنة العدالة والمساءلة الدولية أي ارتباط بمعهد لاهاي، بل إن مقرها ليس في ‏هولندا أصلاً.‏
وافقت وزارة العدل النمساوية على أن ملف لجنة العدالة والمساءلة الدولية يمثل أساساً “كافياً” ‏للتحقيق طالما أن الاستخبارات الداخلية النمساوية أكدت أن خالد الحلبي، المقيم في فيينا، هو ‏الرجل المذكور في الملف. (وبعد ثلاثة أسابيع من عدم ورود أي نبأ جديد اتصل القاضي الذي ‏حضر الاجتماع مع اللجنة بلانغ، الذي أبلغه أن نتائج تحقيقاته أظهرت أن الحلبي “كان، على ما ‏يبدو، يقيم بالفعل في فيينا”).لكن بعد أن أرسلت لجنة العدالة والمساءلة الدولية المزيد من الأدلة ‏والوثائق، قال إنجلز “لم نسمع منهم شيئاً”. وخلال السنوات الخمس التالية، تابعت اللجنة ‏التواصل مع النمساويين بخصوص الموضوع خمس عشرة مرة على الأقل.وفتح المدعي العام ‏في فيينا، ويدعى إدغار لوشين، تحقيقاً رسمياً في الأمر، لكنه أظهر القليل من الاهتمام ‏به.وحسبما ذكرت اللجنة، رفض لوشين في البداية الأدلة باعتبارها غير كافية،وأوضح لاحقاً أن ‏نوعية الأدلة المتعلقة بجرائم الحرب ليست ذات أهمية،وأنه ببساطة لا يستطيع المضي قدماً.‏
النمسا بلد عضو في المحكمة الجنائية الدولية منذ أكثر من عشرين عاماً،لكن لم يحدث حتى عام ‏‏2015 أن قام البرلمان النمساوي بتحديث قائمة الجرائم التي يغطيها قانون الولاية القضائية ‏العالمية – وهو تأكيد على أن واجب مقاضاة بعض الجرائم الشنيعة يتجاوز جميع الحدود – ‏بطريقة تنطبق بشكل مؤكد على الحلبي.ولهذا السبب قرر لوشين أن النمسا ليس لديها سلطة ‏لمحاكمة الحلبي بتهمة ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، مهما كان ما حدث تحت ‏إمرته قبل عام 2015.‏
قال لي وايلي، مؤسس لجنة العدالة والمساءلة الدولية: “أعتقد أن هذا هو السبب في أن الموقف ‏النمساوي كان على هذه الشاكلة، بينما تغلبت دول أوروبية أخرى على عقبات قانونية مماثلة”. ‏وأضاف “من الممكن أن تكون وزارة العدل، كجزء من التقليد النمساوي الأوسع، غير قادرة ‏على القيام بعبء قضية جرائم حرب”.‏
في الواقعيضمن موقف لوشين أنه لن يكون هناك تحقيق ذو مغزى، وهو نفس ما وعدت ‏بهالاستخبارات الداخلية النمساوية. وفي ديسمبر 2016، سأل شريك لانغ، مارتن فيليبوفيتز، ‏لوشين عن حالة قضيته.ولكن عندما استخدم فيليبوفيتز عبارة “مجرم حرب” في إشارة إلى ‏الحلبي أوقفه لوشينقائلاً إن هذا المصطلح “لا ينطبق من وجهة نظر قانونية”،وأضاف أنه قد ‏يقابل الحلبي، ولكن فقط ليسأل عما إذا كان قد قام شخصياً بتعذيب شخص ما وليس بوصف ذلك ‏جريمة حرب دولية، بل من باب القانون المحلي حول الاعتداء العنيف.وقال لوشين إنه بخلاف ‏ذلك: “لا توجد خطوات تحقيق ضرورية في النمسا، ولن يتم إصدار أمر تحقيق فعلي إلى ‏الاستخبارات الداخلية النمساوية”.‏
مرت سنة، ثم أرسلت وكالة اللجوء الفرنسية خطاب رفض إلى عنوان الحلبي القديم في باريس. ‏وجاء في الخطاب: “في الحقيقة فإن [الحلبي] لم ينشق إلا بعد عامين من بداية الصراع السوري، ‏وذلك فقط عندما تبين أن رجاله غير قادرين على مقاومة تقدم المتمردين في الرقة، الأمر الذي ‏يلقي بظلال من الشك على دوافعه المفترضة للفرار”. وأضاف الخطاب أن وكالة اللجوء لديها ‏‏”أسباب جدية” للاعتقاد بأنه بسبب “المسؤوليات المتزايدة” للحلبي داخل النظام فإنه “متورط ‏بشكل مباشر في القمع وانتهاكات حقوق الإنسان”. وفي أبريل 2018، أرسلت الوكالة ملف ‏الحلبي إلى النيابة العامة الفرنسية، التي بدورها طلبت أيضاً وثائق من لجنة العدالة والمساءلة ‏الدولية.وبعد أن تبين أن الحلبي لم يعد موجوداً على الأراضي الفرنسية، أصدر المدعون ‏العامون طلباً إلى جميع أجهزة الشرطة الأوروبية للمساعدة في تعقبه.فأثار الإنذار أزمة لدى ‏الاستخبارات الداخلية النمساوية، إذ كانت تلك هي المرة الأولى التي تسمع فيها وحدة التطرف ‏التي تتولى التحقيق في جرائم الحرب باسم الحلبي.‏
وفي أواخر يوليو، أُجبر لانغ على إطلاع سيبيل غيسلر، رئيسة وحدة التطرف، على كل ما ‏حدث في السنوات السابقة.فأخبرت غيسلر لوشين أن الحلبي لا يزال يعيش في شقة بفيينا ‏استأجرها لانغ له،كما سلّمته أيضاً ملف لجنة العدالة والمساءلة الدولية الذي قدمه الفرنسيون للتو ‏إلى مكتبها. وقد تصرف لوشين كما لو هذه هي المرة الأولى التي يرى الملف فيها.‏
في ذلك الأسبوع، كان هناك مراسلات محمومة الوتيرة بين الاستخبارات الداخلية النمساوية ‏والموساد. وكان لانغ مستميتاً لإخراج الحلبي من الشقة.وفي الأول من أغسطس، اتصل ضابط ‏الارتباط في الموساد بلانغ ليودعه، ووفقاً لملاحظات لانغ فقد غادر الضابط النمسا في اليوم ‏التالي.وأنهت وكالة الاستخبارات الداخلية النمساوية عملية الحليب الأبيض رسمياً بعد ‏شهرين.وطلب الموساد خلال مناقشة القضية النهائية مع الاستخبارات الداخلية النمساوية أن ‏يبقى الحلبي في النمسا.‏
وبعد سبعة أسابيع، توجه ضباط الشرطة النمساوية في 27 نوفمبرإلى شقة الحلبي وفتحوها ‏بمفتاح احتياطي، فوجودا ملابس متناثرة وطعاماً فاسداً في الثلاجة. وبحسب تقرير الاستخبارات ‏الداخلية النمساوية، فإنه: “لا يمكن تحديد مكان الحلبي الحالي، والتحقيقات مستمرة”.‏
لا يزال أوليفر لانغ يعمل في الاستخبارات الداخلية النمساوية،ولكن رئيسه برنارد بيرشر فُصل ‏بعد فضيحة أخرى. كما ألقي القبض مؤخرًا على رئيس بيرشر، مارتن فايس، لبيعه معلومات ‏سرية للدولة الروسية.‏
‏ قبل ثلاث سنوات، عندما قام لانغبإطلاعغيسلر على عملية الحليب الأبيض، سألته عما كسبته ‏النمسا منها.وقالت لي غيسلر لاحقاً: “أجاب لانغ بأننا قد نحصل على معلومات عن الهياكل ‏الداخلية لجهاز المخابرات السوري. لكنني اعتبرت أن أمر لا فائدة منه”.‏
‏ لم يتخل صيادو النازيين عن السعي وراء الويسبرونر مطلقاً.ولكن بحلول عام 2014، أيعندما ‏كان من المفترض أن يبلغ برونر من العمر مائة عام، لم تكن هناك رؤية مؤكدة حوله منذ أكثر ‏من عشر سنوات، فأبلغ مسؤول مخابرات ألماني مجموعة من المحققين أنه لا بد أن برونر قد ‏مات.وقال أحدهم لصحيفة التايمز “لم نتمكن أبداً من تأكيد ذلك جنائياً،ومع ذلك فقد حذفت اسمه ‏من القائمة”.‏
وبعد ثلاث سنوات، قام الصحفيان الفرنسيان، هادي عويج وماثيو بالاين، بتعقب حراس برونر ‏السوريين في الأردن. ويبدو أنه في الفترة التي اقتربت فيها وفاة حافظ الأسد، تضمنت ‏استعداداته لخلافة بشار إخفاء النازي القديم في قبو مليء بالآفات. ويتذكر أحد الحراس أن ‏برونر كان “متعبًا جداً ومريضاً جداً. لقد عانى وبكى كثيراً وسمعه الجميع”.وأضاف الحارس ‏أن برونر لم يكن قادراً حتى على الاستحمام بنفسه”لقد وُضع في مكان لا يليق حتى ‏بالحيوانات.وبعد فترة وجيزة من تولي بشار السلطة، اُغلق عليه الباب، ولم يره برونر مفتوحاً ‏مرة أخرى.لقد مات برونر مليون مرة”.‏
تم اختيار حراس برونر من الفرع 300 للمخابرات السورية، وتقع الزنزانة التي مات فيها عام ‏‏2001 تحت مقر الفرع الرئيسي. وربما كان الحلبي موجوداً في المبنى خلال الأسابيع الأخيرة ‏من حياة برونر. وقد صرفت النمسا الآن الاهتمام عن قضية الحلبي مثلما فعلت سورية مع ‏قضية برونر. وبعد عام من مغادرة الحلبي السريعة لشقته [التي أمنتها له] الاستخبارات الداخلية ‏النمساوية، التقى راب بكريستيان بيلناسيك، ثاني أعلى مسؤول في وزارة العدل في النمسا.ووفقاً ‏لملاحظات راب فقد قال بيلناسيك إنه إذا أرادت الاستخبارات الداخلية النمساوية حقاً اعتقال ‏الحلبي فربما يجب على راب إخبار الوزارة بمكان وجوده. وقد عاد راب في الخريف الماضي ‏إلى فيينا للحصول على موعد مع وزيرة العدل، لكنها لم تحضر.‏
‏ كان من بين أرقام هواتف الحلبي الأخيرة رقمان يحملان رمز النداء الدولي النمساوي، ورقم ‏ثالث هنغاري. وبقيت صورة ملف الحلبي الشخصية على واتساب حتى الخريف الماضي وهو ‏يرتدي نظارات شمسية على جسر سيشيني في بودابست. وهناك مشاهدات غير مؤكدة له في ‏سويسرا، وتكهنات بأنه هرب من فيينا على متن عبّارة على نهر الدانوب متجهاً إلى براتيسلافا ‏في سلوفاكيا.لكن المعلومات الأكثر موثوقية التي أتت من السوريين الذين يعرفونه أشارت إلى ‏أنه ما يزال في النمسا.‏
وأحد هؤلاء السوريين هو مصطفى الشيخ، وهو عميد منشق ورئيس المجلس الثوري العسكري ‏الأعلى للجيش السوري الحر الذي عين نفسه في هذا المنصب لجماعة كان قد أسسها، ما أثار ‏ارتباك فصائل الجيش السوري الحر. وفي مكالمة هاتفيةأجراها من السويد قبل مدة قريبة، ‏وصف الحلبي بأنه “أفضل صديق له”.وشدد الشيخعلى أن “الحلبي من أفضل الشخصيات في ‏الثورة السورية”،كما قال إن ضلوع الحلبي في جرائم الحرب التعامل مع أجهزة الاستخبارات ‏الأجنبية عبارة عن أكاذيب اختلقتها المخابرات السورية ونشرتها عبر شبكات “الدولة العميقة” ‏في أوروبا كجزء من مؤامرة لتقويض احتمال أن يصبح الحلبي بديلاً محتملاً للأسد. وأضاف ‏الشيخ: “أنا متأكد من أن الفرنسيين والنمساويين هم من يحاولون قص جناحي الحلبي لأن أمثاله ‏يقوضون أجنداتهم في سورية”.‏
لكن الحلبي كان قد أبلغ الموساد عن أنشطة الشيخ.وفي الرابع من يناير 2017، أبلغ أحد عملاء ‏الموساد أوليفر لانغ أن الحلبي سيسافر إلى الخارج لأن أحد أصدقائه تلقى دعوة من وزارة ‏خارجية ‘حدى الدول لمناقشة تسوية سياسية بشأن سورية،وأشار لانغ في مذكرة سرية إلى أن ‏‏”ذلك الصديق يريد من الحليب الأبيض المشاركة في المفاوضات”، مضيفاً أن الموساد ‏سيستخلص المعلومات من الحلبي عند عودته.‏
‏ اعتقد لانغ أن المفاوضات ستعقد “على الأرجح في الأردن”.لكن بدلاً من ذلك، سافر الحلبي بعد ‏خمسة أيام إلى موسكو حيث انضم إلى مصطفى الشيخ في اجتماع مع نائب وزير الخارجية ‏الروسي ميخائيل بوغدانوف. ففي الشهور السابقة، ساعد الروس الجيش السوري والميليشيات ‏الشيعية المرتبطة به على تهجير عشرات الآلاف من المدنيين قسراً من مناطق سيطرة ‏المعارضة في حلب. ووضعت الحكومة الروسية مناقشاتها مع الشيخ والحلبي ضمن إطار “لقاء ‏مع مجموعة من المعارضين السوريين”،مع “التأكيد على ضرورة إنهاء إراقة الدماء”.وقد ظهر ‏الشيخ على التلفزيون الرسمي الروسي وقال إنه يأمل أن تفعل روسيا في بقية سورية ما فعلته ‏في حلب، وهو بيان تسبب بتوجيه اتهامات بالخيانة من شركاء الشيخ السابقين في ‏المعارضة.أما الحلبي فقد بقي في الظل،وتناهت شائعات بأنه قام بثلاث رحلات أخرى إلى ‏موسكو، لكنني لم أجد دليلاً على ذلك. وقد انتهت صلاحية جواز سفره النمساوي في ديسمبر ‏الماضي دون أن يتم تجديده.‏
‏ في أواخر أغسطس، سافرت إلى فيينا وذهبت إلى براتيسلافا، وكنت أعبر الحدود السلوفاكية ‏إلى النمسا بالقطار وقت السحر كل يوم على مدار الأيام الأربعة التالية. وكان بإمكاني رؤية ‏مجموعة من أطباق الأقمار الصناعية على التل في كونيغسفارتي، وهي محطة تنصت قديمة ‏تعود لحقبة الحرب الباردة غايتها التجسس على الشرق، وقد تم تحديثها وتشغيلها الآن من قبل ‏وكالة الأمن القومي. وقد كانت فيينا في القرن الماضي معروفة باسم مدينة الجواسيس، حيث ‏تقع المدينة على أطراف الشرق والغرب وفقاً لمعايير الحرب الباردة. والتزمت النمسا منذ ‏الخمسينيات من القرن الماضي بالحياد على غرار السويسريين.فكانت هذه الظروف عوامل ‏جذب للعديد من المنظمات الدولية. وخلال العقود الأخيرة كانت فيينا موقعاً لعمليات تبادل ‏الجواسيس على أعلى مستوى، بالإضافة إلى مفاوضات سلام واغتيالات لم يتم حلها.والآن، كما ‏أفاد زميلي آدم إنتوس، أصبحت تُعدّ بؤرة “متلازمة هافانا”، أي الهجمات غير المرئية والتي ‏تأتي من أصل غير مؤكد، الموجهة ضد موظفي السفارة الأمريكية.‏
‏ يسمح الإطار القانوني النمساوي عملياً لوكالات الاستخبارات الأجنبية بالتصرف بالطريقة التي ‏تراها مناسبة طالما أنها لا تستهدف الدولة المُضيفة،لكن النمسا لا تتمتع بقدرات كبيرة لفرض ‏عدم استهدافها. وبحسب سيغفريد بير، المؤرخ النمساوي لشؤون التجسس: “لم يكن اكتشافنا لأي ‏جاسوس بين ظهرانينا نتيجة كوننا نُجيد مكافحة التجسس، بل لأننا حصلنا على المعلومة من بلد ‏آخر”.‏
وتابع بير: “إن أكبر مشكلة لدى الاستخبارات الداخلية النمساوية هي نوعية رجالهامع وجود ‏استثناءات قليلة. إذ يعمل فيها أشخاص غير أكفياء وصلوا إلى هناك عن طريق أقسام الشرطة ‏أو الأحزاب السياسية. ولم يتلقَّ معظم الضباط أي تدريب لغوي وليس لديهم خبرة دولية”.‏
‏ وبعد سلسلة من الفضائح، قررت وزارة الداخلية في عام 2018 حلّ المكتب الاتحادي لحماية ‏الدستور ومكافحة الإرهاب الذي تشرف عليه واستبدالها بمنظمة جديدة تدعى مديرية أمن الدولة ‏والاستخبارات. ويقوم الضباط حالياً بالتقدم مرة أخرى لشغل المناصب داخل الهيكل الجديد، ‏والذي سيتم إطلاقه في بداية العام المقبل.ولكن، كما يرى بير، فإنه لا طائل من هذا الجهد: “من ‏أين ستحصل على ستمئة شخص فجأة يمكنهم القيام بعمل استخباراتي؟”‏
كما لمّح مسؤولو الصحافة في وزارة الداخلية إلى أنه قد يكون من غير القانوني بالنسبة لهم ‏التعليق على هذه القصة.وامتنع بيرشر عن التعليق، وكذلك محامو بيرشرولانغ.أما مكتب ‏الجرائم الاقتصادية والفساد بوزارة العدل، والذي يحقق في ملابسات منح الحلبي اللجوء، فقال ‏إنه “ليس بحوزته أي ملفات ضد خالد الحلبي”، مع أن لديّ آلاف الصفحات المسربة من ‏تحقيقات المكتب.‏
وقبل أسبوع من وصولي إلى النمسا، أرسلت طلبًا مفصلاً إلى الموساد لكن لم أحصل على رد ‏منهم.وكذلك كان ذلك حال ثلاثة طلبات مقدمة إلى السفارة الإسرائيلية في فيينا، وطلب واحد ‏قدمته إلى الوحدة 504.وفي أحد الصباحات المشمسة، قصدت السفارة التي تقع في شارع هادئ ‏تصطف على جانبيه الأشجار. فقال لي مسؤول إسرائيلي من خلال مكبر صوت عند البوابة: “لم ‏نرد عليك لأننا لا نريد الرد عليك. انشر ما تريده،لن نقرأه”.‏
ومن هناك يممت ماشياً إلى آخر عنوان معروف للحلبي.وعندما اقتربت، لاحظت أن الإشارة ‏إلى المكان على خرائط غوغل كانت باللغة العربية، حيث كتب فيها “البيت”.جلستُ لعدة دقائق ‏على مقعد بالقرب من المدخل وأنا أستمع من خلال نافذة مفتوحة إلى امرأة تتحدث العربية ‏كانت تطبخ في شقة الحلبي القديمة (أ-1)، ثم قرأت ما كُتب على جرس الباب: “لامبيرغ”، وهو ‏الاسم المستعار لأوليفر لانغ.‏
‏ أجاب صبي في سن المراهقة على قرع الباب، لكنه كان أصغر من أن يكون قتيبة، ابن الحلبي. ‏وعندما سألته ما إن كان الحلبي موجوداً،قال الصبي: “لقد غادر منذ مدة طويلة”.فسألته كيف ‏عرف الاسم، فأجاب بأن صحفيين نمساويين قد أتوا إلى الشقة من قبل.‏
وفي اليوم التالي زرت محامي الحلبي، تيموغيرسدورفر، في مكتبه الكائن بالحي العاشر في ‏فيينا. وقال غيرسدورفر إن الحكومة ألغت وضع اللجوء للحلبي لأنه حصل عليه عن طريق ‏الخداع، وأنه استأنف القراربحجة أن الكشف عن عمل الحلبي لصالح المخابرات الإسرائيلية ‏يشكل تهديداً كبيراً على حياته لدرجة أن النمسا يجب أن تحميه إلى الأبد.وقال غيرسدورفر: “لا ‏يمكن لأي شخص الحصول على حق اللجوء في النمسا إذا قال الحقيقة”.وبحسب غيرسدورفر ‏فإن الحلبي مفلس، ويبدو أن الموساد توقفت عن سداد نفقاته. وقد حاول الحلبي قبل بضعة أشهر ‏النزول في ملجأ مع لاجئين آخرين، لكن الملجأ بحث في خلفيته وطرده.‏
‏ اكتشفت عنواناً جديداً للحلبي يقع في الحي الثاني عشر، وهي منطقة تعد موطناً لكثير من ‏المهاجرين من تركيا والبلقان.وفي وقت لاحق من بعد ظهر ذلك اليوم، سرت في الشوارع ‏بالقرب من الحي الذي يسكن فيه وقت عودة الناس إلى منازلهم من العمل.كان الحي يعج برجال ‏يشبهونه: في أواخر منتصف العمر، لديهم زيادة في الوزن، وطولهم خمسة أقدام ونصف. ولابد ‏أنني رأيت ألف وجه،لكن لم يكن أي منهم وجهه.‏
‏ يقول مكتب لوشين إن تحقيقه في قضية الحلبي “ما زال معلقاً.لكن وفقاً لشخص مطلع على ‏كيفية تفكير لوشين، فإن الرأي العام في وزارة العدل هو أن  هذه سوريا، وهي تعيش في ‏حرب،  والجميع يُعذّبون”. وقد أعربت حكومات أوروبية أخرى عن انفتاحها على تطبيع ‏العلاقات الدبلوماسية مع الأسد، واتخذت خطوات لترحيل اللاجئين إلى سوريا والدول ‏المجاورة.‏
وإذا كان الحلبي هو أكبر مجرمي حرب سوري يمكن اعتقاله، فذلك فقط لأن الوحوش الأكبر ‏منه محميون، والعقبة أمام محاكمة الأسد ونوابه هي الإرادة السياسية في مجلس الأمن ‏الدولي. وبحسب ما ورد، فقد سافر رئيس الحلبي السابق في دمشق، علي مملوك، إلى إيطاليا ‏على متن طائرة خاصة في عام 2018، مع أن مملوك يُعدّ أحد أسوأ مرتكبي الانتهاكات في ‏الحرب، فقد كان هو من أصدر الأوامر للحلبي لإطلاق النار على أي تجمعات تزيد عن أربعة ‏أشخاص في الرقة. لكن مملوك -الذي فُرضت عليه عقوبات منذ عام 2011 والممنوع من السفر ‏إلى الاتحاد الأوروبي- اجتمع مع مدير المخابرات الإيطالية، وبالتالي فإنه سافر وأقفل عائداً إلى ‏دياره. ‏
‏ بعد عشرين ساعة من البحث عن الحلبي، مشيت إلى المجمع الذي تقع فيه شقته وقرعت ‏الجرس، فردّت شابة نمساوية لم تسمع عن الحلبي قط ولم تكن مهتمة بمن يكون. ثم أخذت ‏أعرض صورة الحلبي في كل متجر ومطعم في دائرة نصف قطرها ثلاثة مبانٍ من العنوان. ‏وقال لي رجل من البلقان بلحية رمادية اللون: “نحن نعرف الكثير من الناس في هذا الحي”، ثم ‏حدّق في الصورة مرة ثانية وهز رأسه قائلاً: “لم أر هذا الرجل من قبل”.‏
‏ وفي طريقي للخروج من الحي الثاني عشر، مشيت عبر الجانب الغربي من المبنى السكني، ‏حيث تطل الشرفات على إحدى الحدائق. وفوق شقة المرأة النمساوية، كان هناك رجل يشبه خالد ‏الحلبي جالساً على شرفته، مستظلاً من أشعة شمس الضُحى. إلا أنني لم أتمكن من التأكد أنه هو، ‏إذ لم يردّ أحد على طرق الباب. وبحسب أحد الجيران كانت الشقة فارغة. فدارت في ذهني كذبة ‏قالها وزير خارجية سوريا قبل ثلاثين عاماً: “إن برونر هذا ليس إلا شبحاً”.‏

 

 

المصدر: النهار العربي

 

الكاتب: بن تاوب عن مجلة نيويوركر

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.