هل كان علينا أن نُهلل لـ «النصرة» في إدلب؟

28

لا شك في أن سوريين كثراً من معارضي نظام الأسد ومن ضحاياه وجدوا أنفسهم في لحظة سقوط مدينة إدلب بيد «جبهة النصرة» وفصائل أخرى حليفة لها، في أصعب اللحظات التي واجهوها منذ بدء الثورة وبعد تحولها حرباً على السوريين. فقد سقط نظام بشار الأسد في المدينة. انسحب منها بعد هزيمة عسكرية، مخلفاً جنوداً قتلى وآخرين أحياء تحت ركام ثُكنهم، لكن ما حل محل النظام هو «جبهة النصرة» أي تنظيم «القاعدة» الذي لا يشتهيه عاقل لبلده.

«جبهة النصرة»، بغربائها وبقيمها وباحتمالاتها، تسيطر الآن على المدينة الثانية الخارجة عن سيطرة النظام في سورية، بعد الرقة التي تسيطر عليها «داعش».

إشارة ياسين الحاج صالح على صفحته في «فايسبوك» إلى ضيقه بمشهد علم «النصرة» في ادلب، في وقت أحرقت أعلام النظام، وأن الأخير هو من خرجت حماه وهي تحمله في تظاهرتها المليونية ضد النظام، هذه الإشارة يجب دفعها أكثر، وان كان من المؤلم أن يجد المرء نفسه أمام تساؤل من نوع: مَنْ أفضل لإدلب، «النصرة» أم النظام؟

ثمة أثمانٌ دُفعت لهزيمة النظام في ادلب. أثمان دفعها السوريون. ثمة أرواح أزهقت وبيوت دُمرت، ونازحون ومُفقرون، ومزارعون فقدوا مواسمهم وتلامذة خارج المدارس. هذه الأثمان دُفعت ليسقط النظام، لكن «النصرة» حلت محله! هذا ما جرى على الأقل، وان كان غير ما تمناه من أطلق الثورة في سورية ومن دفع حياته في سبيلها.

نقاش السوريين مع أنفسهم يجب أن لا يُهمل هذه الحقيقة، ويجب أن يصل التساؤل إلى حدود: هل كان علينا أن نُسقط النظام في ادلب طالما أننا لا نستطيع أن نُحل سلطة مدنية محله؟ لا يفترض هذا التساؤل جواباً قاطعاً بـ «نعم» أو «لا»، خصوصاً أن من وُجه إليهم ليس بيدهم أمر بقاء النظام في المدينة وأمر سقوطه، انما هو سؤال وظيفته استدراج تأمل في هذه اللحظة السورية المستحيلة.

يُستفز كثير من الناشطين السوريين حين تبدأ التساؤلات في أعقاب كل هزيمة للنظام في سورية. تُستحضر البراميل التي تُسقطها طائرات النظام على رؤوس الناس، فيخير المُتسائل بين هذه البراميل وبين سلطة «النصرة» أو «داعش». والحال أن الفارق بين الأمرين غير واضح، ذاك أن عدد ضحايا النظام أكبر من دون شك من عدد ضحايا تلك الجماعات الإرهابية، لكن المقارنة أيضاً تنطوي على تبسيط عبثي، ناهيك عن أن تحويل المقارنة من جوهرها الأخلاقي إلى ممارسة سياسية، يبدو مستحيلاً.

نعم، النظام في سورية يُوظف صعود «داعش» و»النصرة» في دعايته لنفسه، ومن المؤكد أنه يسهل لهذه الجماعات عملها، وكان له دور حاسم في نشأتها وصعودها وتصدرها الفصائل التي تقاتله، لكن من يملك هذه الحقيقة وهذه المعطيات عليه أن ينقلها من مجالها السجالي إلى ممارسة سياسية. ولسنا هنا في مجال جلد النفس وإدانتها، فالسوريون فعلاً هم ضحايا عاجزون عن الفعل في مشهد من هذا النوع، انما على من وجد نفسه أمام مشهد ادلب بعد أن سقط النظام فيها واحتلتها «النصرة»، أن يطرح التساؤل الأول: هل كان علينا أن ندفع هذا الثمن؟ وهنا يجب أن نميز: ذاك أن التساؤل لا يشمل كل سورية، أي أنه لا يُمكن توسيعه بحيث يصير: هل كان على السوريين أن يباشروا ثورة على هذا النظام؟! فالجواب هنا بديهي، وهو أن الثورة بدأت من دون قرار. بدأت لأنه ما كان ممكناً أن لا تبدأ، والسؤال عن ادلب، إذ يطرحه السوريون على أنفسهم، فهو لا يعني أن للنظام مستقبلاً في ادلب يجب التفكير في قبوله أو رفضه. لا مكان للنظام في مستقبل سورية، إلا إذا كان المستقبل حرباً متواصلة، وهذا ما يعرفه النظام حق المعرفة.

«جبهة النصرة» خيار النظام طالما أن لا مستقبل له إلا في الحرب، وبما أن «النصرة» هي السلطة في ادلب فهذا يعني أن الوضع نموذجي بالنسبة إليه. وطالما أن معارضة لا تشبه «النصرة» غير جاهزة للحلول محله في ادلب، فإن الانحياز في المقارنة بين براميله القاتلة وبين سلطة «النصرة» الجائرة والعمياء يبدو عبثياً.

لقد صار واضحاً أن الحرب على النظام في سورية يجب أن تتركز على السعي إلى حرمانه من «أعداء» مثل «داعش» و»النصرة». وقد تبدو هذه المهمة صعبة ومعقدة، لكن العجز الواضح عن الفعل الذي تتخبط فيه المعارضة يفرض مهمات طويلة المدى، طالما أن القدرة على التأثير مستحيلة في الوقت الراهن.

وحين يسأل سوريون عن مسؤولية العالم حيال ما آلت إليه أوضاعهم، بعد التمادي في السكوت عن جرائم النظام وعن تسرب «المجاهدين» إلى بلدهم، فإن ذلك لا يعفيهم من مسؤولية الحسم في الموقف من «النصرة»، وهذا ما لم تفعله قيادة المعارضة في الخارج حين هالها تصنيف «النصرة» إرهابية، وما لم تفعله أيضاً حين أصدرت بياناً خجولاً تدين فيه مجزرة المبعوجة في وقت صدرت مواقف من أعضاء في الإئتلاف المعارض وصفت الضحايا بـ «الشبّيحة».

ومرة أخرى يجب البحث في مسألة الجنود و«الشبيحة»، ذاك أن حجم الدم أزال الفارق بين أن يسعى المرء للتحرر من النظام وبين أن يسعى إلى الانتقام. فمشهد جنود سوريين مستغيثين من تحت الأنقاض في ادلب بعد سقوطها من دون إغاثتهم، في وقت ظهر من دان قتل الأطفال والنساء في المبعوجة لكنه أحل قتل رجال «شبيحة» تم أسرهم من قبل «داعش»، فهذا ما لا تستقيم ثورة في ظله.

ثمة استحقــاقات كثيرة وثقيلة يجب أن يهيء خصوم النـــظام وضحاياه أنفسهم لها في هذه المرحلة. ما جرى في السلمية وما يجري في مخيم اليرموك يُعقد التساؤلات، ويجعل «انتصارات» من وزن «الانتصار» في ادلب مأزقاً أخلاقياً ملوثاً بدماء أبرياء.

 

حازم الامين

المصدر : الحياة