مخاوف السوريين في تركيا

34
لأول مرة منذ أن عرفت إسطنبول، وعشت فيها سنوات، تمكنني خليط من الحذر والقلق والخوف بسبب ما صارت إليه أوضاع السوريين هناك، في الأشهر القليلة الماضية، وقد تصدى لها الإعلام العربي والدولي متناولاً عبر أخبار وتقارير وتحليلات عمليات التضييق على السوريين ومتابعتهم، وصولاً إلى ترحيل آلاف منهم إلى الداخل السوري بطرق مهينة ومذلة غالباً، والدفع بعشرات آلاف آخرين للعودة إلى الولايات، التي حصلوا منها على بطاقات الحماية المؤقتة «كمليك»، خوفاً من الوقوع في إجراءات المضايقة والترحيل، وكلاهما ترافق مع كلام تركي أن الحملة مستمرة بما يضمن إعادة ضبط وتنظيم الوجود السوري في تركيا، وفي إسطنبول على وجه الخصوص.
كلام الإعلام العربي والدولي عن التضييق التركي يؤشر إلى مشكلات جدية وعميقة، تحيط بالسوريين هناك، لكن معاينة الواقع تدلل إلى احتمالات أبعد وأشد، تجعل من المشكلات مقدمة لكارثة تحيط بالسوريين ووجودهم في تركيا، ما لم تحصل تطورات سريعة في السياسات والإجراءات، تتشارك فيها أطراف متعددة؛ أولهم الأتراك والسوريون ومعهم جهات إقليمية ودولية.
معاينة واقع السوريين في إسطنبول تبيِّن على نحو ظاهر التردي في أوضاع السوريين هناك. فعلى مستوى الوجود السكاني، انخفضت أعدادهم بصورة خطيرة، خصوصاً في المناطق ذات الوجود الكثيف مثل الفاتح وغازي مختار باشا واسنيورت، التي يقول أحد سكانها إن نصف السوريين هناك غادروها إلى مناطق سبق أن سجلوا إقامتهم فيها، أو تم ترحيلهم إلى سوريا، والباقون ممن لا يملكون بطاقة «كمليك» سيتم تسجيلهم في ولاية أخرى، حسبما ترى إدارة الهجرة التركية.
واقعة التغيير السكاني للسوريين في إسطنبول، كان من نتائجها انخفاض وتدهور مكانتهم في الفعاليات الاقتصادية التي أسسوها وأداروها من شركات متعددة الاختصاصات إلى المطاعم والمقاهي ومحلات البقالة وورش الأعمال المهنية في مجالات البناء والخدمات، إضافة لما شاركوا فيها أقرانهم الأتراك، خصوصاً في ورش صناعة الألبسة ووكالات السياحة والشركات العقارية.
لقد اضطر عشرات آلاف السوريين إلى بيع محلاتهم ومحتويات بيوتهم وسياراتهم، بأرخص الأسعار، وخسر أغلبهم ما جناه في السنوات الصعبة، قبل أن يسافروا إلى مناطق إقامة جديدة لبدء حياة جديدة من الصفر في مناطق لا تتوفر فيها بيئة وفرص عمل على نحو ما هو قائم في إسطنبول، ما يعني وضعهم أمام الخوف من مستقبل مجهول مجدداً، وهو حال الباقين في إسطنبول وكل تركيا، حيث لديهم مخاوف من تغييرات في السياسة التركية نحوهم على نحو ما حدث مؤخراً، خصوصاً أن دوريات البوليس ما زالت تدقق في الهويات والمستندات في المنافذ القريبة من الساحات العامة في إسطنبول وعدد من المدن التركية، وبين مهامها تدقيق أوضاع السوريين، ودفعهم في المسارات المحددة، أو ما يمكن إحداثه بصورة مفاجئة من مسارات جديدة.
خطورة قلق السوريين على مستقبلهم في تركيا، لا تنبع فقط مما سبق. بل أيضاً بما يمكن أن تتطور باتجاهه سياسات الحكومة التركية، التي اتسمت بالتردد والارتجال منذ بدء تدفق السوريين إلى تركيا مع العام الأول للثورة، متنقلة من سياسة الباب المفتوح إلى فكرة المهاجرين والأنصار، قبل أن يقيد دخول السوريين، ويصبح صعباً مع بداية 2016، وتبدأ بعد سياسة التضييق، وصولاً للحملة الحالية، التي لا يمكن التنبؤ بما يليها.
غير أن ما سبق سيكون في كفة، وموجة كراهية السوريين في الكفة الأخرى في مخاوف المستقبل. ولأن بدت الموجة نتيجة موقف بعض أطراف المعارضة، بينها «حزب الشعب الجمهوري» الذي فاز ممثله أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول مؤخراً، فإن أوساطاً في حزب «العدالة والتنمية» الحاكم دخلت على خط مناهضة الوجود السوري، ما أعطى الخطاب بعداً شعبوياً وحوله إلى خطاب كراهية مدعوماً بادعاءات كاذبة، منها أن تركيا تعطي السوريين فيها رواتب شهرية، وأنهم ينالون حظوة حماية الحكومة، وقد أخذوا فرص عمل الأتراك، وأنه يتم إرسال الجنود الأتراك لقتال نظام الأسد في سوريا، فيما يبقى السوريون في الأمان التركي، والأهم مما سبق، القول بمزاعم أن السوريين يناهضون العادات والتقاليد التركية، ولا يحترمون القانون التركي، ويخربون حياة الأتراك، وكلها ادعاءات جرى تعميمها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الصحافة، وأدت إلى تغير ملموس في موقف الغالبية التركية، التي طالما رحبت بالسوريين عبر السنوات الماضية.
وسط المشهد التركي الراهن، يبدو الوجود السوري سائراً نحو كارثة، ما لم تتخذ إجراءات سريعة من الفاعلين الأساسين الأتراك والسوريين، وأن تجد هذه الإجراءات دعماً إقليمياً ودولياً يساعدها في استقرار وضع السوريين في تركيا، ولعل أول وأهم الإجراءات المطلوبة، تشكيل عاجل للجنة تركية – سورية مشتركة، تبحث قضية الوجود السوري في تركيا من جوانبها المتعددة، وأن تضع برنامجاً تنفيذياً يحدد الخطوات المطلوبة من الجانبين التركي والسوري، فيقوم الأتراك بما يخصهم على صعيد الحكومة والأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والأهلية، فيما يقوم السوريون بما يمثلهم من قوى سياسية ومنظمات مدنية وأهلية بالدور المنوط بهم.
إن وقف خطاب الكراهية هو مهمة أولى مشتركة للجميع من أتراك وسوريين، والمهمة الثانية، توافق تركي – سوري، بأن الوجود السوري في تركيا قضية أمن قومي لا يجوز اللعب فيها من قبل أي كان، خصوصاً في إطار الحسابات السياسية والمصلحية للأحزاب والجماعات أو للأفراد أياً كانوا، واستناداً إلى هاتين المهمتين يمكن صياغة برامج تنفيذية، لعل الأبرز فيها وضع سياسة تركية واضحة حول أوضاع السوريين في تركيا استناداً إلى القانون الدولي الخاص باللاجئين ومحتويات القانون التركي، ووضع برامج تنفيذية لإقامة أوسع عملية تواصل وتفاعل بين الأتراك والسوريين، والخطوة التنفيذية الثالثة تكمن في مراجعة الإجراءات التي تمت ضد السوريين في الفترة الأخيرة، وتقييمها استناداً إلى المهمات التركية – السورية الهادفة إلى معالجة قضية الوجود السوري في تركيا.

فايز سارة
المصدر: الشرق الأوسط

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.