الجلاء وإبراهيم هنانو الكردي

68
يزعم كاتب هذه السطور أن إبراهيم هنانو كان الأجدر بحمل اسم ثائر بين الذين قاوموا الانتداب الفرنسي في سورية في مراحله الأولى، فهو متعلم، ومثقف، وسياسي محنّك، وذو ميول وطنية وقومية عربية تحرّرية، على الرغم من كونه ابن الحقبة العثمانية، ففي تلك الأيام انتشرت في المملكة الميول التحرّرية، وتشبع المثقفون بأفكار الثورة الفرنسية، وغيرها.
بدأ هنانو تعليمه في مسقط رأسه، كفرتخاريم، القرية الصغيرة (غرب إدلب)، ونال الشهادة الثانوية في حلب، ثم تابع دراسته حتى تخرّج في معهد الحقوق بإسطنبول، وعُين بوظيفة قائمقام في منطقة تابعة لإسطنبول، ثم قائمقام في منطقة قرب أرظروم، وتزوّج امرأة تركية. وكان له موقف مشهود، حينما حاول بعض السوريين المحاربين ضمن قوات الشريف حسين تمزيق علم المملكة العثمانية في أثناء انسحاب القوات العثمانية في ختام الحرب العالمية الأولى، فاعترض عليهم قائلاً: كيف تمزّقون علماً عشنا تحت ظله أربعمئة سنة؟
بعد عودته إلى سورية، اشتغل هنانو قاضياً في قريته، ولكن تطورات مهمة حصلت جعلته ينتقل إلى حلب، ففي شهر سبتمبر/أيلول 1918، جاء الأمير فيصل بن الحسين من الحجاز إلى دمشق، ليقيم دولة عربية على مجمل الأراضي السورية (عدا الساحل الذي كانت تتمركز فيه قوات فرنسية) تنفيذاً لاتفاق وزير خارجية بريطانيا، السير مكماهون، مع والده الشريف حسين. وخلال مدة قصيرة، أصبح هنانو ركناً أساسياً من أركان الحكومة الفيصلية، وعهد إليه فيصل بوظيفة رئيس ديوان ولاية حلب، إلى جوار والي حلب رشيد اطليّع.
تعاملت كتب التاريخ مع إبراهيم هنانو بميكانيكية ثورية غريبة، قالوا إن فرنسا احتلت سورية، فهبّ منافحاً، ثائراً، واثباً، للدفاع عن شرف الوطن.. إلخ. هذا التبسيط الإنشائي يبعد التفكير عن الأسباب الحقيقية لثورته، وأولها أنه وغيره من رجال الحكومة الفيصلية كانوا يدافعون عن أنفسهم، وعن دولتهم الفتية التي لمّا يمض على إقامتها سوى 22 شهراً حتى جاء الجنرال غورو لاحتلال دمشق ثم حلب. وثانيها أنه رجلٌ عقلاني، لا يمكن أن يندفع لتنظيم ثوار وإعلان ثورة، لولا اطمئنانه إلى وجود دعم لوجستي تركي، والأتراك لم يقفوا معه حباً في فيصل وأبيه، وإنما لأن الثورة ستكون ضد الفرنسيين المتحالفين مع الإنكليز الذين ألحقوا بهم الهزيمة، وتقاسمتا أراضيَ كانت تحت سلطتهم. وثالثها أن هنانو كان قادراً، بسبب علمه وخبرته الوظيفية ومركزه الاجتماعي، على تمثيل شخصية الزعيم الوطني بكل أبعادها. ولعل من يقرأ الرسالة التي بعثها، في 20 سبتمبر/أيلول 1920، إلى سفراء الدول العظمى، سيعرف أي نوع من الرجال هو. جاء في الرسالة: إننا لا نقصد من قيامنا هذا إلا حفظ استقلالنا، ليمكننا تأسيس موازنة عادلة على أسس الحرية والمساواة. نحن السوريين نموت و”نتبلشف” ولا نخضع لحكم الظالمين.
ثمّة نقطتان صغيرتان تتعلقان بشخصية هنانو، أولهما أن بعض الصفحات الإخبارية التأريخية المتوفرة على الإنترنت تفيد بأنه كردي. ليس هذا الأمر مهماً بحد ذاته، فالتمييز بين القوميات في سورية لم يكن موجوداً أيامئذ، ولم يحظ بأية أهمية قبل استيلاء حزب البعث على السلطة 1963، ثم جاء حافظ الأسد ليعلن حرباً طويلة الأمد على الكرد. ولكن، ومن معرفة كاتب هذه السطور بتركيبة هذه المنطقة، لا يوجد أكراد لا في كفرتخاريم، ولا في كل هذه المنطقة. وبالنسبة لوجود حرف الواو في آخر كلمة هنانو، هذا شائع في إدلب، هنانو، سيفو، أحمدو، عبدو، جمو، حسينو، صفو، وحتى عائلة كردو ليست كردية، وثانيهما أن هنانو أوقف ثورته بنفسه، عندما أغلقت تركيا حدودها، وتوقف الدعم اللوجستي، وشعر وقتها أن الثورة سوف تتحوّل إلى حرب عصابات “جَتا”، ستقوم بأعمال قتالية قليلة الجدوى، والذين تابعوا “الثورة” بعده فعلوا الشيء الذي توقّعه.

 

 

 

 

الكاتب: خطيب بدلة – المصدر: العربي الجديد