هل يفتدي أوباما الأسد برأس داعش؟

16

48677853392017966_____________

ما زال الرئيس أوباما يتخبط بين أساليب الدبلوماسيات الإستعراضية. فالرجل لا يدعي أنه صانع استراتيجيات كلية حول أية بؤرة حارة من تعدد الصراعات الدولية. وإذ وجد نفسه أخيراً غارقاً حتى أذنيه في مستنقعات «الشرق الأوسط» فإنه يظل عائماً فوق سطوح المشكلات دون الغوص إلى جذورها. فالرجل ليس مهموماً ولا مهتماً بإنتاج ما يوصف عادة بالحلول الجذرية للمشكلات الدولية. وربما يستهويه الإكتفاء برقابة بعضها وإدارة بعض منحنياتها الطارئة. طبيعة الرجل الأكاديمية تؤهله لمثل هذه السلوكية الهادئة ظاهرياً وإن لم تكن هكذا تطبيقياً دائماً. فالرئيس الأسمر الأول للبيت الأبيض لا يريد أن يكلف نفسه أو إدارته فوق ما في وسعهما وهو حريص على إبقاء سمعته الأصلية كرجل سلام، من ما قبل الرئاسة وإلى ما بعدها. لن يشعل حروباً جديدة خلال ولايته، وإن لم يستطع أن يكون الإطفائي الحاسم في إنهائها كلها. هذه الصورة النموذجية عن مواصفات «الحكم الرشيد» لم تستطع أن تدفع عن أوباما مويجات من النقد، وحتى من التجريح، التي تناولته عبر أدائه المتعثر لقضايا دولية شعبية، وعلى رأسها ثورات الربيع العربي، ومحنة الشعب السوري مع جلاديه بصورة خاصة.
هذه المحنة غير المسبوقة في تاريخ الإنسانية تخطى تأثيرها الأخلاقي والإعلامي حدودها المحلية والإقليمية، أمست موقفاً وجدانياً عمومياً تشاركت في الإفصاح عنه نخب المجتمعات ومعظم قواعدها البشرية مشرقاً ومغرباً. هنالك نوع من رأي عام عالمي دأب على النقلة الفورية من إدانة النظام الجزّار في دمشق نحو توجيه المسؤولية إلى الفاعلين الدوليين لأسبابها وظروفها، والممتنعين والمانعين لتوقفها. إنها موجات لا تكف عن الصعود وحتى عن التجريح المباشر لشخص الرئيس الأمريكي من داخل بيئته السياسية، ومن أوسع دائرة إعلامية وبحثية في أنحاء الولايات المتحدة. فكل الاعتراضات والانتقادات اللاذعة التي يجمع الكثير من عرب الوطن والمهجر، لم تعد صيحات فارغة في الهواء. ولعل أوباما قد استحق هذه الحالة، فحاول التخفيف من نتائجها المدمرة على مستقبل حزبه الديمقراطي. هاهو إذن يعود صاغراً إلى كل ما كان يرفضه في سياسة بوش الابن. غير أنه يحاول ما أمكنه أن يضفي على سلوكه (الحربي) الجديد كلَّ أساليب الدبلوماسية الناعمة أو الذكية، متجنباً في الدرجة الأولى، أن تتلبسّه صورة القائد الروماني الفاتح على طريقة سلفه بوش. لن يضع خوذة حديدية فوق رأسه، كما أنه لا يريد لأمريكا في عهده أن تُوصَم من جديد أنها عدوة الإسلام والعرب. وإذاكانت طائراته في الحرب الحالية، هي التي تحدد الهدف وتوزع المهمات على الطائرات الأخرى العربية المشاركة، فإنه يعتقد أن مسرحة مشاهد الغارات قد تغطي على حقائق التبعيات والعلاقات الرأسية بين أمريكا وكل من يشارك في استراتيجيتها طوعاً أو قسراً عنه.
يلجأ أوباما إلى الحلول العسكرية وإن بأساليب دبلوماسية. كأنه يريد أن يبرهن على عكس مقولة منتقديه، أنه ليس رئيساً ضعيفاً، وأنه يمكنه أن يحفظ مصالح أمريكا بقوة الفكر، وليس بقوة السلاح. لكن حصاد تجاربه مع هذا المذهب لم تأت نتائجها كما اشتهت مقدماتها النظرية.. ومن هنا فإن معسكرات المنتقدين سيضاعفون من مواقفهم السلبية تجاه خطة أوباما رغم محاولة التقليل من تكاليفها التقليدية الباهظة التي كانت أنهكت الاقتصاد الأمريكي، وكادت أن تجبره على إعلان إفلاس الدولة، لولا التريليونات النفطية العربية التي ضُخَّت بكرم لا حدود له في الميزانيات الأمريكية الفارغة، وفي أجواء عجيبة من الخفاء والسرية التامة. مع العلم أن مبلغ تريليون واحد وما هو أقل منه بكثير كان يمكن به إعادة معظم الفلسطينيين إلى أملاكهم المسروقة من شذاذ الآفاق الصهاينة.
فالعطب ليس فيما يفعله فقط رئيس الدولة العظمى إزاء أخطر المحن الشرق أوسطية. لكنه هو العطب الراسب في أساس هذه المحنة. كأنما كل السياسة الإقليمية والدولية التي توالت فصولها بعد لحظة التأسيس، كانت لها مهمة واحدة هي إخفاء أصول النكبات العربية، فانفجار ظاهرة الإرهاب كان نتاجاً موضوعياً لانسداد طرق السياسة المدنية أمام تيارات التغيير. فخلال عمر النهضة العربية المعاصرة لم يكن، دولياً، ورجعياً عربياً، مسموحاً أبداً، بانطلاق أية ظاهرة جديدة تنبئ عن ممارسة حرة وحقيقية للجماهير العربية. لم يكن القمع سياسياً فحسب. كان قمعاً منظماً لمولد إرادة الحرية لدى قواعدها الشعبية والمجتمعية، كانت هي النهضة السوية، الممنوعة الكبرى في مختلف تحركات النخب سواء منها الحاكمة أو المحكومة. وقد كان الخطأ المتمادي لدى مختلف التيارات «الثورية» القديمة هو حصر وانحصار نشاطاتها في المجال السياسي اليومي وحده وإهمال أو إغفال الإهتمام بقضايا التنمية الإنسانية والمجتمعية الجدية.
بالمقابل كان الغرب يفتعل أسباب الحروب المحلية كلما فشلت مخططاته السرية في استئصال بوادر لحريات شعبية صاعدة في هذا القطر العربي أو ذاك.
أما فيما يتعلق بتناقضات منتظرة ستشوب مسيرة الحرب العالمية الأمريكية الراهنة، فإن أي خبير عسكري محايد يمكنه أن يطرح هذا السؤال: ألم يكن في مرحلة ما من الأسهل على أوباما وحده أو مع حلفائه أن يقوّض نظام دمشق دونما هذا الانتظار الغبيّ أو المقصود ، لصعود إرهابية داعش وأخواتها، وإحالة المشرق إلى بؤر للقتل والدمار العبثي. هل كان الغرب عامة في حاجة إلى قيادة حرب عالمية أخرى لاستيعاب الإرهاب اللاوطني، بدلاً من تحطم نواته ووكره الأول في الحصن الأسدي.
لكن يسعى أوباما إلى تبييض صفحة أخيرة فارغة في كتاب ولايته المشؤومة. يريد قطع رأس الإرهاب من عنق كبيره داعش، كأنما صار الرئيس الأعظم للإمبراطورية العظمى مشرِّعاً بطريقة ما لمنهجية استئصال الرؤوس.
نحن نقول لأوباما أننا لن نصدق مشروعك الجديد. لن تخدعنا عبقريات (العلاقات العامة) في إعداد وإخراج وتنفيذ هذه الأكذوبة الكبرى مرة أخرى.
نعلم منذ الآن أنك لن تحزن أو تندم عندما سوف تضطر قريباً إلى استعراض أمام العالم قرارَك في اختتام هذه الحرب. فأنت الذي أعددتها، وأنت الذي يحق لك أن تلغيها. وأما الرأي العام العالمي فلن يثير لديك أية رغبة حقيقية في إمكانية إقناعه. هنالك عِدّة أخرى من إجراءات الإعلام الدبلوماسي المعولم، ستتكفل بتلافي أية ردود فعل غير ملائمة وطنياً ودولياً على تصرفاتك. هذه الحرب يجمع الكثيرون من خبراء أمريكا وأوربا نفسها على عدم جدواها، إذ أنها إنْ قضت على بؤرة إرهاب داعشية، فلن تقطع الطريق على تتابع نسلها المشؤوم تحت عناوين أشد هولاً وعنفاً من أصولها عينها. لن تأتي نتائج هذه الحرب بحلول سحرية لواقع شعبوي عارم، يكاد يخترق كل حواجز المنع والإعاقة والمكافحة، مالم تولد الإستراتيجية الحقيقية التي تحاول الإجابة العملية عن سؤال: لماذا كان الإرهاب أصلاً؟
كأنما أوباما، وقسراً عنه، سيعطى دليلاً مادياً حاسماً على عقم مذاهب الحروب الأهلية وأشباهها العالمية. لن يجدي التغيير في الموضوع إن لم يرتد إلى الذات أولاً. لن يتغير الواقع الشعبوي العربي إن لم تتغير أمريكا نفسها أولاٍ. هذه الحقيقة شبه المستحيلة لن يصعب تصديقها بعد الآن وذلك له حديث آخر..

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي