هل يقدم النموذج الإيراني غير الميليشيات!

33

لو عُدت حرب الخليج الثانية عام 1991 الحدث التأسيسي لانطلاق النفوذ الإيراني الإقليمي، فإنه يكون قد مرّ على هذا المشروع/النفوذ قرابة ثلاثة عقود، المدة التي تساوي تقريبا سنوات نفوذ مختلف دول الاستعمار الأوروبي في منطقتنا.

كانت حرب الخليج الثانية قد وضعت نهاية لمشروع العروبة العسكرية، الذي كان زعيمه صدام حسين يعتبره الخندق الأول في موجهة إيران وتطلعاتها للهيمنة. كما أن تلك الحرب أثبتت هشاشة البنيان الداخلي لدول الخليج العربي، وعدم قُدرتها على حمايتها أمنها الجيوسياسي دون مظلة القوى الدولية، بالذات الولايات المُتحدة.

في مستويات نظيرة، فإن تلك الحرب أنهت حرب لبنان الطويلة لصالح إيران، وأسست لنفوذ إيراني دائم في المسألة الفلسطيني، عبر جبهة الرفض الفلسطيني لـ “اتفاقية أوسلو”، المتمثلة بحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.

تمتن ذلك النفوذ عبر سلسلة من حلقات الأحداث الإقليمية اللاحقة، التي جاءت كلها لصالح إيران، من تعثر عملية السلام العربية الإسرائيلية، مرورا بتضعضع قدرات النظام السوري الإقليمية، ووراثة إيران لتلك الأدوات والقدرات، وحربي الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وتحول الربيع العربي إلى أشكال مقنعة من الحروب الأهلية الداخلية.

أنتج التوجه الإيراني مواجهات اجتماعية وحروبا أهلية شديدة القسوة

لكن، وطوال هذه السنوات الكثيرة، لم يُنتج هذا النفوذ الإيراني إلا أشكالا منوعة من الميليشيات المسلحة، التي كانت على شكل خرسانات من القوة المسلحة، الخارجة عن سلطة الدولة والقانون العام، والمستميتة في سبيل الهيمنة العنيفة على بُنى هذه الدول وحساسيات مجتمعاتها الداخلية والإطاحة بتوازناتها الأهلية.

منتجات الهيمنة الإيرانية، لو قورنت بمنجزات عقود هيمنة المستعمرين الأوروبيين، التي ساوت تقريبا سنوات الهيمنة الإيرانية هذه، فإن هناك فارقا جوهريا سيظهر للعيان.

فالمستعمرون الأوروبيون، وبالرغم من أشكال الهيمنة الرمزية والسياسية والعسكرية التي مارسوها في هذه البلدان، إلا أنهم أنتجوا في هذه البلدان، ولصالح مجتمعاتها، كمية هائلة من المنجزات الإنسانية والاقتصادية والسياسية والمؤسساتية الرديفة لشكل الهيمنة، من دساتير وأشكال حُكم مدنية ومؤسسات خدمية وقطاعات تعليمية حديثة، إلى جانب أنماط التخطيط الاقتصادي والإداري والثقافي شديدة الحداثة.

لأجل ذلك، فإن ثورات التحرر من النفوذ الإيراني، في سوريا ولبنان والعراق، وحتى في إيران نفسها، ستكون حالة مواجهة محضة مع هذه الميليشيات، التي فيما لو انهزمت في لحظة ما، فإن هذه المناطق ستتعايش طويلا مع تراث وأثر تلك المليشيات على مجتمعاتها، وستكتشف فواتا تاريخا مريعا، أحدثه هذا النفوذ الإيراني، الذي حكر طاقة الهيمنة الاقتصادية والسياسية العليا في هذه المناطق على ديناميكية واحدة دون غيرها، إنتاج الميليشيات.

♦♦♦

طوال تلك السنوات، جربت السطوة الإيرانية أشكالا مختلفة من المشاريع الأيديولوجية والسياسية والخطابية، التي كانت تعتقد بأنها ستُجلب الشرعية لنفوذها الإقليمي، إلى جانب السطوة الميليشيوية. لكن جميع تلك المشاريع، كانت تظهر على الدوام وكأنها أقنعة شديدة الرقة والزيف، للنواة الصلبة للمشروع الإيراني، المتمثلة بالعقيدة الميليشياوية.

فقد جربت إيران أن تكون مصدر إلهام لمشروع “الإسلام السياسي”، وأن تكون نموذج اقتداء لمختلف التنظيمات الإسلامية في المنطقة، من المغرب إلى تركيا، مرورا بمصر ودول الخليج العربي. وأن تكون تلك التنظيمات ركائز نفوذها السياسي في تلك الدول.

لم يُنتج هذا النفوذ الإيراني إلا أشكالا منوعة من الميليشيات المسلحة

لكن ذلك التوجه الإيراني سقط لأسباب مركبة، متعلقة أولا بالتوازنات الداخلية في هذه الدول، التي ما نجحت فيها تجربة واحدة مُقلدة لما جرى في إيران عقب الانقلاب على نظام الشاه، وبالتالي خسرت إيران سحر مفهوم “تصدير الثورة”، الذي لم يُجلب لها إلا حربا طويلة مع عراق صدام حسين.

كذلك حاولت إيران الإيحاء بأن مشروعها الأساس هو خلق استقطاب إقليمي مواجه لأنماط الهيمنة الدولية على دول المنطقة. مستعيرة كامل قاموس القومية الناصرية، وإن بثوب يمزج الإسلام السياسي بيسارية نضالية عالمية.

هذا المشروع الإيراني كان قد ترنح تحت وطأة فارق القوة الرهيب بين إيران والقوى الدولية، التي كانت تتمكن من الإطاحة بالاقتصاد الإيراني بمجرد فرض بعض العقوبات الاقتصادية على المؤسسات المالية الإيرانية. ولم تتمكن سوى من جذب بعض اليساريين المحنطين، الذين كانوا فقط عاطلين عن العمل، يبحثون عن أية فرصة للظهور.

لكن نزعة “المقاومة العالمية” الإيرانية كانت كل مرة تكشف أشكالا من الكاريكاتورية الرثة. فهي كانت تسعى لأن تجمع بين قوى إقليمية وعالمية شديدة الاهتراء، مثل سوريا وليبيا وفنزويلا وكوريا الشمالية، لا يجمع بينها إلا شيء واحد، متمثل باستخدام فيض طافح من خطابية تلك “المقاومة العالمية”، لتكون قناعا لإيغالها في قمع تطلعات مجتمعاتها الداخلية، وأن تكون في نفس الوقت على وفاق تام وغير مُعلن مع نفس القوى الدولية.

المواجهة الراهنة هي الأكثر وضوحا ومباشرة، وبالتالي هي الأكثر قسوة

خلال تلك السنوات أيضا، جربت إيران تشييد نزعة سياسية تمزج بين الطائفية ونموذج “تحالف الأقليات”. فهي من طرف كانت تدعم نمو النزعة الطائفية سياسيا لدى أبناء الجماعات والطوائف غير السُنية في المنطقة، وتعزز خلق شرخ شاقولي في دواخل هذه الدول، بين أبناء تلك الجماعات ونظرائهم من أبناء الجماعة السُنية.

شغل ذلك التوجه الإيراني طورا رهيبا من تاريخ منطقتنا، أنتج مواجهات اجتماعية وحروبا أهلية شديدة القسوة، إلى أن طفحت مجتمعات المنطقة بتلك الحروب والمواجهات المزيفة، التي ما كانت تجلب لها إلا الويلات والمزيد من تدهور أحوال كافة طبقات ومكونات هذه المجتمعات.

♦♦♦

في المحصلة، أثبتت جميع التجارب ومحاولات الهيمنة التي استخدمها النظام الإيرانية في مختلف دول المنطقة، بأنها مجرد إنتاج بائس للتنظيمات الميليشياوية، وإن كانت في بعض الأحيان على شكل أنظمة حكم راسخة.

فالنموذج الإيراني في المحصلة كان ديناميكية لاستحواذ واحتكار السلطة فحسب، في الداخل والمحيط الإقليمي، من دون أية مضامين أيديولوجية أو إغراءات سياسية أو رؤية اقتصادية، تلك الديناميكيات التي كانت السلطوية الإيرانية تراها على الدوام خطرا على سلطويتها المطلقة، لأنها كانت تخلق هوامش مقاومة داخلية، مجتمعية واقتصادية وثقافية لسطوة الهيمنة الإيرانية.

لأجل ذلك، فإن وجه التحدي الأبرز في المنطقة هو بين كافة حوامل الحداثة السياسية والاقتصادية والثقافية لمجتمعات المنطقة، وبين مختلف مُنتجات القوى المليشياوية، في نفس تلك المستويات. لذا فإن المواجهة الراهنة هي الأكثر وضوحا ومباشرة، وبالتالي هي الأكثر قسوة، لأنها بالضبط انتفاض كل شيء في وجه اللاشيء، ـ عالم الميليشيات.

الكاتب رستم محمود