2013_Syria_Ken_AR

الدخان يتصاعد بعد ما وصفه نشطاء بأنه قصف لقوات موالية للحكومة السورية استهدف قرية دوريت في 17 أغسطس/آب 2013.

بأية كيفية يتعين علينا أن نفهم فرض خط أحمر يحظر واحداً من الأسلحة المروعة تسبب في مقتل العدد الأقل نسبياً بينما ندع الأسلحة التقليدية التي استخدمتها المؤسسة العسكرية السورية في قتل عشرات الآلاف دون مساس؟ قد يكون من السهل الاستخفاف باتفاق بشأن الأسلحة الكيماوية يهدف لإيقاف “طريقة الذبح” المسئولة عن أقل من 2 بالمائة من عدد القتلى السوريين، الذي يقدر بنحو 115000 قتيل، والذي نجم عن النزاع الدائر على مدى العامين ونصف المنقضيين، حين تجاز في نفس الوقت ودونما أدنى تعرُّض، الوسائل التي استخدمت في ذبح أكثر من 98 بالمائة منهم. ولذا فإن القول بأن “الضوء الأحمر للسلاح الكيماوي، أما الأخضر فللسلاح التقليدي” قد يلخص طريقة التناول تلك بصورة ملائمة.

غير أنه سيكون من الخطأ التقليل من شان الاختراق الدبلوماسي الذي حدث في اللحظة الأخيرة ، حين استمسك وزير الخارجية الروسي سيرغي لاﭬروﭪبتعليق لوزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري بدا مرتجلاً بصورة واضحة بأنه يمكن لسوريا تفادي عمل عسكري أمريكي إذا ما قامت بتسليم أسلحتها الكيماوية. يجدر القول أولاً أن تجنب تدخل عسكري أمريكي آخر في منطقة الشرق الأوسط القابلة للاشتعال هو أمر ليس بالقليل. وعلى الرغم من أن التأييد البرلماني لما اقترحه الرئيس باراك أوباما من فرض لما أسماه “الخط الأحمر” بالقوة العسكرية لم يكن مؤكداً بأية حال، فقد خشيت روسيا من إمكانية لم تكن بعيدة عن التصور وهي أن يمنح مجلس الشيوخ الرئيس أوباما التأييد الذي كان يسعى إليه، وأنه كان سيشرع عندئذ بالتصرف دونما انتظار للرفض المحتمل من قبل مجلس النواب.

علاوة على ذلك، فإنه بقدر ما كانت مشاهدة خمسة آلاف سوري في المتوسط يقتلون في كل شهر بواسطة الأسلحة التقليدية أمراً مروعاً، إلا أن هجمات يوم 21 أغسطس/آب الكيماوية على موقعين بريف دمشق قد أودت بحياة 1400 شخص في ليلة واحدة. وعلى الرغم من إنكار الحكومة، فقد أكد العمل البحثي لـ هيومن رايتس ووتش وغيرها أن الأسلحة الكيماوية قد تم إطلاقها من قبل المؤسسة العسكرية السورية. ولولا التجاوب الدولي لكان هناك من الأسباب الوجيهة ما يدفعنا لاستباق تصور مشهد مروع للرئيس السوري بشار الأسد وهو ينشر الأسلحة الكيماوية بصورة منتظمة.

كذلك فإن أمر الأسلحة الكيماوية في الحالة السورية أمر مختلف، ليس فقط لكونها أسلحة عشوائية الإصابة محظورة منذ أمد بعيد مثلما أشار كيري في سياق دفعه بمسوغات الرد العسكري، إذ تحتفظ الولايات المتحدة على أية حال ضمن ترسانتها الحربية بأسلحة عشوائية الإصابة بعضها، كالألغام الأرضية والذخائر العنقودية، يُحظر استخدامها بمقتضى معاهدات لم تحظ بمصادقة الولايات المتحدة، والبعض الآخر، كالأسلحة النووية، لم يحرم استخدامها صراحة. فالأسلحة الكيماوية مختلفة بالأحرى، وكما برهن الأسد، بسبب ما تقتضيه من ضريبة فوق العادة تجنيها من صفوف المدنيين.

بين النسمات الليلية المائلة للبرودة في أواخر شهر أغسطس/آب، تسلل بخار غاز السارين الثقيل إلي داخل الطوابق تحت الأرضية التي اتخذها العديد من النسوة والأطفال وغيرهم من المدنيين ملجأً من القتال الدائر حولهم. إذ عادة ما تكون الطوابق تحت الأرضية من الأماكن المناسبة لتفادي الصواريخ وطلقات المدفعية التي تنفجر عاليها، غير أنها استحالت في تلك الليلة أماكن للموت.

لا شك في أن الحكومة السورية سوف تحاول إخفاء بعض قدراتها التسلحية الكيماوية من بين ترسانتها الواسعة، ولكن مع وجود روسيا، الراعي السياسي الرئيسي لها، كطرف مساند للصفقة، سيكون من الحماقة استخدام سوريا للأسلحة الكيماوية مرة أخرى في أية عمل مشابه في خطورته لهجمات 21 أغسطس/آب. ويجب على الأسد أن يعرف أن إيران، ثاني أهم حلفاء سوريا، لديها على وجه الخصوص حساسية تجاه استخدام السارين، بعد ما عانته جنباً إلى جنب مع الأكراد العراقيين، من هجمات صدام حسين الكيماوية إبان حقبة الثمانينيات، وذلك على الرغم من عدم قدرتها، مثلها في ذلك مثل موسكو، على الإقدام على تحميل الحكومة السورية المسئولية عن الهجمات الأخيرة. ومع تواصل قتل المدنيين باستخدام وسائل أخرى، إلا أن وضع حد لتلك الطريقة الغادرة للقتل لم يكن بالعمل الهين أو القليل.

قد يكون الأثر الأعظم للاتفاق بشأن الأسلحة الكيماوية هو أثره الدبلوماسي. إذ أن واحداً من العناصر المثيرة للإحباط في بنية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أنه يتيح للدول الخمس دائمة العضوية أي الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية استخدام حق الفيتو الذي تتمتع به لإعاقة اتخاذ إجراء ما لأية سبب ولو كان المشايعة أو محدودية الفكر وحتى في حالة ارتكاب الفظائع بحق جماعات بأسرها.  فالولايات المتحدة، مثلاً، تستخدم حق الفيتو بصورة روتينية لحماية إسرائيل من التعرض للانتقاد بسبب ما ترتكبه من انتهاكات على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ولقد استخدمت روسيا حق الفيتو لسد السبل أمام أي جهد ذي دلالة لتوجيه الاهتمام صوب المجزرة السورية وذلك منذ اندلعت الاحتجاجات السلمية في مارس/آذار 2011. وسواء أكان الموضوع إدانة الفظائع المرتكبة أو فرض عقوبات أو حظر تصدير الأسلحة، أو إحالة ملف سوريا للمحكمة الجنائية الدولية كان الرد الروسي “نييت” [لا] صريحة، أو التهديد بها. بينما أتت الصين في المركز الثاني بعد روسيا في تصلبها، إلا أن البعض يعتقد أن بكين كانت لتعوق الإجراء الدولي دون حاجة لأن تتصدر روسيا المسيرة. ولكونها قوة عالمية آفلة ذات اقتصاد يعتمد على بيع الوقود، بدت روسيا عازمة على استغلال ميزة ثقلها الدبلوماسي إلي أقصى مدى ممكن، باستخدامها حق الفيتو لحماية واحد من حلفائها القلائل المتبقيين في المنطقة.

انتهي ذلك المأزق بإبرام اتفاق الأسلحة الكيماوية، حين تبنى المجلس في نهاية الأمر قراراً يطالب بالانصياع لتفاهم لاﭬروﭪ – كيري. ولقد رفضت روسيا، حتى عند ذلك الحد، التصديق على قرار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يسمح بإنفاذ القرارات من خلال فرض العقوبات  أو العمل العسكري. إلا أن وقوف روسيا وراء ذلك الاتفاق، واحتواء القرار على الكثير من التعبيرات الملزمة، فإنه من الأرجح انصياع الأسد له. وتشير تقارير  خبراء السلاح الدوليين الفائزين بجائزة نوبل للسلام، الذين يتم نشرهم الآن في سوريا لتحديد مواقع ترسانتها من الأسلحة الكيماوية وإبطالها وتدميرها، إلى تعاون الحكومة حتى الآن.

امتد في غضون أيام، ذلك المزاج البناء لمجلس الأمن إلى المجال الإنساني. فقد كان الهجوم الكيماوي أمراً فوق العادة من حيث نوعية السلاح المستخدم، غير أنه بخلاف ذلك يمثل نموذجاً للطريقة التي شنت بها المؤسسة العسكرية السورية حربها. فمع استيلاء قوات المتمردين على رقعة واسعة من الأراضي السورية، قامت حكومة الأسد رداً على ذلك بمهاجمة المدنيين المقيمين بها دون تمييز بل وبصورة عمدية في حالات كثيرة. ويعكس ذلك جزئياً استراتيجية مكافحة التمرد، المنتهكة للحقوق تقليديا، والتي تعمد إلى تجفيف البحر لالتقاط الأسماك، وذلك بجعل الحياة أمراً شديد البؤس بالنسبة للمدنيين بما يدفعهم للفرار، تاركين قوات التمرد مكشوفة، دون كثافة سكانية تختفي فيما بينها أو اقتصاد تدور آلته بحيث يمكن من خلاله حصولها على المؤن. وجزئياً تبدو تلك الاستراتيجية أيضاً كما لو كانت مخططة كي تبعث برسالة للسوريين في كافة ربوع البلاد بأن هذا هو ما ستكون عليه حياتكم إذا ما كانت الغلبة للمتمردين حيث تحيون، ولذا فمن الأفضل لكم مساندة الأسد.

ومن ثم فقد استخدمت القوات السورية الصواريخ والمدفعية والقنابل العنقودية والأسلحة المحرقة والقنابل الفراغية والقصف الجوي في هجومها بدون تمييز على المناطق المأهولة  داخل الإقليم الواقع تحت سيطرة المتمردين واستهدافها للمخابز والمنشآت الطبية والمدارس العاملة. كما قامت القوات السورية بنشر أسلحة أكثر اعتيادية كالبنادق والسكاكين التي استخدمت في إعدام 248 مدني في إحدى المناطق السنية المناوئة للحكومة وذلك في أوائل شهر مايو/أيار بحسب توثيق هيومن رايتس ووتش.

الفصائل المتمردة أيضاً ارتكبت أعمالاً وحشية على نطاق أضيق، ومن بين تلك الفصائل تلك الجماعات الإسلامية المتشددة متنامية القوة كجبهة النصرة، والدولة الإسلامية في العراق والشام وكلاهما تربطها أواصر صلة بتنظيم القاعدة، إلى جانب تنظيم جيش المهاجرين والأنصار. فبصورة فاضحة إلى حد بعيد تتحمل تلك الفصائل جزئياً المسئولية عن مقتل 190 مدنياً وإبعاد 200 بصورة منهجية خلال شهر أغسطس/آب على أيدي خمس جماعات سنية متمردة وذلك في القرى الموالية للحكومة بمحافظة اللاذقية والتي صدر تقرير بشأنها أيضاً من قبل هيومن رايتس ووتش. كذلك سرت مزاعم غير مؤكدة عن استخدام محدود لغاز السارين من قبل المتمردين.

كانت نتائج تلك الأعمال الوحشية كارثية، بما تم تقديره بنحو 40000 قتيل مدني إلى جانب تدمير قدر كبير من البنية التحتية الأساسية للبلاد. كذلك فر ملايين المدنيين من ديارهم بسبب ذلك الشقاء القصدي، أكثر من 2 مليون منهم فروا إلى البلدان المحيطة بسوريا وأصبحوا يمثلون عبئاً ضخماً مضطرد النمو، خاصة على مجتمعات لبنان والأردن الهشة، وهناك نحو خمسة ملايين من الفارين داخل سوريا. ويعتمد الآن قرابة 7 ملايين سوري داخل البلاد في توفير الضروريات الأساسية على المساعدات الإنسانية.

ولقد تصرفت حكومة الأسد باستخفاف قاس تجاههم، بوضعها العوائق البيروقراطية في طريق إغاثة هم في أمس الحاجة إليها. فقد رفضت تسجيل كل وكالات المعونة الدولية الأكثر قدرة وخبرة باستثناء حفنة منها. واحتجزت المساعدات المطلوبة بصورة ملحة في الجمارك، واستلزمت إجراءات إفراج رسمية متعددة حكمت على شحنات المعونة بفترات تأخير مفرطة في طولها. الأمر الأكثر إضراراً هو أنها أصرت على أن يتم إرسال المعونة من الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة. ومع أن معظم المسارات المباشرة المؤدية إلى حيث يوجد الكثير من أصحاب الحاجة كانت ستمر عبر الحدود مع الدول المجاورة أي تركيا أو الأردن أو لبنان، إلا أن دمشق تتمسك بمسارات غير مباشرة تتطلب من عمال الإغاثة الارتحال لما يصل لعشرة أمثال المسافة بعداً وعبر العشرات من نقط التفتيش. ونتيجة لذلك لا يصل من المعونة إلى المدنيين على الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون سوى قطرات هزيلة. كذلك فإن تكاثر الجماعات المتمردة وبعضها معاد للمساعدات الأجنبية أعاق بدوره تسليم المعونات.

رويداً رويداً بدأت بعض الحكومات، ومن بينها حكومة الولايات المتحدة، تمويل جماعات العمل الإنساني لتوفير المساعدات عبر الحدود. إلا أن الكميات المطلوبة أضخم وتهديدات أعمال العنف أكثر خطورة من أن تتمكن جماعات خاصة من مقابلة تلك الاحتياجات بمفردها. فالأمر بحاجة لعملية إغاثة كبرى تقودها الأمم المتحدة.

إلا أنه لن يكون بمقدور الأمم المتحدة تحمل مثل تلك العمليات بصفة اعتيادية إلا برضاء السلطة الحاكمة التي يحتاج سكان بلادها لتك المساعدات. ولقد كانت الحكومة السورية نافرة من السماح بمرور تلك المعونة الإنسانية عبر الحدود، إذ أن ذلك سوف يقوض جهودها لجعل الحياة في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون حياة تعسة. كان بمقدور مجلس الأمن أن يأمر سوريا بإجازة المساعدات العابرة للحدود، غير أنه بنهايات شهر سبتمبر/أيلول لم تكن لروسيا رغبة في أي من ذلك، فتسيدت “نييت” [لا] العتيدة الموقف.

لقد وفر تفاهم الأسلحة الكيماوية فرصة تناول تلك الاحتياجات الإنسانية بالبحث. ففي غضون خمسة أيام فقط تلت قرار الأمم المتحدة الذي حزم في 27 سبتمبر/أيلول أمر الاتفاق، قبلت روسيا بياناً رئاسياً لمجلس الأمن يحث سوريا على “اتخاذ خطوات فورية لتيسير التوسع في عمليات الإغاثة الإنسانية”، بما في ذلك “من البلدان المجاورة عبر الحدود معها، متى كان ذلك ملائماً”. ومع أن البيان الرئاسي أدنى من حيث سلطته الملزمة من قرار رسمي، إلا أن ذلك لا يجب أن يحجب حقيقة أن روسيا، أهم حلفاء سوريا، قد أمرتها الآن بصورة فعلية بالسماح بتلك المعونة. وقد طلب مجلس الأمن من الأمين العام للأمم المتحدة الرد بتقرير عن الكيفية التي يتم بها تنفيذ البيان الرئاسي، ممهداً الطريق لاتخاذ المجلس خطوات إضافية إذا ما تواصل انسداد سبل تنفيذه.

على الأمم المتحدة اقتناص تلك الفرصة، بأن تتقدم بمطالب محددة للسماح بالدخول في مدى زمني محدد، وأن ترفع بصفة فورية إلى مجلس الأمن تقاريرها بشأن أية ممانعة إضافية. ومما يؤسف له أن ﭬـاليري آموس، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الإنسانية ومنسق الإغاثة الطارئة، ظلت في ظهورها العلني غير واضحة فيما يتعلق بالعوائق الرئيسية في وجه توزيع المعونة الإنسانية. وبدا ظاهرياً تخوفها من أن يؤدي التوجه باللوم للحكومة السورية لتعريض وصول الأمم المتحدة للمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة للخطر، وفي حالات كثيرة جدا لجأت آموس للتصريحات المسكنة بشأن تلك المشكلة. والأمل معقود على أن تتبنى الأمم المتحدة، بوقوف مجلس الأمن في صفها، لهجة أكثر حزماً.

ومع ذلك، وحتى لو بدأ الموقف الإنساني في التحسن، فإنه لا تجري أية محاولة جادة لإيقاف قتل المدنيين بواسطة الأسلحة التقليدية. الحق أنه بقدر ما أخذت خطوط المواجهة في التصلب بقدر ما انخفضت نسبة القتلى المدنيين مقارنة بالقتلى من المحاربين، إلا أن قرابة 2000 من المتوسط الشهري الحالي لعدد القتلى البالغ 5000 قتيل كانوا من المدنيين. ما الذي يمكن عمله إذن لإيقاف هذه المجزرة؟

الجواب الحاضر لدى إدارة أوباما كان: محادثات السلام. هذا وقد قام كيري بإحياء جهود عقد مفاوضات “جنيف 2” – التي تعد متابعة للتفاهم الذي جرت مفاوضاته في يونيو/حزيران 2012 تحت رعاية الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والتي دعت الأطراف المتحاربة للاتفاق على وقف إطلاق النار وبدء مرحلة انتقالية سياسية. إلا أن احتمالات عقد جنيف 2 تبدو غير مشجعة. فالجماعات المتمردة ليست موحدة وتقول أنها لن تتفاوض مع الأسد. والأسد بدوره يقول أنه لن يتفاوض مع معظم الجماعات المتمردة.

قد يكون السلام الذي يجري التفاوض بشأنه هو أفضل السبل لتفادي انهيار الدولة السورية انهياراً كاملاً. ويأمل حتى أشد خصوم الأسد عناداً، واضعين في الاعتبار سابقة العراق الكارثية، أن يبقى البناء الأساسي للدولة سليماً، على أن يكون ذلك بدون الأسد وكبار الضباط التابعين له. كذلك فإن سلاماً يجري التفاوض بشأنه قد يوفر إمكانية ضمان أمن كل السوريين، دونما اعتبار للعداوات الطائفية التي تقسم البلاد في الوقت الحاضر.

إلا أن من يعتقدون أن السلام الناجم عن المفاوضات سيتحقق في وقت ما قريباً هم قلة. وتتواصل حالات الوفاة بين المدنيين، لتتعجل الوقوف على سبيل ما لاختصار المجزرة في هذه الأثناء. ومعظم الطرق المؤدية لذلك تمر عبر موسكو. إذ يكشف اتفاق الأسلحة الكيماوية أنه عندما يأمر الرئيس الروسي ﭬـلاديمير بوتين الأسد أن يفعل شيئاً ما فإن الأخير يفعله. وبالنظر لسرعة قبول لاﭬروﭪ لمخطط كيري لصفقة كيماوية يبدو أنه لم يكن هناك سوى القليل من التفاوض، إن كان أياً قد تم، مع دمشق. إن موسكو ببساطة هي التي تحدد الشروط.  ولكن إذا ما كان لدى موسكو القدرة على إيقاف القتل بالأسلحة الكيماوية، فلم لا توقف أيضاً قتل المدنيين بالوسائل التقليدية؟ ولم لا تتمسك بـ “خط أحمر” جديد ضد قتل عمدي وغير مميز للمدنيين؟ وحتى إذا ما تواصل القتال، لم لا تجبر الأسد على التركيز على تقليص الخسائر البشرية بين المدنيين أي أن يهاجم الأسماك فقط ويدع البحر وشأنه.

 لم تعط روسيا جواباً كافياً ولو من بعيد. فقد مالت المداولات حول الموضوع إلى التحول للفظائع التي ارتكبها المتمردون وإلى الأعداد المتنامية من الجماعات الإسلاموية المتشددة في صفوف المتمردين . وهذه بواعث جدية للقلق، وبصفة خاصة في ضوء المخاوف الروسية من كون سوريا قد أصبحت مغناطيساً للشباب الناقمين الوافدين من الاتحاد السوفييتي السابق والذين قد يهاجمون حكومات بلادهم في نهاية الأمر. إلا أن ذلك لا يبرر فظائع الحكومة السورية.

يعطي تجاوب روسيا مع هجمات 21 أغسطس/آب الكيماوية، أي إلقاء المسئولية كذباً على المتمردين، مثالاً على المدى الذي يمكن أن تصل إليه لتفادي ولو مجرد توجيه الانتقاد لحكومة الأسد. وكما كشفت هيومن رايتس ووتش، فإن أحد أنواع الصواريخ المستخدمة وقد أعد خصيصاً لحمل السارين لم تسبق رؤيته مطلقاً قبل بدء النزاع السوري وكان قد سبق تصويره فيلمياً إذ كان في حوزة الحكومة فقط لا في حوزة المتمردين. كما وأن الخمس وخمسين لتراً من السارين المقدرة داخل كل صاروخ، والتي تبلغ جملة المستخدم منه مئات اللترات أي تتجاوز الكمية التي أدعى أياً من كان إمكانية حيازة المتمردين لها. كما وأن مسار القذائف الذي أمكن تبيّنه لاثنين من تلك الصواريخ أوحى بوجود منصة الإطلاق داخل قاعدة عسكرية تابعة للحكومة متاخمة لقصر الأسد الرئاسي.

وعوضاً عن المجادلة حول الدليل القوى على مسئولية الحكومة، استشهدت روسيا بمزاعم مضادة وردت على مواقع إنترنت هامشية تتبنى نظرية المؤامرة، وعلى لسان إحدى الراهبات وهي ليست من الخبراء، ولم تكن في أي مكان بالقرب من مكان الهجمات كما وأنها من المدافعين المعروفين  عن الأسد. كان من الممكن رفض الحجج الروسية لسخفها لو لم تكن العواقب مهلكة على ذلك النحو. ولو كفت روسيا عن الحيلولة دون تعرض مجلس الأمن لتكتيكات الأسد غير المميزة فستكون قد قطعت شوطاً طويلاً في اتجاه تخفيف التكلفة من المدنيين.

قد يكون استخدام المحكمة الجنائية الدولية سبيلاً آخراً لمنع وقوع المزيد من الأعمال الوحشية. وحيث أن سوريا لم تنضم للمحكمة، فمن الممكن فقط إخضاعها لسلطة المحكمة القضائية  بناء على إجراء من قبل مجلس الأمن، حيث يعترض حق الفيتو الذي تهدد روسيا به الطريق. والمحكمة الدولية يمكن أن تقدم حلاً لمخاوف روسيا بشأن الفظائع المرتكبة من قبل المتمردين إذ أنه بإمكانها نظر دعاوى الجرائم الخطيرة المرتكبة من قبل كافة أطراف النزاع، إلا أن ذلك لم يقنع روسيا التي اعتبرت الاقتراح “سيئ التوقيت وذا نتائج عكسية”.

في هذه الحالة، أمكن تخفيف تصلب موسكو نتيجة لعدم رغبة واشنطن ذاتها في الضغط لإقحام المحكمة الجنائية الدولية، التي لم تنضم الولايات المتحدة لها. فقد تضمنت مسودة أولية للقرار الخاص باتفاق الأسلحة الكيماوية إشارة للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن بناء على إصرار الولايات المتحدة تم حذفها بل وقبل أن تقدم المسودة للروس، الذين لم يضطروا عندئذ لتحمل مسئولية الاعتراض عليها. وبدلاً من ذلك كانت إدارة أوباما قد أخذت تروج لعقد محكمة جديدة تختص فقط بالأزمة في سوريا، وكان من المقدر لها أن تؤسس بمجرد أن تنتهي الحرب، على الرغم من التكلفة البالغة وتعقيدات تشكيل مثل تلك المحاكم وفقدان الأثر الرادع لوجود محكمة تستجوب سوريا في الوقت الراهن، حيث تتواصل عمليات القتل.

قد يكون هذا البديل المقترح للمحكمة الجنائية الدولية ذا جاذبية لواشنطن، لأنه يعنى أن المحاكمات الدائرة لن تتسبب في تعقيد المفاوضات المستقبلية. لقد أثبتت خبرة بلدان عدة حتى الآن أن المحاكمات تنزع لتنحية الشخصيات الأكثر ارتكاباً للانتهاكات مما يمهد سبل تحقيق السلام، ويقدم تفاهم دايتون بشأن البوسنة واحداً من الأمثلة على ذلك. وبرغم أنه لا شك في أن الأسد لن يوقع على أي اتفاق يقوده إلى السجن، إلا أن الكثيرين يفترضون أنه على أية حال سوف يفر من سوريا، ملتجئاً لبلد كروسيا أو إيران، أي دولة ليست عضواً بالمحكمة الجنائية الدولية، ومن الممكن أن تحميه من المحاكمة.

وهناك سبب آخر لا يفصح عنه علناً  لموقف إدارة أوباما الفاتر تجاه المحكمة الجنائية الدولية هو إسرائيل وبصيغة أكثر تحديداً: مستوطنات إسرائيل في هضبة الجولان. إذ أن إحالة سوريا من قبل مجلس الأمن للمحكمة الجنائية الدولية قد يسري افتراضياً على كامل أراضيها، شاملة الجولان المحتل من قبل إسرائيل منذ عام 1967. وللمحكمة الجنائية الدولية سلطة المحاكمة عن جرائم الحرب التي ترتكبها دولة الاحتلال التي تقوم بنقل سكانها إلى الأراضي المحتلة. وقد تكون إسرائيل عرضة لمثل تلك المحاكمة بسبب مستوطناتها الآخذة في النمو بالضفة الغربية، حيث تواصل نقل سكانها. وهذا واحد من بين أسباب التي تفسر لماذا كانت إسرائيل بهذه الاستماتة في محاولة منع السلطات الفلسطينية من استخدام وضعيتهم في الأمم المتحدة في أعقاب ترقية تلك الوضعية في الاستعانة بالسلطة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية.

بيد أن مستوطنات الجولان الثلاثة والثلاثين التي قد تمنح المحكمة الجنائية الدولية سلطة قضائية عليها كجزء من قرار الإحالة بحق سوريا كان نموها السكاني ضئيلاً جداً، إن كان قد حدث أي نمو سكاني بين مستوطنيها البالغ عددهم 20000 مستوطن على مدى العامين ونصف الماضيين. واحتمال أن تسعى ممثل الادعاء بالمحكمة الدولية في إثر الإسرائيليين لاستيطانهم في الجولان في وقت تكون فيه يداها مشغولتين بتناول الفظائع الجماعية في سوريا هو احتمال بعيد على أقصي تقدير. لكن شظية الإمكانية تلك هي بصورة واضحة مثال الذيل الذي يهز كلب سياسة الولايات المتحدة تجاه المحاكمة الجنائية الدولية لسوريا. إن الحاجة الملحة لمنع المزيد من المجازر بحق المدنيين السوريين يجب ألا تأتي في مرتبة تالية لمخاوف إسرائيل الأبعد احتمالاً.

ما الذي يمكن عمله بعدئذ لإقناع روسيا بوضع نهاية لدفاعها عن أعمال الأسد الوحشية ومواصلة السير على الطريق البناء الذي أوحى به اتفاق الأسلحة الكيماوية في الأمم المتحدة والبيان الصادر لصالح الإغاثة الإنسانية؟  أحد الأسباب التي مكنت روسيا من مواصلة تصلبها لمدة طويلة كهذه هو الثمن الزهيد الذي تحملته مقابل ذلك. فروسيا مثلاً توفر الإمدادات لآلة القتل التابعة للأسد من خلال “روزوبورون-إكسبورت” – الُمـُصدِّر الرسمي لسلاحها. لذا فإن واحداً من السبل الواضحة للضغط على موسكو كي تتخذ لنفسها دوراً بناءً بدرجة أكبر تجاه سوريا، قد يكون بمقاطعة الولايات المتحدة وغيرها من الدول لشركة “روزوبورون-إكسبورت”. وعلى الرغم من وجود قانون يحظر عمليات الشراء من قبل الولايات المتحدة من تلك الشركة، فقد استشهد البنتاجون بالأمن القومي في شهر مارس/أذار بغرض رفع ذلك التقييد، وقام بشراء مروحيات روسية لتسليمها لأفغانستان، إذ أن إحدى الموروثات من الاحتلال الروسي كون القوات الأفغانية متآلفة بدرجة أكبر مع الطرز الروسية. أما من ناحية الحكومتين البريطانية والفرنسية فقد واصلتا السماح لـشركة “روزوبورون-إكسبورت” بالدعاية لبضاعتها في معارض السلاح خارج لندن وباريس. باختصار كان دولاب العمل بالنسبة للشركة والحكومة التي تسيطر عليها يدور دورانه المعتاد.

لم يستخدم الغرب كذلك مع سوريا ذلك النوع من العقوبات المصرفية المسببة للشلل المالي التي كانت شديدة الفاعلية في جر إيران لمائدة المفاوضات. إن حظر المزيد من العلاقات المالية مع أي بنك، روسياً كان أو خلاف ذلك، كان قد ساعد في تمويل صفقات الأسلحة لصالح سوريا قد يحد من تلك المشتريات بإجبار الحكومة السورية على الاعتماد على المدفوعات النقدية ونظام المقايضة. ومن الممكن استخدام صور أخرى للمقاطعة للضغط على الجماعات المتمردة المسئولة عن الفظائع واسعة الانتشار.

لقد أخفقت الحكومات الغربية في استخدام الدبلوماسية العامة (الشعبية) لكشف الدعم الروسي لمجازر الأسد. فقد كان هناك القليل من الإدانات العلنية لموسكو من قبل القادة الغربيين، وليس فيها ما يشبه الشجب والتوبيخ المتكررين بالقدر الذي تستحقه موسكو والذي يمكن أن يحدث فرقاً. ويتمثل جزء من المشكلة في أن واشنطن تعتمد الآن على موسكو في المساعدة لتنفيذ اتفاق الأسلحة الكيماوية. ومن الواضح بجلاء أن إدارة أوباما لا ترغب في إحياء مسألة فرض “الخط الأحمر” العسيرة بإفسادها علاقات العمل التي تربطها بموسكو. إلا أن القتل المستمر في سوريا بالوسائل التقليدية يجب أن يلغي الرضا عن الذات كاختيار يمكن تقبله.

للقوى العالمية الصاعدة، غير الغربية، أيضاً دور هام عليها أن تلعبه. ولقد سمحت روسيا والصين لمجلس الأمن بالتحرك بجرأة أكبر لإيقاف ما تنبأ الكثيرون بأنه قد يصبح مجزرة جماعية في ليبيا لأنهما كانتا معزولتين سياسياً سواء من القوى الغربية الرئيسية أو من معظم الدول الهامة غير الغربية أعضاء مجلس الأمن في ذلك الوقت وهي البرازيل والهند وجنوب أفريقيا.

إلا أن الجدل المحيط بالتدخل العسكري في ليبيا – حيث ساد على نطاق واسع الاعتقاد بأن الناتو قد أساء استخدام تفويضه في حماية المدنيين في سبيل إتمام تغيير النظام، الأمر الذي لا يمثل الهدف المحدد – جعل حكومات الدول غير الغربية غير راغبة في الحديث بصوت مسموع بشأن سوريا. فمثلاً تشكو العديد من الحكومات الأفريقية بصورة مستمرة من أن المحكمة الجنائية الدولية توجه تركيزها بشدة على أفريقيا، ولكن أياً من تلك الحكومات لم تضغط باتجاه تغيير ذلك الحال بالدفاع عن إقحام المحكمة الجنائية في مسألة سوريا. ولقد التأمت في روسيا قمة مجموعة العشرين لدول الريادة الاقتصادية في العالم في شهر سبتمبر/أيلول دون بذل أي جهد حقيقي من قبل القوى غير الغربية باتجاه تناول النكبة السورية.

أما فيما يتعلق بالجامعة العربية، وهي الكيان الدبلوماسي الإقليمي الرئيسي، فقد كانت مؤخراً أكثر انقساماً من أن تكون كياناً فعالاً. فالجامعة تنزع للفعل بناء على الإجماع، غير أن ذات الانقسامات الطائفية التي أججت النزاع السوري قوضت العمل الجماعي. ففي حين تمرر الدول التي يسودها المذهب السني كقطر والكويت والسعودية المال والسلاح للمتمردين نجد العراق التي يسودها الشيعة تقف إلى جانب العلويين التابعين للأسد ويمثلون أحد أفرع المذهب الشيعي. وفي نفس الوقت نجد الدول العربية القمعية من السودان إلى الجزائر متحفظة من أي عمل دولي يهدف لتقليص انتهاكات أي حاكم مستبد. أما البلدان الأخرى كمصر فإما أنها أكثر انشغالاً بالاضطراب السياسي الداخلي من أن يكون لها تأثير كبير، أو أنها أصغر أو أضعف من أن تحدث فرقاً. والنتيجة هي القليل من الضغط على روسيا كي تغير طرائقها.

بقدر سوء الأحوال في سوريا، بقدر ما يمكن أن تصبح أكثر سوءاً. فالنزاع يمكن أن يصبح مدمراً ربما بأكثر من حال لبنان إبان حقبة الثمانينيات مع احتمالات عقد من الزمان أو ما يزيد من أعمال القتل، وإجلاء السكان، والمعاناة. وبقدر ما يطول اتصال الأعمال الوحشية أمداً، بقدر ما سيكون من العسير بدرجة أكبر إعادة بناء مجتمع شديد التنوع. وسوف ينجر المزيد من السوريين إلى دائرة الأعمال الوحشية للمتشددين الإسلاميين الآخذين في الصعود فيما بين جماعات المتمردين.

 قد تكون روسيا عاملاً لا غنى عنه لكبح جماح الأسد، غير أن بقية العالم يمثل عنصراً أساسياً في إقناع روسيا بأن تفعل ذلك. ويمثل اتفاق الأسلحة الكيماوية الفرصة الفضلى منذ بداية الحرب لتشكيل جبهة عالمية موحدة لإيقاف المجزرة الدائرة في سوريا. إلا أن ذلك سوف يحدث فقط  بجهد دولي أكبر بكثير مما هو عليه من حيث تركزه  وثباته –  ومن كل من الغرب والآخرين – للضغط على روسيا كي تسمو لمستوى مسئوليتها الخاصة بحماية شعب سوريا.