سورية: النداء الأخير قبل السقوط

29

أثمرت عشر سنوات من الدمار والخراب والتحطيم الذاتي والتوظيف الخارجي، خناجر تكفي لانعدام الثقة بكل شيء. فالمصائب التي نجمت عن الحل الأمني العسكري والعسكرة والمذهبة والتدخلات الخارجية لم تتوقف عن الحفر والنخر في كل خلية من خلايا المجتمع والدولة. سوريا اليوم لم تعد دولة ذات سيادة أو كيان متصل الحدود، ارتفع صوت الانتماءات الفرعية على الانتماء الوطني السوري، وتبخّر مفهوم “الشرعية السياسية” من القنيطرة إلى القامشلي، وأصبح رضا الدول المتدخلة في الشأن السوري أرفع شأنا من استقراء زفرات الألم والمعاناة لدى رعايا المخيمات والتهجير والتمزق الذاتي داخل أو خارج شبه كيانات تعتبر نفسها محررة..

إلا أن نظرة لتاريخ الشعوب تمنعنا من التشاؤم والاستكانة، وتعلّمنا أن من هذا السواد القاتم، يمكن للضوء أن ينبعث، ليس فقط لأن الأمل حق من حقوقنا كبشر، وإنما لعدة أسباب عقلانية وموضوعية.

أولا، لأن الحالة السورية ليست فريدة ونادرة في العديد من مفاصلها، بل هي مزروعة في العديد من التجارب البشرية. هذه التجارب تعملنا أن بشاعة الأوضاع تسهم بشكل كبير في تفكيك وتعرية كل معالم المجتمع القديمة والبالية، وأنها تكشف للعيان كل عيوبنا المتراكمة عبر السنين، بحيث يصعب إخفاء كل مشين وقبيح، لأنه قد أصبح عاريا بدون غطاء.. لقد أراحتنا الأوجاع الجماعية من مرض إخفاء عيوبنا وأمراضنا.. ولم تعد سرطانات الجسم المجتمعي خفية عن الأعين، كذلك حال الإجابات الضرورية على السؤال المصيري: إلى أين نتجه.

ثانيا، من الحروب البدائية بين القبائل والإثنيات التي سبقت الكتابة، إلى الحروب الحديثة التي احتاجت أحيانا للبشاعة النووية لوضع حد لها، لم تتعرف الشعوب قاطبة على ظاهرة “الانتحار الجماعي” للنجاة من أوضاعها البائسة.. وكانت تعثر دائما على خيط الأمل الضروري لوضع حد لعنف دخل كل بين وكل جسم. هل من الضروري التذكير أن معظم تجارب الشعوب قد مرت بحروب أهلية قبل أن تنجح في الوصول إلى عقد اجتماعي يضمن لها استقرارا مستداما يقوم على التفاهم الواعي والتعاقد العلني بدل الاستقرار والوحدة الوطنية الكاذبين القائمين على المداهنة والنفاق والتغطية على المخاوف والتناقضات والاشكالات المتهرب منها وغير المسيطر عليها. ألم تلد الدول-الأمم الحديثة، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرنسا وإيطاليا وروسيا والصين.. على أنقاض حروب أهلية راح ضحيتها ملايين البشر، وكانت هذه الحرب مناسبة لتصفية الأحقاد الدفينة والعصبيات القرون وسطية وفرصة لإعادة تعريف الوطنية والمواطنة بحثا عن صيغة عادلة للاجتماع السياسي المشترك، أي مناسبة لتأسيس مجتمع  سياسي جديد قائم على عقد أو دستور ينظم حياة الناس كشركاء في البناء والحياة العامة والمدنية.

طرح السؤال في رواندا وجنوب إفريقيا ويوغسلافيا في نهاية عهد وحقبة وقرن، وكانت الإجابة في المثل اليوغسلافي تمزق الاتحاد إلى دول مستقلة، وفي جنوب إفريقيا ورواندا، اعتبار وحدة البلد وشعبه فوق الإثنيات والأعراق المكونة لسكانه؟ أي تثبيت وطنية جامعة كانتماء جوهري فوق الانتماءات الفرعية.  يطرح اليوم السؤال علينا جميعا بصراحة وصفاقة: هل نحن متفقون على اعتبار الدولة السورية، ذات السيادة هدفا أساسيا جامعا، ودولة المواطنة الجامعة لمكوناتها مشروعا مشتركا لكل السوريين؟

من شبكة علاقاتي السياسية والاجتماعية والمدنية، أرى بوضوح اليوم، أن هناك شبه إجماع وطني على الهوية السورية الجديدة الجامعة، يتجاوز كليشهات “المعارضة” و “الموالاة”، والانتماءات القومية الفرعية كردية وعربية وتركمانية إلخ. فقد صارت الإطروحات القومجية على اختلافها جزءا من الماضي، ولم يعد أحد يجرؤ على الحديث عن جيش عقائدي أو إيديولوجي. تضبضب قوات سوريا الديمقراطية صور أوجلان بأوامر “أمريكية”، ويتعرض كل من يحمل صورة العلم التركي للإزدراء والرفض من السوريين في مناطق النفوذ التركي قبل غيره. كذلك تهاوت المشاريع الإخوانية والسلفية أمام رفض شعبي كبير لكل الإمارات الظلامية التي سعت لبنائها. وقد تعرض ما يسمى “المجلس الإسلامي السوري” مؤخرا لهجوم لا سابق له، لإصداره “فتوى” يتحدث فيها عن الهوية السورية بخطاب تجاوزته الأيام. فلم يعد الوطنيون السوريون يتحملون منطق فرمانات الباب العالي وفتاوى الشرعيين، كذلك أدركت غالبية الكورد السوريين أن مستقبلهم لن يكون في “أمة كردية واحدة  ذات رسالة خالدة”، وإنما في دولة ديمقراطية موحدة تجمع قومياتها ومكوناتها الدينية رابطة الوطن المشترك والمواطنة الجامعة.

لقد آن الأوان لأن يتصدر حاملو مشروع الوطن السوري الموحد والسيد للمشهد، وأن يخوضوا في حوارات جدية لبناء سوريا الجديدة.. سوريا الحرية والكرامة التي خرج شبيبة درعا من أجلها في 18 آذار 2011، يوم كانت الثقة بالنفس عند جمهور ثوري فخور بمواجهته بصدوره العارية لنظام قاتل، أقوى من سعي بعض الصغار لتدخل خارجي أو احتضان مقاتلين أجانب.. خاصة وقد أدرك حتى جماعة القابلية للتدخلات الخارجية، من أي بلد جاءت ولأي جبهة انضمت، كم هي مدمرة للدولة والمجتمع.

في عشر سنوات سقطت ورقة التوت عن كل العورات المريضة التي اختارت الاستقواء بالخارج على شعبها، في مختلف الجبهات. وها نحن نشهد حراكات وطنية مدنية في درعا والسويداء والساحل السوري والشمال، تطالب بتطبيق القرارات الأممية، ليس لأنها مقدسة أو مثالية، ولكن لكونها تؤكد على بناء دولة لا طائفية ذات سيادة، وتؤكد على الحريات الأساسية وحقوق المواطنة المشتركة، التي غابت نصف قرن عن خطاب سلطة الحزب الواحد والقائد الأوحد، وغابت عشر سنوات عن فصائل مسلحة شكلت بأحسن أحوالها، تكرارا مسخ، للدكتاتورية في المناطق التي سمح لها بالتواجد فيها.

إن مهمة وواجب العقلاء في مناطق سيطرة الحكومة السورية لا يقل عن واجب الوطنيين الشرفاء في مناطق أشباه الحكومات وأشباه الفصائل المسلحة. ففي كل نزاع مسلح، يستمر القتل والموت والدمار، مادامت الأطراف الأكثر تصلبا وتخلفا وانتفاعا من تجارة الحرب، تتصدر الجبهات. ولا بد لنا، للخروج من دوامة العنف القاتلة، من مد الجسور بين كل الشخصيات والقوى الوطنية في عموم البلاد لقيام أوسع جبهة للتغيير والسلام والبناء. في وجه “جبهة القتال حتى آخر سوري”. وعلى كل السوريين اليوم أن يقمعوا أحقادهم الصغيرة وأنانياتهم الذاتية من أجل الوطن الجامع الكبير.

لا يمكن إحداث القطيعة مع تراث حافل بالظلم دون اعتبار إقامة العدل أساسا من أسس الخلاص. ومن واجب كل الحقوقيين والمحامين والقضاة النضال بنزاهة وعقلانية، من أجل سلطة قضائية مستقلة تسبب غيابها في تعميم المظالم على الجميع.

لا يمكن بناء الدولة السورية الجديدة على أي من قواعد الماضي، فالإقصاء والإبعاد والتخوين والتكفير سرطانات تغلغلت في خلايا الدولة والمجتمع، ويشكل استئصالها، كعقليات وممارسات، الأساس السليم لدولة حديثة تقوم بوظيفتها الطبيعية كحكم بين الأطراف الاجتماعية والسياسية والمدنية، وليس كطرف قامع لأصوات الاختلاف والتنوع والغنى.

إن اعتبار وضع مختلف أشكال ممارسة السلطة على الأراضي السورية اليوم شكلا اضطراريا لإدارة المؤقت،  واتفاق مختلف الأطراف على إطلاق مسار المصالحة الوطنية وفق عقد اجتماعي جديد يسبق أية انتخابات أو قرارات أحادية الجانب، سوف يسهم دون شك في فتح أبواب الأمل من جديد. فلم يعد ثمة وقت للترقيع والمماطلة وفرض سياسات أمرٍ واقعٍ هش، السوريون بحاجة اليوم إلى مواقف جريئة وكبيرة، من كل من كان سببا في مأساتهم، لأن الوقت لم يعد في مصلحة شعب مهدد في وحدته ولقمته ومستقبل أبنائه..

 

الكاتب :الدكتور خالد المحاميد

المصدر:رأي اليوم