كيف صارت سورية على ما هي فيه؟

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

88

سيبدو ما يحدث في سورية منذ عقد غريباً وصادماً لعقل المتأمل، وقد يصوغ أحد ما صدمته بالقول: “ألم تجد السلطة السورية أنها سارت وتسير بالبلاد إلى الدمار والتهلكة، لماذا لم تسع بمسؤولية إلى حل جدّي، حتى لو كانت نتيجة الحل خروجها من الحكم، حفاظاً على مصلحة البلاد؟”. من الخطأ الاعتقاد أن هذا السؤال، على بساطته وبداهته، يمكن أن يتبادر إلى ذهن نخبة الحكم الأسدية، ببساطة لأنه لا محل فعلياً لمصلحة البلاد في منظورها إلى ما جرى ويجري. المحل مشغول كاملاً بمصلحة نخبة الحكم التي تزدري لفظة مصلحة البلد. في منظور هذه النخبة، الاستمرار في الحكم يعني أن كل شيء آخر هامشي. نخبة الحكم هذه هي وريثة النخبة التي رأت، قبل 54 عاماً، أنها منتصرة لأنها استمرت في الحكم، على الرغم من الهزيمة الوطنية والموت والدمار وخسارة الجولان.

أنجب التاريخ السوري، في بضعة العقود المنصرمة، نخبة حكم تبتلع كل اعتداء خارجي لا يهدّد استمرارها في الحكم، وقد يبدو لها أن للاعتداءات الخارجية هدفا واحدا هو إسقاطها من الحكم (لسبب ما، يمكن اختراعه بسهولة). وعليه، تكون كل خسائر “البلاد” هامشية، أمام ديمومتها في الحكم. ليس هذا فقط، بل كل خراب تنزله نخبة الحكم في البلاد دفاعاً عن استمرارها في الحكم، لن يبدو في نظرها خراباً، كما يبدو في العيون، بل سوف يبدو عملاً في “مصلحة البلد” أو ربما إنقاذاً للبلد. وسوف يبدو خروج ملايين السوريين إلى كل دول العالم تطهيراً للشعب. كما يمكن لك أن تستغرب هذه النظرة إلى الأمور، كذلك تستغرب نخبة الحكم الأسدية استغرابك هذا. أمّا كيف يمكن أن يقتنع جمهور هذه النخبة بنظرتها الخاصة إلى الأمور، فهذا بحث آخر، يتصل بعمل الأيديولوجيا السياسية، أي إكساب الخيارات السياسية التي غايتها الوحيدة الاستمرار في الحكم، معنىً وطنياً عاماً.

نخبة الحكم هي وريثة النخبة التي رأت، قبل 54 عاماً، أنها منتصرة لأنها استمرت في الحكم، على الرغم من الهزيمة الوطنية والموت والدمار وخسارة الجولان

خلاصة البؤس السياسي الذي تعيشه سورية، وما نتج عنه من بؤسٍ شمل المجتمع في كل مستويات حياته، أن الشؤون العامة في هذه البلاد كانت تدار وفق مصلحة النخبة الحاكمة، وليس وفق مصلحة البلد، منظوراً إليها بصورة مستقلة أو موضوعية. لا يعني هذا أن البلاد كانت تدار وفق مصلحة البلد حسبما تراها النخبة الحاكمة، كما قد يتبادر إلى الذهن، فمن الطبيعي أن تدير النخبة الحاكمة البلد وفق منظورها لمصلحة البلد الذي تحكمه، بل يعني أن مصلحة النخبة الحاكمة تعلو وتتحكّم بمصلحة البلد. أو بكلام آخر أكثر دقة، تختفي مصلحة البلد من المعادلة الفعلية لعملية صوغ السياسات، لتسيطر بالكامل مصلحة نخبة الحكم، فتصبح السياسة هي تطويع البلد بما يلائم مصلحة هذه النخبة، حتى لو اقتضى “التطويع” دماراً شاملاً، وتغييراتٍ ديموغرافية واسعة، ونزوحاً ولجوءاً وانهياراً اقتصادياً … إلخ.

الواقع أن الفكر الاشتراكي الذي ازدهر في منطقتنا بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأ يمارس تأثيره في النخب السياسية مثل صدى متأخر، أي في الوقت الذي كان يكابد الموت في “بلاد المنشأ”، شكّل المنصة التي انطلقت منها النخب الحاكمة “التقدمية”، لكي تبعد المصلحة العامة من معادلة الحكم. والمفارقة الطريفة أن هذا الإبعاد جاء باسم المصلحة العامة نفسها، حين أتاح “الفكر الاشتراكي” للنخبة التقدّمية أن تجعل مصلحة البلاد مرهونةً لوعي النخبة و”طليعيتها”، وأن تجعل الدولة “مالكة” للبلاد. أصبح من السهل، والحال هذه، نزع أحشاء المصلحة العامة وحشوها بمصلحة النخبة التي لا مشروع لها سوى تأبيد السيطرة على الحكم وعلى الثروة. ولا يصعب، بالتالي، أن ترتدّ هذه النخبة ضد كل من يقف في وجه سيطرتها ونهبها على أنه معاد “للمصلحة العامة” أو “للأمة” بحالها.

لم تكن هذه العملية سهلةً وبسيطة في سورية، فقد مرّت بمراحل عديدة، لكنها ذات اتجاه واحد، يجمع بين السعي إلى احتكار تمثيل المصلحة العامة والسعي إلى احتكار تمثيل النخبة نفسها (أي حسم صراع السيطرة نهائيا داخل النخبة). من النخبة البعثية الأولى (جماعة 8 آذار) ذات التكوين المتنافر سياسيا وتنظيمياً، إلى النخبة البعثية الثانية (جماعة 23 شباط) التي صارت أكثر انسجاماً من الناحيتين، السياسية والتنظيمية، لكن من دون حسم مركز السلطة فيها، ما جعلها محل توتّراتٍ داخلية وقرارات ارتجالية، إلى النخبة البعثية الثالثة (جماعة 16 تشرين الثاني) التي تميزت بحسم مركز السلطة فيها لصالح حافظ الأسد، وبالتالي باتت أكثر استقراراً وقدرة على الاستمرار.

تختفي مصلحة البلد من المعادلة الفعلية لعملية صوغ السياسات، لتسيطر بالكامل مصلحة نخبة الحكم

قدرة حافظ الأسد على حسم الصراع داخل النخبة لصالحه بشكل نهائي، وتوحيد النخبة حوله، بعد “نفي” الآخرين، (إذا كان صلاح جديد قد “نفى” يمين “البعث”، فإن حافظ الأسد قد أنجز “نفي النفي”، فمضى إلى مدى أبعد في تسلّط جديد، وفي يمينية “البعث”، ثم ألّف بين النزوعين)، نقول إن ما فعله الأسد أتاح له، في البداية، إقامة علاقة أكثر توازناً مع المجتمع، مع الاعتراف والتصالح مع القوى الاقتصادية والاجتماعية التقليدية، وهو ما يفسّر ترحيب هذه القوى به في البداية. انتهى، مع انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، زمن المزايدات “اليسارية” بين أقطاب النخبة، بعد أن أصبح للنخبة قطب واحد غير منازَع.

على الرغم من هذا التحول “التصحيحي” (حسم الصراعات داخل نخبة الحكم، التوجّه إلى اليمين أكثر والتصالح مع القوى التقليدية) الذي وفر أرضيةً مناسبةً للاستقرار، بقي المجتمع السوري مفخّخاً ويسير على قدم واحدة، فقد ترافق إرضاء المجتمع وحيازة قبوله، إضافة إلى استرضاء معظم الأحزاب السياسية غير الإسلامية، مع تعزيز لحمة نخبة الحكم التي امتلكت الوقت، و”التسامح” الكافي، لتوطيد سلطتها المطلقة ذات المرجعية الواحدة في كل مفاصل الدولة، وهو ما حمل في داخله بذرة الدمار الذي نعيشه.

الصورة المعبرة عن الدمار السوري الشامل هي صورة الجندي المعاق الذي يجد نفسَه مساقاً إلى أن “ينتخب” بدم يده المبتورة. الشعور بقلق الغربة عن المجتمع، على الرغم من كل شيء، هو ما يدفع الطغمة الأسدية إلى أن لا ترضى بأقل من التصويت بالدم.

 

 

الكاتب: راتب شعبو – المصدر: العربي الجديد