من الدولة – الأمة إلى الدولة – الطائفة

33

كان الإستعمار المباشر يفرض حكومات ويعين ممثلين للشعب، أو يتدخل في الانتخابات لإيصالهم إلى البرلمان، خدمة لمصالحه. مراجعة بسيطة لما كان يفعله البريطانيون في مصر أو العراق أو الأردن أو فلسطين (للأخيرة وضع مختلف بطبيعة الحال)، أو ما كان يفعله الفرنسيون في لبنان وسورية تكفي لتأكيد هذا الأمر. هل تغير الحال الآن؟ بالتأكيد. تغير شكلاً، لكنه ما زال مثلما كان، وربما أسوأ، والمآل واحد، إذ لا يستطيع اي من شعوب هذه البلدان إيصال حكامه الذين يريدهم، ولا اختيار النظام الذي يلائمه، فالزعماء الذين يمثلون طوائفهم هم أصحاب القرار. يأخذون موازين القوى الخارجية ومصالحها في الإعتبار، في أي خطوة يخطونها.

وفي غياب المشروع العربي وانهيار الوجدان الجمعي تفرقت الشعوب، وانقسم الواحد منها إلى طوائف وقبائل لكل منها مرجعيتها الخارجية تستقوي بها على حكوماتها وعلى شركائها في الوطن.

معروف أن الطبقة الحاكمة في العراق، بعد سقوط النظام السابق، لم تكن اختياراً حراً للشعب، بل اختارها الأميركيون لتخدم مصالحهم في الدرجة الأولى، بدءاً من مجلس الحكم الموقت ورؤسائه، وليس انتهاء بوضع الدستور مفصلاً على مقاس هذه المصالح، ثم اختيار الأكثر قدرة على إقناع «المكونات» بهذا التوجه. والأهم أن الوصول إلى السلطة خضع ويخضع لاعتبارات لا علاقة لها بالسياسات الإقتصادية أو الإجتماعية أو ببرامج التنمية، بل بموازين قوى خارجية تراعي مصالح إيران والولايات المتحدة، على رغم الصراع بينهما. ولا يتم انتخاب (إقرأ تعيين) هذا أو ذاك لأي منصب إلا برضى هذين الطرفين (العرب غائبون).

لنأخذ سورية مثالاً ثانياً. كان نظام الرئيس حافظ الأسد، كما نظام صدام حسين، يستبعد أي مسؤول لا يرضى عنه هو شخصياً، وكانت خياراته تخضع لاعتبارات داخلية وتوازنات لا علاقة لها بالخارج، أي أنه كان مستقلاً في اختيار من يضمن بقاءه في السلطة، من هنا كانت خلافاته الدائمة، ومصالحاته أحياناً، مع الولايات المتحدة. هذا ما حصل عندما أمر قواته بالدخول إلى لبنان. هو الذي قرر، ولم يكن في السلطة رجل يعترض أو تعترض مرجعيته في هذه الدولة أو تلك. أما الآن فالوضع مختلف تماماً، لأن ممثلي المعارضة خاضعون كلياً لهذا الخارج، ولكل من زعمائها حاضنته، وحين تبدأ المساومات لإعادة تشكيل النظام سيكون لكل دولة رجلها في المراكز الحساسة، وتبدأ الخلافات داخل السلطة الواحدة تبعاً لتأمين مصالح هذه الدول، وليست إسرائيل ببعيدة عن المائدة.

ولربما كان لبنان خير مثال على تشكيل السلطة بناء على التدخلات الخارجية، فبعيداً من العودة إلى تاريخ القناصل في العصر العثماني، وتاريخ القائمقامية وتعيين مسيحي غير لبناني، من رعايا السلطنة، رئيساً لها، يكفي أن ننظر إلى الوضع الراهن: لا تسأل مسؤولاً لبنانياً، نائباً كان أو وزيراً، عن سبب عدم انتخاب رئيس للجمهورية، منذ ما يقارب السنة، إلا ويقول لك جازماً إن عدم التوافق الخارجي يحول دون ذلك.

يطرح هذا الواقع الذي كانت كوارث «الربيع العربي» أوضح تجلياته أسئلة كثيرة ويوجب إعادة النظر في مفاهيم سياسية واجتماعية، ربما كان أهمها ما يتعلق بمفهوم الدولة -الأمة التي انهارت في أكثر من بلد عربي. وفي مفهوم العروبة بحد ذاته، بعدما أثبتت الأحداث أن كل طائفة أمة وكل جماعة داخل الأمة قومية.

 

مصطفى زين

المصدر : الحياة