هل هذه فعلاً بداية النهاية للصراع على سوريا؟

19

دخل الاتفاق على ما سمي بوقف «الأعمال العدائية» في سوريا حيز التنفيذ منتصف ليلة 26 فبراير/ شباط. خلال الأيام القليلة التالية، كانت الأوضاع على الأرض تشير إلى تراجع ملموس في حدة الاشتباكات، بالرغم من أن قوات النظام والطائرات الروسية قامت بخرق الاتفاق في أكثر من موقع. قبل ذلك بيوم واحد، بينما كان مجلس الأمن الدولي في طريقه للتصويت على قرار الهدنة المؤقتة، المتفق عليه أميركياً وروسياً، أعلن أكثر من تسعين تنظيما مسلحا، معارضا للنظام، التزامه بالاتفاق. كما أعلن نظام الأسد في دمشق تعهداً مشابهاً.
في الإطار العام للأزمة السوريا باهظة التكاليف، إنسانياً وعلى جميع المستويات الأخرى، يعتبر وقف الأعمال العدائية خطوة كبيرة على طريق التسوية السياسية. ما تأمل به الجهات الداعية للحل السياسي أن يضع الاتفاق حداً لاستهداف المدنيين، أن يوفر ممرات آمنة لإغاثة المناطق المحاصرة، وأن يصنع مناخاً أقل عدائية، يساعد على بدء تفاوض جاد في مباحثات جنيف الثالثة. ولكن أدلة عديدة تشير إلى أن الاتفاق قد يكون فجراً كاذباً، وأن القوى الدافعة لاستمرار الصراع لم تزل فاعلة.
ليس ثمة ما يبعث على الأطمئان بأن اتفاق وقف الأعمال العدائية سيصمد طويلاً. الاتفاق أصلاً ليس مقرراً له الاستمرار أكثر من أسبوعين. وباستثناء مناطق سيطرة تنظيم الدولة وجبهة النصرة، التي تتداخل مع مناطق سيطرة قوى المعارضة الأخرى، التي تسمى الآن بالمعتدلة، من الاتفاق، سيصعب مراقبة ما إن كانت غارات طائرات النظام الطائرات الروسية تستهدف هذه الجهة أو تلك. كما أن مصادر النظام ألمحت إلى استثناء آخر من الهدنة، يتعلق بداريا ومناطق ريف دمشق المحيطة بها.
في حال استهداف هذه المناطق، المحاصرة بصورة بشعة منذ سنوات، سيصعب تصور قدرة مجموعات الثوار على ضبط النفس. أحرزت قوات النظام، والميليشيات الشيعية والكردية التي تقاتل إلى جانبها، مدعومة بالطيران الروسي، تقدماً ملموساً في ريف حلب الشمالي وبعض مناطق ريف حلب الشرقي وريف اللاذقية خلال الشهرين السابقين على إعلان الهدنة. ولكن النظام لم يحكم سيطرته بعد على خطوط الإمداد عبر الحدود التركية، ولم ينجح بعد في حصار حلب؛ إضافة إلى أن قيام تنظيم الدولة بقطع الطريق الرئيسي إلى حلب، قبل أيام من سريان الهدنة، وجه ضربة موجعة لجهود النظام العسكرية في المنطقة الشمالية. وليس من المتوقع أن يلتزم النظام التزاماً جاداً بالهدنة بينما تتأرجح إنجازاته العسكرية الأخيرة في الميزان.
بيد أن هناك مخاطر أخرى تواجه استقرار حالة الهدنة ووقف الأعمال العدائية. فمنذ بداية هذا العام، وبفعل دعم تسليحي ملموس من الولايات المتحدة وروسيا ونظام الأسد، وتنسيق عملياتي مع القوة الجوية الروسية في سوريا، نجحت الميليشيات الكردية في إحراز تقدم عسكري ملموس غرب الفرات، سيما في ريف حلب الشمالي. بهذا، أصبحت الميليشيات في تماس مع تركيا على طول قطاع كبير من الحدود السوريا ـ التركية. ولم تخف تركيا، التي لم تتوقف عن قصف مواقع الميليشيات الكردية طوال عدة أسابيع، أنها لا تعتبر الهدنة ملزمة في التعامل مع هذه الميليشيات، تماماً كما أنها غير ملزمة في الحرب ضد تنظيم الدولة.
في التصنيف التركي، لا تقل الميليشيات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا إرهاباً عن تنظيم الدولة. وبالنظر إلى أن الميليشيات الكردية تخوض حرباً متعددة الجبهات، سواء ضد تنظيم الدولة أو قوى المعارضة السوريا الآخرى، وأنها تعمل جاهدة لتأسيس اتصال بين المناطق الكردية شمالي شرق وغرب سوريا، بأقل تواجد ممكن للسكان العرب في هذه المناطق، فإن معجزة فقط يمكن أن تلزم هذه الميليشيات بالهدنة. إلى جانب ذلك كله، فإن موقف إيران، التي تقاتل قواتها إلى جانب النظام على الأرض، من الهدنة ليس واضحاً.
هذا على المستوى التكتيكي البحت لمصير اتفاق الهدنة. ولكن ثمة ما هو أكثر أهمية وأبعد مدى ودلالة. فمن ناحية، ليس ثمة ما يشير إلى أن هناك أي تقارب محتمل بين تصور قوى المعارضة وتصور الأسد والمجموعة الملتفة حله للحل السياسي. ترى المعارضة أن الحل الوحيد الممكن للصرع المحتدم هو في تشكيل هيئة حكم كاملة الصلاحيات، بدون وجود النظام الحالي وقادته، تقود سوريا إلى حقبة جديدة كلية، بينما يرى الأسد أن المفاوضات ستوفر له فرصة تأمين حكمه واستمراره، بتأييد، أو على الأقل قبول، دولي. ثمة عاملان رئيسيان سيحددان مصير هذا الافتراق في تصوري الطرفين، وما إن كان مستقبل سوريا سيميل نحو تصور هذا الطرف أو ذاك: الأول، ويتعلق بتوافق القوى الدولية؛ والثاني، ويتعلق بالتوازنات العسكري بين النظام وقوى المعارضة.
خلف كل الجدل حول التدخل الروسي المباشر في الأزمة السوريا، يغفل كثيرون العلاقة الوثيقة بين هذه الخطوة الروسية الكبيرة والصراع على أوكرانيا. سوريا، من وجهة النظر الروسية، هي رد أتاحته الظروف على الخسارة المؤلمة في أوكرانيا وورقة مساومة مناسبة على حدود النفوذ الغربي المحتمل في الجوار الروسي اللصيق. وبالرغم من أن لكل تدخل عسكري من نهاية، فلم يزل بإمكان روسيا مواصلة الدور الذي تلعبه في سوريا لعدة شهور أخرى على الأقل. من جهة أخرى، ليس في وارد إدارة أوباما لا التدخل في سوريا، لا ممارسة ضغط ملموس على روسيا لإيقاف تدخلها، ولا المساومة على أوكرانيا. سوريا، بالنسبة لواشنطن، ليست موقعاً استراتيجياً، ولا تمثل تهديداً مباشراً للأمن الأميركي. في الرؤية الاستراتيجية الأميركية الأوسع للشرق الأوسط، طالما استمر التوازن بين المعسكرين الشيعي والسني، ووجدت القوى المحلية ذات الاستعداد لمحاربة تنظيم الدولة، فليس ثمة ما يدعو للتورط في الأزمة السوريا. هذا التباين بين موقفي ودوري واشنطن وموسكو ينعكس بالضرورة على مواقف وأدوار القوى الإقليمية. فالحشد الإيراني لدعم نظام الأسد مستمر، بينما تبدو السياسة التركية والسعودية تجاه الأزمة أكثر ارتباكاً وتردداً.
ليس ثمة ما يشير إلى حسم عسكري ممكن، أو حتى انقلاب مفاجيء في ميزان القوى العسكري. يلعب الخلل في الموقفين الدولي والإقليمي دوراً هاماً، بالطبع، في الحفاظ على خطوط النظام العسكرية، بل ونجاحه، وحلفاؤه، في تحقيق بعض المكاسب مؤخراً. ولكن المسألة الأهم، في الحقيقة، المسألة التي شابت قوى الثورة السوريا طوال الأعوام القليلة الماضية، هي حالة التشظي واسعة النطاق في معسكر المعارضة العسكرية. كان من المفهوم، بالتأكيد، أن تتعدد الجماعات المسلحة المناهضة للنظام في 2012 و2013؛ إذ لم يكن الذهاب للسلاح خياراً مركزياً للثورة، بل رد فعل محليا في أغلب الحالات على بطش النظام وعنفه الوحشي ضد الشعب وانتفاضته السلمية. ولكن إخفاق الجماعات المسلحة في تشكيل إطار موحد، بالرغم من بعض الجهود التي بذلت بهذا الشأن، شكل، ولم يزل، قصوراً بالغاً في أداء قوى الثورة. وبتحول الثورة إلى ما يشبه حركة التحرر الوطني ضد نظام متواطيء مع احتلال أجنبي، أصبح هذا القصور أكثر فداحة. كيف يمكن لأكثر من تسعين جماعة مسلحة الانتصار في حرب ضد نظام يقود أقلية متماسكة، تسنده جبهة إيرانية، مسكونة بهيستيريا طائفية، وقوة دولية لا يستهان بإمكاناتها العسكرية؟ ولا يقل خطراً أن هذا التشظي ترك هامشاً لا يستهان به لتواجد ونمو وانتشار جماعة الدولة.
في ظل خلل كهذا في المواقف الدولية والإقليمية، وتراجع الضغوط العسكرية على الأرض، معجزة فقط ستحول أسبوعين من وقف الاعمال العدائية إلى هدنة جدية، أو تدفع النظام إلى المفاوضات لإيجاد حل مقبول من عموم الشعب وقوى المعارضة.
إن كان ثمة من يقين، فلابد أن الصراع على سوريا مرشح للاستمرار. ولكن هذه لم تعد ثورة ضد نظام طاغية مستبد وحسب، بل ونضال تحرر وطني ضد قوى محتلة. وفي النهاية، ومهما طال هذا الصراع، سيذهب من وفدوا إلى سوريا من بعيد كما جاءوا، ولن يتبقى إلا أصحاب البلاد والأرض، سوريين، أتراكاً، وعرباً.

٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

د. بشير موسى نافع