ماذا في جعبة غير بيدرسون لسوريا

30

وأخيرا استقال ستافان دي مستورا، رغم أنه لا يريد ذلك. فهو أستاذ في علم إدارة الأزمات وليس في حلها. فقد خلّف خيبات عديدة في العراق وأفغانستان ولبنان. وعندما تقلد المنصب في يوليو/تموز 2014 كتبت في هذه الصحيفة «دي مستورا لإدارة الأزمة وليس لحلها». والمآخذ على دي مستورا كثيرة وأهمها أنه كان يغمض عينيه عن الجرائم التي ترتكبها قوات التحالف ضد المدنيين في منطقتي الرقة ودير الزور، وهي كثيرة ويردد أحيانا مقولات جوقة الدول الثلاث في مجلس الأمن، فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة حول الأسلحة الكيميائية وغيرها.
ومن المآخذ عليه أنه تجاوز صلاحياته، خاصة في موضوع تشكيل اللجنة الدستورية، التي اتفقت عليها الأطراف السورية في سوتشي في نهاية يناير/كانون الثاني 2018.
بعد دي مستورا اختار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في الواحد والثلاثين من أكتوبر/ تشرين الأول المبعوث الدولي الرابع للملف السوري، النرويجي غير بيدرسون، بعد أن فشل ثلاثة من كبار الوسطاء الدوليين المخضرمين.
إن اختيار المبعوث الرابع خلال ست سنوات، يشير إلى فشل مأساوي للمجتمع الدولي، وتراجع مخجل لدور الأمم المتحدة ومكانتها ودورها في حل النزاعات الدولية. لقد أحرزت المنظمة الدولية العديد من النجاحات بعد نهاية الحرب الباردة مثل ناميبيا وكمبوديا وتيمور الشرقية وهايتي وليبيريا وسيراليون، وتحرير الكويت من الاحتلال العراقي وتحرير إريتريا من الاحتلال الإثيوبي ونهاية الأبرتهايد في جنوب إفريقيا وإنهاء النزاع في نيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا وكوسوفو والبوسنة وساحل العاج، وتجميد عدد من النزاعات المسلحة، بانتظار الحل السياسي مثل الصحراء الغربية وناغورنو كاراباخ والنزاع الإثيوبي الإريتري ودارفور، وأخيرا جنوب السودان. إلا أن فشل الأمم المتحدة، في حل النزاعات في سوريا واليمن وليبيا، ناهيك عن الجرح النازف أبدا في فلسطين، يثير أكثر من علامة استفهام حول قدرات المنظمة الدولية في التصدي لتحديات الأمن والسلم الدوليين.
كان المبعوث الأول المتوفى مؤخرا ـ أمين عام الأمم المتحدة الأسبق، كوفي عنان، قد قدّم مشروع النقاط الست في الثاني من مارس/آذار 2012 التي تبدأ بوقف العمليات المسلحة وإطلاق سراح المعتقلين وتنتهي بالاتفاق على دستور جديد وفترة انتقالية وانتخابات حرة وعادلة ونزيهة، استنادا إلى بيان جنيف الصادر بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2012، الذي وافقت عليه الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. أصرت الحكومة السورية على أن يتضمن المشروع تقديم تعهدات من الولايات المتحدة، وفرنسا وتركيا والسعودية وقطر بوقف دعم المعارضة بالسلاح والمال، وهو ما لم يحصل. كما أصرت المعارضة على أن يسبق أي حل سياسي رحيل الرئيس بشار الأسد. فلا شروط الحكومة كانت مقبولة ولا شروط المعارضة كانت واقعية، فأعلن عنان استقالته في 2 أغسطس/آب 2012 على أن تبدأ في الأول من سبتمبر/أيلول.
تلاه الأخضر الإبراهيمي الذي عينه الأمين العام السابق، بان كي مون، في 17 أغسطس ليتابع ما بدأه كوفي عنان. لكن الإبراهيمي آثر أن يدول الحل فجمع الأطراف في جنيف ليجري حوارا للاتفاق على نقاط محورية حول رؤية سوريا المستقبل. كان الإبراهيمي يعتقد أن الصراع في سوريا لم يعد سوريا سوريا، بل صراعا بالوكالة بين قوى دولية وأخرى إقليمية، ولكي تنجح الأمم المتحدة في إيجاد حل شامل لا بد من إشراك القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الروسي. وبالفعل عقد جلسة دولية لكل تلك القوى، وكان يطمح أن يصل الأطراف إلى تفسير موحد لـ»الفترة الانتقالية» الواردة في بيان جنيف، ودور الرئيس بشار الأسد. وعقد وزيرا الخارجية الروسية والأمريكية لافروف وجون كيري الجلسة الأولى في 23 مايو/أيار 2013 واتفقا على عقد جلسة أخرى موسعة في جنيف. عقدت جولة محادثات جنيف 2 بحضورممثلين عن نحو 40 دولة استثنت منها إيران. عقدت جلستان الأولى من 22- 30 يناير/كانون الثاني والثانية من 10- 15 فبراير/شباط 2014 بدون تحقيق أي اختراق. فاستقال الإبراهيمي في 31 مايو 2014 محتفظا بكرامته رغم أن سهام النقد جاءته من كل حدب وصوب.
تم تعيين ستافان دي مستورا في يوليو 2014 وها هو يستقيل بعد أربع سنوات وأربعة أشهر في المنصب. وأهم ما يميز مرحلة دي مستورا هو خروج قواعد اللعبة من أيدي الأمم المتحدة وتحولها تقريبا بالكامل إلى أيدي روسيا وتركيا وإيران. يترك دي مستورا المنصب، والخلاف ما زال قائما على موضوع اللجنة الدستورية المكونة من 150 سوريا. ويترك المنصب وما زال الأمل بعيدا لعقد اجتماع مشترك لجميع أطياف الشعب السوري لصياغة دستور متفق عليه، وتشكيل حكومة مؤقتة ذات صلاحيات تنفيذية، كما تطالب المعارضة، وإجراء انتخابات جديدة تعكس رؤية السوريين في سوريا الجديدة القائمة على التعددية والديمقراطية وسيادة القانون.
إذن فشل دي مستورا وبدأ البحث عن بديل له منذ مدة ليست بالقصيرة. وقد شملت قائمة المرشحين أربعة أسماء: يان كوبيش، المبعوث الخاص للأمين العام في العراق، وهو من سلوفاكيا الذي ينهي مهمته نهاية هذا الشهر. ويبدو أن هناك اعتراضا عليه من أكثر من طرف، وقد يكون اسمه طرح فقط للتنويع وربما التمويه.
نيكولاي ملادينوف، المبعوث الخاص لفلسطين المحتلة ومنسق عملية السلام في الشرق الأوسط ، لكن سوريا وضعت عليه فيتو وأكدت مصادر أن السوريين قالوا إنهم لن يتعاملوا معه، بسبب انحيازه الواضح للجانب الإسرائيلي في مهمته في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن ينحاز للرواية الإسرائيلية الظالمة في فلسطين لن يكون محايدا في المسألة السورية الشديدة التعقيد.
المرشح المفضل لدى السوريين كان وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان العمامرة، الذي لعب دورا مهما كمفوض الاتحاد الإفريقي للسلام والأمن. كما أن لبلده الجزائر مكانة خاصة في العالم العربي، وكذلك ظل موقفها من الأزمة السورية متوازنا وأقرب إلى الموقف الرسمي، وتعتبر ما يجري في سوريا شبيها بما جرى في الجزائر في العشرية السوداء. لكن الحقيقة أن الجزائر هي التي قدمت اعتذارها للأمين العام، وآثرت أن تكون خارج التجاذبات الدقيقة في سوريا بعد تجربة الإبراهيمي وما تعرض له من انتقادات رغم خبرته ومهارته ومهنيته العالية. غير بيدرسون، حيث جرى التوافق عليه بعد اعتذار الجزائر. فالنرويج بلد معروف بحياديته ومواقفه المتزنة وغير الخاضعة لابتزاز الدول الكبرى. كما أن غير بيدرسون يحمل في جعبته ثلاثة عقود من الخبرة السياسية والدبلوماسية كسفير لبلاده في الصين حاليا وممثل دائم لبلاده لدى الأمم المتحدة بين عامي 2012 و2017. كما عمل منسقا للأمم المتحدة في لبنان عامي 2007 و2008 وقبلها مبعوثا خاصا للأمين العام في جنوب لبنان. وعمل موظفا دوليا في مقر الأمم المتحدة ومديرا لقسم آسيا والباسيفيك في إدارة الشؤون السياسية، وشغل منصب مسؤول عن العمليات الميدانية لإدارة شؤون حفظ السلام. أمام بيدرسون مجموعة معطيات يجب أن يتعامل معها كي يضمن مسيرة سلسة لا تودي به إلى التهلكة كسابقيه:
أولا- أوراق اللعبة الآن في يد روسيا وإيران وتركيا. روسيا وإيران متمسكتان ببقاء بشار الأسد رئيسا، إلى أن تحسم الانتخابات الحرة والعادلة والشاملة مسألة قيادة المستقبل. وتركيا التي تسيطر على مناطق في أرض سورية طردت منها تجمعات كردية تعتبرها حركات إرهابية، تفضل أن لا يعطى بشار الأسد أي دور في سوريا المستقبل. لقد باعدت تركيا نفسها عن كثير من حركات المعارضة الراديكالية والإرهابية، إلا أن لها علاقات مع بعض الجماعات في منطقة إدلب، مثل هيئة تحرير الشام. أما باقي جماعات المعارضة المعتدلة، كما توصف، فقد تفرقت من حيث الأهداف والولاءات وهي في أضعف حالاتها.
ثانيا ـ ما زالت الولايات المتحدة تسيطر على أجزاء في منطقة الرقة ودير الزور وتصر على البقاء هناك تحت حجة مراقبة الأنشطة الإيرانية في سوريا والعراق. وترتكب الولايات المتحدة وحفنة صغيرة مما يسمى التحالف الدولي جرائم شنيعة بحق المدنيين السوريين، تحت حجة محاربة «داعش» وهو عذر أقبح من ذنب لأن هذا التحالف سهل حركات الإرهابيين وتنقلاتهم من منطقة لأخرى.
ثالثا- دور الأمم المتحدة أصبح ذيليا ويجب أن يقر بيديرسون بذلك، فالأمم المتحدة لا تملك أوراق الحل، وعليها أن تنتظر التوافق الدولي للحل النهائي، وهو ما نتوقعه خلال عام 2019 برعاية روسية إيرانية تركية بعد حل جيب إدلب الذي يشكل عقبة في طريق الحل النهائي. ولا نستبعد أن تقوم القوات السورية باستعادته بالقوة، كما فعلت في أكثر من منطقة، إذا فشلت الجهود الدبلوماسية بإخراج نحو 120000 مسلح يحتمون داخل ثلاثة ملايين مدني.
رابعا- على بيدرسون أن يركز جهده الأساسي على ثلاثة مواضيع أساسية أولها إعادة المهجرين واللاجئين إلى سوريا بعد ضمان عودة سالمة وآمنة ومستدامة، وثانيها موضوع إعادة الإعمار بقيادة روسية صينية ودول أوروبية لم تشترك في تدمير سوريا، وثالثا الانتقال السلمي تحت رعاية أممية لسوريا المستقبل القائمة على التعديدة والحرية والديمقراطية، التي تحنو على جميع أبنائها وتمكن شعبها كاملا من اختيار شكل حكومته وقيادتها، بعيدا عن الاستئثار أو الإقصاء. بذلك سيذكر التاريخ غير بيدرسون ويستحق عندها جائزة نوبل للسلام، حلم دي مستورا المفقود.

عبد الحميد صيام
المصدر: القدس العربي