12 عاماً على انطلاق الثورة السورية والشعب السوري لايزال ضحية القتل والتهجير والتشريد والتدخل الأجنبي والتناحر السياسي والعسكري

98

منذ تأسيسه قبل انطلاق الثورة السورية، انبرى المرصد السوري لحقوق الإنسان لكشف جميع أوجه المعاناة التي أصابت الشعب السوري وفضح الجرائم التي ترتكب في حقّ الإنسان سياسيا واقتصاديا ومعيشيا وذلك انطلاقا من دوره الحقوقي وواجبه الإنساني في الدفاع عن كرامة الإنسان تجسيدا وإيمانا بكل المواثيق الدولية ذات العلاقة بالكرامة الإنسانية.

برغم مرور 12 عاما على اندلاع أول شرارة للثورة السورية، ووقوف ولو تدريجيا آلة القتل والحرب الميدانية التي أدّت إلى مقتل الآلاف وتهجير الملايين من بيوتهم بعد إسقاطها أو الاستيلاء عليها أو هروب أصحابها خوفا من استهدافهم، إلاّ انّ النزاع لازال في أوجه من ناحية انعدام الأمن العام والانقسام بين مختلف المحافظات وعدم النجاح في التوصّل إلى حلّ سياسي تتفق حوله مختلف الأطراف المتصارعة، وقد ظّلت الاتهامات متداولة بين النظام والمعارضة المنقسمة بدورها إلى معارضة وطنية في الداخل والخارج وأخرى مسلحة فضّلت آلة الحرب على حلول أخرى.

كانت حصيلة النزاع ثقيلة جدا على السوريين الذين توزعوا بين مختلف الدول الإقليمية والغربية هاربين من الموت الذي يلاحقهم في كل شبر من بلادهم، تلك الحصيلة التي كلّفت الشعب عقدا من الألم والفراق والجوع والبرد والحرّ والتشرد والاستغلال، حصيلة كلّفت جيلا كاملا أفضل فترات العمر حيث ترعرع بين أصوات المدافع والطائرات وأصوات سيارات الإسعافات، ففي كل بيت جنازة، إما أخ أو أب أو زوج أو ابن، في ثورة تحوّلت إلى أعنف صراعات القرن الحالي، وفق الأمم المتحدة.

في هذه الفترة العصيبة من تاريخ سورية، حاولت المعارضة الوطنية عقد اللقاءات وتنظيم المؤتمرات مع من تسميهم بأصدقاء سورية من أجل تنفيذ الاتفاقيات والقرارات الدولية، في ظل وجود اتّهامات لأطراف بعينها باتخاذ تلك المؤتمرات مطيّة للتجارة بمعاناة الشعب المكلوم ووضعه المأساوي، وبرغم ذلك وفي خضم هذه الأوضاع ظلت الأصوات الحرّة والمواقف الشريفة الحريصة على وحدة سورية وشعبها وأرضها مرتفعة لاتعرف اليأس.

المرصد السوري لحقوق الإنسان وانطلاقاً من دوره كمؤسسة حقوقية تعنى بالشأن السوري، وثّق مقتل واستشهاد (بالأسماء) 503056 شخص منذ انطلاقة الثورة السورية في 2011 من أصل ما لا يقل عن 613399 آلاف تأكد المرصد السوري من مقتلهم على مدار 12 عاماً.

ارتفاع غير مسبوق في نسب الفقر
نتيجة لاستمرار الصراع سجّلت نسب الفقر في سورية ارتفاعا غير مسبوق منذ بداية الثورة حيث يعيش أكثر من تسعين بالمائة من السكان في حالة فقر مدقع وقد أعاق ذلك توفير أبسط الاحتياجات اليومية والأساسية من أكل وملبس وشرب وعلاج سيما مع الارتفاع المخيف والمجحف للأسعار مع استغلال تجّار الحرب الوضع لمزيد النهب وتوفير الربح السريع على حساب المحتاجين والجائعين والبائسين.

ويواجه الشعب السوري مستويات قياسية من الجوع والخصاصة في ظل انعدام الأمن الغذائي حيث نصف سكان البلاد في حالة خطر ، وماعمّق الأزمة أيضا صعوبة وصول منظمات الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلى مختلف المناطق المحاصرة، ويُتهم المجتمع الدولي بالفشل في حماية السوريين من الجوع في وقت يحتاج نحو 14.6 مليون شخص داخل سورية -نصفهم من الأطفال- إلى مساعدات إنسانية، وهو الرقم الأعلى منذ بدء النزاع في مارس/ آذار 2011.
هذه الظروف الصعبة التي حوّلت سورية إلى أفقر دول العالم بنسبة 82.5 بالمائة ، دفعت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مرارا إلى إطلاق صيحات فزع، مؤكّدا أن الملايين من السوريين يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة،في معاناة هائلة للسكان المدنيين الذين تعرّضوا إلى انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان..

بات حلم السوري اليوم توفير لقمة العيش في وضع لا يتعدى الدولار الواحد في اليوم لعائلة كاملة، وهو ما يتناقض مع المعايير الدولية لتغذية سليمة للحفاظ على الحياة..

صور مؤلمة تجسّد الحاضر السوري ، وسط انتظار المساعي الاقليمية والغربية لتخفيف حدّة الأزمة والمعاناة عن السوريين، ووضع حدّ لعقوبات لم تؤثر على النظام بل غذّته في حين أوقعت شعبا بأكمله في قلب الجوع والخصاصة.

نساء يعانين
وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان (بالأسماء)، مقتل 15437 امرأة منذ عام 2011، ويجب التذكير بأنّ عدد المعتقلات مع المغيبات في سجون النظام بلغ 280416.

ولم تحظ السوريات بالاهتمام الكافي مقارنة بنوعية التجاوزات التي عاشتها والقتل والتنكيل والحرمان وهي ممارسات ترتقي إلى جرائم حرب ضد الإنسانية، وللأسف لايزال هناك من ينظر إلى معاناتهن كأمر عادي وجرح يمكن لملمته وتجاوزه، ولم يولِ لهن المجتمع الدولي ربع اهتمامه بغيرهن في بلد مستقر.

وتواجه السوريات مآسي اجتماعية بعد فقدان المعيل وخروجهن إلى سوق الشغل حيث يواجهن الاستغلال الاقتصادي والجنسي والاجتماعي من قبل المشغِّل فضلا عن الأزمات النفسية جراء الانتهاكات المستمرة لتطويعهن.
ولا ننسى أن نشير إلى صعوبة الوصول إلى الكثير من النساء اللواتي يعشن الاضطهاد نتيجة لجوء أطراف الصراع بمختلف شقوقها إلى ترهيب النشطاء والجمعيات النسوية والمنظمات الحقوقية للحيلولة دون رصد تلك الانتهاكات وفضحها أمام العالم، وهو وضع ضاعف من مآسيهن وطرق ابتزازهن واستغلالهن.

كما لا يمكن التغاضي عن دور النساء في الثورة السورية حين نزلن إلى الشوارع مطالبات بعيش كريم وعمل يليق بهن ويحفظ كرامتهن، وكنّ في الصفوف الأمامية في ساحات النضال وتحمّلن مسؤولية مواقفهن وأرائهن حيث واجهن الاعتقال والخطف والتخويف والتعذيب لكنهنّ لم يخشين السلطة بقوتها وتحدّين التنظيمات المسلحة بعنفها وإرهابها، وكابدن من أجل سورية أفضل وغد مشرق لشعبها بتشريعات وقوانين تتماشى والمواثيق الدولية ، وكنّ على إدراك بأن ثمن ذلك لا بد أن يكون باهضا ..

أطفال بلا هوية ولا وطن
كان الأطفال هم الضحايا الأبرز والأكبر للحرب السورية التي خلقت جيلا متعبا نفسيا وجسديا وصحّيا عاش الحرمان والخصاصة بطرق مضاعفة وتحمّل أعباءً مضاعفة وتربّى عقدا من الزمن وفي أذنه قصف وفي مخيلته موت ودم ودمار ، وكان هؤلاء البراعم ضحايا السلاح بكل أنواعه في سورية الذي أوجد لإسكات صوت الحقّ .

ولعلّ المعاناة الأكبر طالت الأطفال الذين انتزعت منهم طفولتهم وغادر أغلبهم المدارس في مناطق القتال وظلّوا تحت الرعب والخصاصة والتشرّد في مخيمات النزوح في حين أجبر كثيرون على القيام بأشغال شاقة لمساعدة أهاليهم فيما تمّ تجنيد البعض منهم من قبل تنظيمات متطرفة، وقد حذّرت المنظمات الدولية من استمرار استغلال اليافعين واليافعات من قبل المسلحين من الطرفين واستغلالهم كجواسيس ومخبرين ولصوص.

تدخلات إقليمية
إنّ أكثر ما أدى إلى تعقيد المأساة السورية وتشعب الصراع وتقسيم البلاد وتشتيت أبنائها، تلك التدخلات الإقليمية والغربية التي عمّقت النزاع وجعلت من سورية دويلات، كل منطقة تحكمها أطراف خارجية بمعية ميليشيات عميلة.. قوى الاحتلال هذه جاءت طمعا في ثروات وتنفيذا لأهداف ومخططات تتنافى والمصالح السورية الداخلية بل تتعارض معها، حيث جاء كل طرف بغطاء معين وبات اليوم إخراج تلك القوى أمرا ليس بالسهل، خاصة في ظل غياب بوادر للحل برغم القرارات الدولية المعلنة منذ سنوات والمتفق عليها والتي تشكلت على ضوئها هياكل ولجان تجمع بين النظام، والمعارضة سواء تلك التي تنشط داخل سورية أو التي تتموقع في دول أجنبية على غرار تركيا.

يتخوف الشعب السوري اليوم من سيناريوهات المصالح وتقاسمها التي يفترض أن تطالب بها كل دولة محتلة تمركزت سنوات وسقط جنودها قتلى في الصراع ، فخروجها وفق تكتيك سياسي محبك لن يكون مجانيا ودون مقابل، وإن كان جميعها اليوم يتشدق بتحرير سورية من الإرهاب وبسط الاستقرار وتكوين سلطة موحدة لا سلطات في مناطق مختلفة.

تلك الدول التي جاءت إمّا لمنع النظام من السقوط على غرار روسيا أو لدعم المعارضة على غرار تركيا أو بتعلة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية على غرار واشنطن لن تكون مغادرتها بتلك البساطة برغم المطالبات السورية التي ترى في إجلاء القوات الأجنبية خطوة حقيقية نحو فرض الحل السياسي وتنفيذ القرارات الدولية المعلقة.

ويؤمن الشعب السوري -كأيّ شعب في العالم – بأنّه لا يمكن بناء وطن ديمقراطي تعددي في واقع التدخلات الأجنبية، برغم أن الانقسام الداخلي الذي عاشته سورية إبان الثورة قد ساهم في استجلاب تلك القوى الخارجية التي وجدت بيئة مواتية للتغلغل بفعل الخلافات السياسية والمذهبية والقومية لتوسع نفوذها وتتمركز بشكل مستقر ومستمر.

قرارات باهتة
برغم القرارات الأممية التي رحّب بها السوريون واعتبرت خطوة أولية نحو حلحلة الأزمة السورية وفرض الحلول وبناء الدولة التي يحلم بها الجميع، إلا أنها كانت سببا في عديد الأزمات خاصة أن القرارات خلقت هياكل وهيئات كانت مطرح نزاع سياسي وتفتت وصراع بلغ حدّ التهديدات من قبل مختلف الأطراف من نظام ومعارضة بالانسحاب، وكان القرار 2254 الذي تضمن عددا من البنود، معتمدا بيان جنيف وبيانات فيينا الخاصة بسورية، باعتبارها الأرضية الأساسية لتحقيق عملية الانتقال السياسي بهدف إنهاء الصراع في سورية، لكن يبدو أن الحلّ لم يرُق للجهات المنخرطة في هذا الصراع كالنظام وحلفائه الذين رفضوا الالتزام به إلى اليوم دون تقديم أسباب ذلك باستثناء الانخراط مع المعارضة في اللجنة الدستورية التي كلّفت منذ عامين تقريبا بكتابة دستور جديد لكنها لم تفلح في ذلك إلى حين كتابة هذه الأسطر، بل تخللت كل أعمالها العراقيل والصعوبات حتى في طريقة عملها، في حين يستمر طرفَا الصراع من النظام والمعارضة في تبادل التهم بالتعطيل.

مطالبات المرصد السوري
بناءً على هذه المآسي يجدّد المرصد السوري مطالباته بالعودة إلى الحوار من أجل الدفع بالقرارات الدولية أو وضع استراتيجيا أخرى بالتعاون مع كل الأطراف من أجل الحل السياسي الذي أتعب غيابُه الشعب السوري وزاد من معاناته وجوعه، ويدعو إلى تغليب مصلحة الشعب سواء في المخيمات أو بلدان اللجوء أو في مناطقه وهو يعيش تحت وطأة الفقر والظلم والقهر، ويذكّر المرصد بأن مأساة الزلزال قد عرّت حقيقة الأوضاع في الشمال السوري المحاصر الذي لا يتنفس إلا من خلال معبر واحد لتمرير المساعدات الانسانية والاغاثية والذي تسعى روسيا عبر حق الفيتو إلى المتاجرة به لصالح النظام واستغلاله لتطويع المحتاجين.

وينبّه المرصد من سياسة التنكيل بالانسان في كرامته وقوته ومواقفه مهما كانت، ويشدد على أن المواقف سواء المساندة أو المعارضة تخص صاحبها فقط، ويجب ألاّ تمس حياة الناس وكرامتهم ومعيشتهم وطموحهم في بلد يبحث أهله عن الحرية والعيش بكرامة.

ويؤكد المرصد السوري أنّ استمرار آلة الاعتقال والتغييب القسري أمر مخزٍ ومخيف، داعيا المنظمات الدولية إلى دعم السوريين واقعيا، لا عبر البيانات أو الاكتفاء بمجرد التنديد، ويعول المرصد على وعي السوريين في الخارج لإيصال معاناة أبناء شعبهم دون مونتاج لكسب الدعم الانساني الخارجي لشعب نُكّل به لمجرد مطالبته بالحرية والعيش بكرامة.

ويعبّر المرصد عن أسفه العميق إزاء استمرار حالة اللامبالاة وتغليب المصلحة الأنانية من قبل الدول الكبرى والأنظمة الاقليمية في التعامل مع مأساة شعب هو جزء من الإنسانية وقد مر على الثورة 12 عاما حصادها مرّ من الفواجع والقتل والتشريد والجوع ويبدو أن المجتمع الدولي يتلذذ بمعاناة الأطفال وبكاء الثكالى،وكأن ما يجري هو خارج الكوكب الأرضي!

ونجدد – في المرصد السوري- التزامنا الثابت بالمثابرة على الدفاع عن حقوق الإنسان التي تنصّ عليها الاتفاقيات الدولية والتي تسعى الأمم المتحدة عبر وكالاتها المتعددة إلى صيانتها وتكريسها في العقول وعلى أرض الواقع.
كما نؤكد تمسكنا بالدفاع عن وحدة بلدنا وسيادته، ونجدّد رفضنا المتكرّر لكل التدخلات الأجنبية التي عمّقت أزماتنا.