لكي لا تنتحر المقاومة السورية

27

تعزّ عليّ كتابة هذا المقال، مثلما عزّ عليّ أن أكتب رثاء للثورة السورية قبل أكثر من عام.

خلال العامين الأوّلين للثورة كنت، مثل ملايين غيري، أشعر بالنشوة لانضمام أعداد كبيرة من أفراد الجيش السوري النظامي طوعاً إلى صفوف الجيش الحر. أشعر بالنشوة عند تحرير الجيش الحر لمدينة جديدة. صرت الآن أشعر بالأسى لسماع خبر كهذا. فقد بات «التحرير» يعني سقوط مئات المدنيين قتلى وجرحى ونزوح عشرات الآلاف من مدنهم. التحرير يعني أن المدينة ستتعرض للدك بالبراميل المتفجّرة. التحرير يعني حصاراً وجوعاً. وهو يعني أن قوات بشار الأسد، مثلها مثل «داعش»، لن تأبه لتعريض معالم الحضارة والتاريخ في المدينة للدمار.

والتحرير لم يعُد إعلان بشرى لأهالي المنطقة المحررة بأن عهد حرّيتهم ابتدأ وأنهم باتوا ومحرّريهم بشراً متساوي الحقوق بوسع أي منهم الوقوف بوجه من يسلبه أو يهينه، أو أنهم باتوا قادرين على الاعتراض على ممارسات المحرّر. والتحرير بات منذ سنتين أو أكثر صعوداً لأمراء حرب يتقاسمون الغنائم. «التحرير» بات خروجاً من زنزانة الأسد إلى زنزانة الجهاديين. والتهمة المتبادلة بين النظام ومعارضيه بأنهم يستخدمون المدنيين رهائن أو حواجز بشرية تشي بالكثير. إنها تقول أن المدنيين ليسوا راغبين بالعيش في ظل سلطة أي من الطرفين وأنهم مكرهون على البقاء تحت رحمة أحدهما. إنّهم، باختصار بشر مثلنا خائفون يريدون العيش بسلام.

سيناريو التحرير الذي كان يثير الفخر من قبل صار مألوفاً ومروّعاً منذ عامين على الأقل. وأكثر ما يستدعي القلق أنه صار مألوفاً لا يستدعي وضعه ضمن أشرطة «الخبر العاجل» في القنوات الإخبارية. سيناريو تعرفه غالبية من وقفوا مع الثورة السورية لكنهم يخشون الحديث عنه، لا خوفاً من اتّهام آخرين لهم بخيانة الثورة، بل خوفاً من أنفسهم وخوفاً على أنفسهم من أن يكون اعترافهم بعبثية هذا التحرير، بل ببشاعته، اعترافاً بأفضلية نظام الأسد. يبتدئ السيناريو بـ «نصرة» أو «داعش» تستولي على منطقة لتقيم سلطة تضيف إلى قمع الأسد السياسي قمعاً اجتماعياً. قد ينجو غير المسلم السنّي من الموت لكن عليه، وعلى النساء خصوصاً، إلغاء وجوده معنوياً. وعلى الجميع، أياً كان جنسهم أو دينهم أو قوميتهم، أن ينسوا أنهم ثاروا ضد الأسد بهدف التمتع بالحرية ويتذكروا أنهم ثاروا على الأسد فقط. عليهم، كخطوة أولى، التماهي مع المحررين فيؤمنون بأنهم ثاروا على نظام علماني وهدفهم إعادة سلطة الإسلام على سورية. ثمة تفريعة أخرى للسيناريو تتمثل في استيلاء «المعتدلين» على منطقة ما، تليه معارك ضارية تنتهي بانتصار الجهاديين الذين يخيّرون الخصوم بين الانضواء تحت قيادتهم أو الخروج من المعركة أو القتل. وغالبية هؤلاء «المعتدلين» هم أحرار وأكناف وألوية الشام والتحرير والقدس وكل ما يخطر على البال من أسماء.

أتخيّل حالي واحداً من المدنيين الكارهين لنظام الأسد حتى العظم. وأدعو قادة المعارضة الديموقراطية السورية إلى أن يضعوا أنفسهم محل هؤلاء. هل سنؤيد «تحرير» المناطق ونحن نعرف أن النظام سيعاود احتلالها بعد أن يلحق بنا الدمار؟ وهل سنؤيد هذا التحرير إن أجّل النظام عملية التحرير المضاد مبقياً إيّانا في ظل قوانين شريعة يفصّلها المحررون؟

قبل استيلاء الجهاديين على مقاليد الأمور، عبّرت عن خوفي من أن ينتهي صراع السوريين مع نظام البعث إلى ما انتهى إليه صراع الجمهوريين الإسبان مع نظام فرانكو الفاشي في الثلاثينات. انتصر الفاشي لكن العالم ظل ينحني إجلالاً لكفاح شعب خذله العالم وخذلته أمراض قادته. وأمام قادة المعارضة الديموقراطية السورية اليوم أن يقرّروا إن كانوا ارتضوا بمصير تخليد التاريخ لهم كمنهزمين في معركة نبيلة أو أن يحققوا لشعبهم بعض ما ثار من أجله.

ما زلت مؤمناً بأن ثمة أملاً بإمكانية إنقاذ الثورة من الهزيمة شرط القبول بالتخلّي عن المطالب القصوى. السوري الجائع والمنهك والمهدد بالموت، الباحث عن قارب موت يهجّره إلى أي بقعة خارج بلده، يريد حلولاً. ما العمل الآن ونحن محاصرون في المدن ونازحون في المخيّمات؟ نحن معكم ونتفق مع تحليلكم. يتحمّل نظام الأسد مسؤولية ما وصلنا إليه اليوم، ويتحمل المجتمع الدولي مسؤولية خذلان الثورة. ولكن ما العمل الآن؟ قد يذكركم التاريخ كأبطال حاربوا الدكتاتورية وانهزموا، لكننا نلعن تاريخاً يسجّل رؤيتنا لأطفالنا يموتون جوعاً أمام أعيننا.

أعرف هذا من تجارب عشتها وعايشها ويعرفها غيري. أعرفه من معايشة فلسطينيين انهزموا أمام حصار إسرائيل لبيروت عام 1982. أعرفه من هزيمة الثورة الكردية أمام مجازر حملة الأنفال ضد الأكراد عام 1988. وأعرفه من بشاعات سحق ثورة العراقيين ضد البعث عام 1991.

المجتمع الدولي الذي أعلن بوقار أن المجازر بحق المدنيين لن تحدث قط بعد أن وقف متفرّجاً على مذابح رواندا عام 2004، ابتلع إعلانه هذا. والدعم السياسي الإقليمي والدولي الهائل الذي حظيت به الثورة آخذ بالتآكل حتى قبل ترجمته إلى أفعال على الأرض. ومساعي إعادة تسليح وتدريب المعتدلين ودفعهم إلى الجبهة الجنوبية في درعا نجحت في عودتهم إلى ساحة المعركة لكن سيناريو البراميل والقصف وهجمات النصرة يتكرر. ومساعي الولايات المتحدة لتدريب معارضة تنطلق من الشمال تركّز على أن الهدف هو محاربة «داعش» أولاً، وهي مساع لن تبدأ إلا بعد شهر وستضخ، إن سارت الأمور على ما يرام، خمسة آلاف مقاتل سنوياً يراد لهم قتال ثلاثين ألف داعشي والصمود بوجه خمسة عشر ألفاً من النصرة على افتراض أن هؤلاء لن يكسبوا جهاديين جدداً طوال تلك الفترة.

ليس مطلوباً من المعارضة الديموقراطية السورية وملايين السوريين المؤيدين لها أن يختاروا الوقوف مع هذه العصابة أو تلك. لكن استمرار هذه المعارضة في العمل المسلّح أجبرها، وصار محتّماً أن يجبرها، على اختيار الوقوف إلى جانب واحدة من العصابات وإلا هدّدها الفناء كما أثبتت تجربة حل حركة «حزم» وانطوائها تحت مظلة الإسلاميين.

ثمة إمكانية واقعية، في رأيي، لإجبار الأسد وبطانته على القبول باشتراطات وتنازلات قد تبقي على بعض أركانه ومؤسساته في المدى القصير وقد يمكن استثمار تلك التنازلات لتعديل موازين القوى، بل لقلبها، من خلال عمل سياسي سلمي على نظام الأسد الإقرار به كشرط للوصول إلى أي اتفاق.

هل يمكن إجبار الأسد على القبول بتنازلات تنطوي على حق المعارضة في النشاط السياسي؟ هل يمكن إجباره على إطلاق سراح كل المعتقلين وإعادتهم إلى الحياة المدنية؟

الاقتصاد السوري على شفا الانهيار ولم يعد بوسع إيران وروسيا اللتين تعانيان أزمات مالية واقتصادية حادة تقديم منح مالية ذات مغزى لتعويمه. والجيش النظامي السوري منهك ومنحطّ المعنويات كما تشير تقارير معظم مراكز البحث الموثوقة والمصادر الاستخباراتية. وليس بوسع ميليشيات حزب الله ولا مستشاري الحرس الثوري إحداث تغيير نوعي في الخارطة العسكرية. وإيران المقبلة على اتّفاق نووي يعيدها إلى المجتمع الدولي معنيّة بأن تظهر أمام الرأي العام كدولة مسؤولة لا تصدّر الثورة. سيتعرّض الجيش السوري وحلفاؤه إلى مزيد من الإنهاك في المعارك مع «داعش» و «النصرة». لكن مضيّ المعارضة السورية المدنية في التجييش لن يقود إلا إلى استنزافها، لا استنزاف قوات الأسد أو المتطرّفين. وأي نجاح ستحققه لن يكون إلا توفيراً لدماء «النصرة» أو «داعش» اللذين سيستوليان على ما تم تحريره بدماء تلك المعارضة.

مطلوب من المعارضة الديموقراطية أن تعلن صراحة ما تؤمن به ولا تصرّح به. لن يُهزم نظام الأسد في المدى القصير، وربّما المتوسط. وكل هزيمة له صارت انتصاراً لتنظيم «القاعدة» أو لـ «داعش». الخطاب الذي يقول أن الأسد وأركان نظامه ليسوا جزءاً من الحل بل هم المشكلة لا يزال صحيحاً. والخطاب الذي يقول أن أزمة سورية لن تجد لها حلّاً مع بقاء الأسد يظل صحيحاً. لكن على الخطاب الديموقراطي السوري أن يواجه جمهوره بالإقرار بأن الحل الجذري لم يعد ممكناً في المدى القصير. ولكي لا تضيع التضحيات والبطولات لا بد من التوافق على الوصول إلى نصف حل.

نصف الحل هذا يقتضي الإقرار بأن امتناع الائتلاف الوطني السوري عن المشاركة في أي حوار لا يشترط منذ البدء تخلي الأسد عن السلطة، صار مدعاة لعطف رومانسي. عطف على من يخوض معركة خاسرة سلفاً لكنّه مستمرّ في مكابرة تدعو إلى الإشفاق، لا الإعجاب، لسبب بسيط مفاده أن الممانعة في ظل توازن القوى القائم ستهمّش المعارضة الديموقراطية ولن تضعف النظام الذي تنهكه المعارك مع «جبهة النصرة» و «داعش». ونصف الحل يقتضي أن تسعى معارضة الخارج ومعارضة الداخل «المرضيّ عنها» إلى تكوين تحالف ضاغط كبير التأثير إن نجحت في تحصين نفسها من محاولات مؤكدة سيبذلها نظام الأسد لشق ذلك التحالف باستمالة طرف على حساب آخر، وإن نجحت في تجاوز مرض الصراع على المواقع التي سيحتلها هذا الطرف أو ذاك في التحالف المنشود. ونصف الحل هذا يقتضي تحمّل اتّهامات ستوّجه لمن يوافقون عليه بالخيانة وتحمّل انشقاقات المخوّنين.

في برزة والقابون في دمشق، نجح المعارضون المسلحون في الوصول إلى تسوية تقع ضمن الممكن لا المُتمنّى تقوم على الحفاظ على سلاحهم. ونجاحهم في صد هجوم «داعش» قبل أيام عزز مكانتهم التفاوضية في مواجهة قوات الأسد. وتوافق قوى المعارضة المسلّحة على حلول كهذه قادر على قلب معادلة يريد الأسد فرضها: إما أنا أو الإرهابيون.

أختم بما ابتدأت: يعزّ عليّ أن أكتب ما كتبت.

 

عصام الخفاجي

الحياة