نار كوباني تحرق تركيا

19

2362136815qpt697

35قتيلاً ومئات الجرحى هي الحصيلة الأولية لقمع تظاهرات التضامن الكردية مع محنة كوباني في المدن التركية. هذه فاتورة عالية بالمعايير التركية، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحرب المديدة بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية متوقفة منذ نحو سنتين، وخاصةً بعد إعلان عبد الله أوجالان «نهاية الكفاح المسلح» لحزبه في 21 آذار/مارس 2013، والبدء بسحب عناصره المسلحة من الأراضي التركية في إطار الحل السلمي بين «الكردستاني» والدولة التركية.
تشير المظاهرات العنيفة لكرد تركيا، احتجاجاً على موقف الحكومة السلبي من حصار كوباني، قبل كل شيء، إلى قوة العصبية القومية الكردية في تركيا التي لم تفقد من زخمها شيئاً على رغم مسار الحل السياسي المتعثر بين الحزب الكردستاني والدولة، ربما بسبب هذا التعثر، أي بسبب مماطلة الطرف التركي وتردده في الوفاء بالتزاماته. ويتحدث بعض المحللين الأتراك والكرد عن خروج هذه الاحتجاجات عن سيطرة الحركة السياسية الكردية في تركيا. لوحظ ارتباك رئيس «حزب الديمقراطية للشعوب» (HDP) صلاح الدين دمرتاش وهو يدعو إلى عدم استهداف العلم التركي وتماثيل مصطفى كمال أتاتورك. كما وجه عبد الله أوجالان نداءً إلى كرد تركيا بعدم الانسياق وراء العنف. بل إن ثلاثة من قادة الحركة السياسية الكردية أطلقوا نداءً مشتركاً لوقف التظاهرات وعدم الانجرار إلى التحريض والاستفزازات من قبل «حزب الله» التركي الذي واجه مظاهرات الكرد بالسواطير والأسلحة النارية.
من جهة أخرى، نجح الكرد في تحويل معركة كوباني إلى قضية الساعة على المستوى الدولي، فضلاً عن كسبهم لمعركة اسم البلدة (كوباني) على المستوى الرمزي. فقد أصبح اسم هذه البلدة الصغيرة المهملة على ألسنة كبار القادة في العالم، واستحق من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون موجةً جديدة من قلقه الشهير. هذا ما دفع ببعض من الرأي العام السوري إلى نوع من الحسد: لماذا لا تثير مجازر النظام السوري بحق المدن والبلدات السورية، ولا جرائم داعش بحق المناطق الخاضعة لقواته الاهتمام السياسي والإعلامي نفسه الذي أثاره حصار كوباني؟
لكنه حسد متكرر، سبق وظهر إزاء الاهتمام العالمي بمحنة الفلسطينيين في قطاع غزة أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليها، وإزاء محنة اليزيديين في جبل شنكال (سنجار) الذين تعرضوا لغزو قوات داعش. إذا كان التعاطف العالمي مع الفلسطينيين مفهوماً بالنظر إلى التسويق الجيد نسبياً للقضية الفلسطينية لدى الرأي العام العالمي طوال عقود، وبالنظر إلى الحروب المتكررة التي تشنها إسرائيل عليهم كل بضع سنوات، كما إلى الكراهية الغربية المكبوتة ضد اليهود ودولتهم العنصرية، فتحويل معركة كوباني إلى قضية تلقى التعاطف بالزخم الذي ظهر به، بحاجة إلى تفسير. 
قبل كل شيء، لم يحظ كرد كوباني بالدعم الذي حظي به كرد إقليم كردستان في مواجهة تقدم قوات داعش باتجاه العاصمة أربيل. بالعكس، حوصرت كوباني من الجهات الأربع، وامتنعت تركيا عن فتح حدودها أمام المتطوعين الذين أرادوا الانضمام إلى القوات المدافعة عنها، ولا سمحت لأطراف ثالثة بإيصال أسلحة أو ذخائر إلى قوات المقاومة. وهذا ما دفع كرد تركيا إلى الشوارع ليهاجموا مقرات الحزب الحاكم أو بعض مؤسسات الدولة. كما لعبت الجاليات الكردية في أوروبا دوراً كبيراً في تسليط الضوء على محنة كوباني، وحشرت الحكومات الغربية في زاوية ضيقة من خلال التأثير على الرأي العام في البلدان الأوروبية.
كان واضحاً أن تركيا لن تساعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي أقام كيانه المسمى بالإدارة الذاتية لصق حدودها. بل إن المناخ السائد في الأوساط الحكومية وقسم من الرأي العام التركي (القومي المتشدد) هو الشماتة بضرب داعش لقوات حماية الشعب الدائرة في الفلك الأوجالاني، والرغبة في سقوط كوباني بوصفها المختبر الحي لفكرة أوجالان بصدد الإدارة الذاتية الكردية في تركيا. ولم يكن من الواقعية في شيء مطالبة أنقرة بتقديم أسلحة نوعية لمقاتلي كوباني أو السماح بتمريرها أو الزج بقوات برية تركية لمواجهة داعش في البلدة المحاصرة. فكل ذلك مما يتعارض مع هواجس الأمن القومي التركي. ولم تنفع زيارة صالح مسلم الخاطفة لاسطنبول في تذليل التناقضات بين الجانبين. فقد طالبه الجانب التركي بشروط تعتبر تعجيزية من وجهة نظر حزب الاتحاد الديموقراطي، أهمها تغيير تموضعه من حليف غير معلن لنظام الأسد إلى عدو صريح.
الواقع أن التيار الأوجالاني، في سوريا وتركيا معاً، حاول استثمار محنة كوباني إلى أقصى حد للضغط على حكومة أنقرة لتوريطها في تعقيدات الأزمة السورية، بصورة متسقة تماماً مع الحرب الأمريكية المعلنة على داعش. الحكومة التركية المنخرطة أصلاً في الصراع الداخلي السوري لمصلحة التيارات الإسلامية، وجدت نفسها فجأةً أمام تحديات غير مسبوقة تطالبها بتحويل الدفة ضد الإسلاميين، ولمصلحة أعدائها المعلنين: نظام الأسد الكيماوي والعمال الكردستاني. هذا ما رفضته أنقرة ووضعت شروطاً لمشاركتها في الحرب الأمريكية على داعش.
ومن زاوية نظر «الكردستاني»، شكلت معركة كوباني فرصة لتسويق نفسه، أمام المجتمع الدولي والولايات المتحدة بخاصة، كالطرف الوحيد المؤهل لمواجهة قوات داعش على الأرض. حتى قبل الحصار الأخير بدأت الأصوات الكردية في تركيا تعلو مطالبةً الحكومة التركية بتزويد مقاتلي الكردستاني في جبل قنديل بالسلاح لمواجهة تقدم داعش في شمال العراق، بالقول إن ذلك من شأنه دفع مسار الحل السلمي للقضية الكردية في تركيا إلى الأمام.
الحسابات الداخلية التركية، إذن، هي الغالبة في مواقف «الكردستاني»، في حين تسعى أنقرة إلى مواجهة الضغوط الأمريكية الهادفة إلى توريطها في حرب خاسرة في جميع الأحوال. فحتى لو حقق التحالف هدفه المعلن بالقضاء على داعش، كان نظام الأسد هو الرابح الأكبر، الأمر الذي يعني انهيار كامل للسياسة التركية في سوريا، وخدمة مجانية للعدو الأساسي في نظر حكومة أنقرة.

٭ كاتب سوري

بكر صدقي