فاتح جاموس عن عماد شيحا: كان مناضلا فذّا .. كلّفه النضال عمرا ولم يندم

84

غيّب الموت المناضل السوري وأكبر سجين سياسي بل عميد المعتقلين عماد شيحا ، تاركا إرثا إنسانيا  بعد قرابة ثلاثين عاما من الاعتقال في سجون النظام السوري.
وبدأت مراحل اعتقال الراحل شيحا في ربيع العام 1975 بتهمة عضويته في المنظمة الشيوعية العربية، ليتنقّل بعد ذلك بين أهم المعتقلات والسجون فضلا عن العديد من الفروع الأمنية.
كان الراحل  يؤمن بأنّ “الحرية موجودة داخله وقد عاشها دائماً.. عمق الإحساس بالحرية الداخلية ساعده في التحليق سريعاً في فضاء الحرية الخارجية”، وفق  قوله.
وينعى المرصد السوري لحقوق الإنسان بدوره، صوت الحرية عماد شيحة الذي اعتقل ثلاثين عاما دون أن نسمع أنينه أو ندمه عن تلك السنوات التي قضاها، وهو عميد المعتقلين..
وفي حديث للمرصد السوري لحقوق الإنسان، يقول المناضل السياسي والحقوقي فاتح جاموس: “بدايات شهر آب –أغسطس عام 1975، كنا ضمن  سلسلة من الحلقات الماركسية بحمّى النشاط الفكري والثقافي والتنظيمي لقطع شوط متوافق كما نعتقد بين الموضوعي والذاتي ودفع ظاهرة اليسار الجديد إلى الأمام، التي أنتجت بعد عام واحد التنظيم الكفاحي “رابطة العمل الشيوعي” أو “حزب العمل الشيوعي”، وكان شيحا أكثر من رفيق على اطلاع وعلم وعلاقة مع رفاق آخرين في قلب ظاهرة الحلقات الماركسية، واختطوا لفعاليتهم أسلوب الكفاح المسلح في مواجهة مبكرة لنشاط المركز الإمبريالي الأمريكي في سورية: تفجيرات مكتب “إن سي آر”، والجناح الأمريكي في معرض دمشق..الخ.
وكانت الحركة التصحيحية بقيادة الجنرال حافظ الأسد تضبط جملة تكتيكاتها وسياساتها وتوجهها الاستراتيجي بين المرونة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية مع السوق والرأسماليين وفتح الخطوط، خاصة بعد اتفاقية وقف إطلاق النار في الجولان المحتل، التي بدت أبدية الطابع بالتغاضي عن نوايا السلطة والدولة، وكانت واضحة جدا حدود الحزم والضبط عبر السلوك القمعي لأي ظاهرة كفاحية مهما تزينت وطنيا وبدت نبيلة، ومع  اكتشاف تلك الحلقة من نقاشاتنا وتعرّضها مبكرا لسموم أحكام محكمة أمن الدولة العليا، أُعدم خمسة  من رفاقنا من بينهم المناضل غياث شيحة أخ عماد،  ثم حُكم على خمسة بالمؤبد مع الأشغال الشاقة من بينهم الراحل عماد وكتب عليه أن يبقى الفترة الأكثر طولا في معتقلات السلطة ، أزيد من تسعة وعشرين عاما، مسجّلا رقما مخيفا، رقما قادرا على إرباك أي ديكتاتور وأي سلطة ديكتاتورية”.
ويتابع جاموس في حديثه عن رفيقه الراحل: ” عرفتُ من عماد بعدما انتقل مع عدد من رفاقه من معتقل إلى آخر حيث كنا مئات المعتقلين ممن تبقوا لينهوا أحكامهم لنفس المحكمة من تجربتنا في حزب العمل الشيوعي، أنّ عنصرا من مجموعة قضاة محكمة أمن الدولة، وهو ضابط مفروز من القصر مع عدد من ضباط آخرين وجهوا أسئلة كثيرة ذات صلة بمواضيع سياسية محرجة له لتوريطه أكثر حيث كانوا يدفعونه  بكلام ذي طابع تحريضي وفضائحي ضد سياسات السلطة في المسألة الوطنية والموقف تجاه أمريكا والكيان الصهيوني والأنظمة العربية والخليجية، ذلك الضابط توفي منذ فترة قريبة وتعرّفت عليه بعد فصله فعليا من الجيش، وعرفت منه أيضا أنه كان يعرف أولئك الشباب المتحمسين الذين كان مصيرهم بين الإعدام والمؤبد، بل أكد لي ذلك الضابط أنه طلب من الرئيس ألاّ يوافق على قرار الإعدام وفشل في ذلك، وحدّثني  ذلك الضابط عن عماد وعن حماسه في تلك الفترة في نقد السلطة أمام القضاة وهو العارف بالأحكام التي ستصدر ضده والرفاق”.
وتطرّق فاتح جاموس أيضا إلى  الاعتقال في معتقل صيدنايا رفقة الراحل عماد شيحا، وقال: ” عشنا مع رفاق آخرين لسنوات عدة، كان فيها عماد نموذجا  مثالا مكتملا للرفيق المناضل والنبيل الذي راجع نفسه وقناعاته بعمق ولم يندم يوما، ولم يقفز مرة واحدة في فراغ الندم  والتحسّر وبصورة خاصة فراغ الخيار النقيض والمنظومة النقيضة وكأنه لم يكن جزءً من التاريخ الموضوعي والذاتي بشكل خاص في الموقف من المركز الإمبريالي القيادي المتمثل في أمريكا ودورها مع الكيان الصهيوني في مشروعه الذي يستحيل على أي مناضل قبوله أخلاقيا أو على الأقل قبول الموقف الأمريكي.. لم يقم بأي استدارة عقلية أو سياسية أو أخلاقية، هو بعيد عن عالم التناقضات لذلك غلب السلطة”.
ويرثي  فاتح جاموس رفيقه قائلا: “في الوقت الذي كان فيه عماد نموذجا متفتحا وديمقراطيا على العيش مع المختلف وبشكل خاص خلافاتنا داخل الطاقم القيادي للحزب الشيوعي، إلا أنه لم يخلط أبدا ولم يجامل على حساب قناعاته ولم يقفز في الفراغ، كانت بنيته النفسية والعصبية وكذلك الصحية متوازنة ساعدت على التماسك الكفاحي، وعاش معنا لحظات فرح وجنون المشاعر المنفلتة وعيا وغضبا وإنسانية ورغبات للحرية والحياة بينما ينتصب أمامنا ذلك الجدار الأسود المصمت دون أي بؤرة ضوء، جدار الديكتاتورية .. وكان عماد نموذجا متقدما بيننا في مواجهة كل ذلك.”
ولفت جاموس إلى تمسّك عماد بمواقفه من السلطة الديكتاتورية وثباته من أجل الحرية وطالما آمن بأهمية قيام نظام ديمقراطي ولم تؤثر عقلانيته النقدية مقارنة بتجربته على موقفه الكفاحي العميق من الديكتاتورية.
وأردف محدثنا: “أنهيت عقوبتي وحبّة المسك الاضافية لأتجاوز الثماني عشرة سنة وأطلق سراحي قبل الرفيق عماد ثم خرج وجاء سريعا لزيارتي في بيتنا، كان بديهيا أن أقف أمامه بالتحية العسكرية لنظام المتقدم والتلميذ  بفارق أكثر من عشر سنوات، وعشنا عدة أيام نتنقل على دراجتي النارية -وسيلتي الوحيدة حينها- من مكان إلى آخر ومن بيت إلى آخر كشخصين انفلتا من فجوة في ذلك الجدار الفظيع وتقصّدت أن نذهب إلى زيارة منطقة السمرا الحدودية نبع تشالما للواء المحتل من العالي  وأمامنا المرصد الاحتلالي التركي،  كما كان أمامنا المرصد الاحتلالي الصهيوني على جبل الشيخ .. بين المرصدين والاحتلالين وعمق وعينا ودوافعنا الوطنية والحرية السياسية والشخصية، تحاورنا ومشينا بين الصخور، كما شتمنا حتى شبعنا ، ومع كل شيء كانت شتائم سياسية إنما منفلتة مع الحالة”.
واستطرد  قائلا: “طوّر عماد نفسه وثقافته وميوله  وعبر عن ذلك بخياراته الأدبية والترجمة بنتاج واسع”.
ترجّل شيحا تاركا وراءه إرثا وتاريخا نضاليا يحقّ لكل الأجيال القادمة التغنّي به.. شيحة الذي تمسّك بمبادئه التي كلّفته حياة بين السجون والمعتقلات.