العالم القديم يحتضر… والجديد يتأخر في التبلور

3٬014

بدأ عام 2024 على وقع حربي غزة وأوكرانيا، بعدما كانت سنة 2023 سنة الزلازل والتغيرات المناخية، تماما كما كانت سنة المواجهات والانقلابات واحتدام الاستقطاب الدولي.

وتحمل سنة 2024 (السنة الانتخابية بامتياز من موسكو والبرلمان الأوروبي إلى نيودلهي وواشنطن) في طياتها إشارات القلق والخوف من الأسوأ، إذ إن نتائج بعض الانتخابات خلالها يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الصراعات، خصوصا إذا ترابطت مع التصعيد في الشرق الأوسط وغيره من مسارح النزاعات.

أما في آسيا التي ستتركز عليها الأنظار في القرن الحادي والعشرين، فقد بدأ العام الجديد مع التصريحات النارية عبر تأكيد الرئيس الصيني شي جين بينغ على أن إعادة توحيد الصين وتايوان “حتمية تاريخية” (أتى الجواب في انتخابات تايوان الرئاسية لصالح الاستقلاليين)، وتلويح زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون بسحق الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بالكامل إذا اختارتا المواجهة.

والأدهى أن المواجهات والصراعات والتحولات العالمية التي تدور في مخاض تشكيل نظام دولي جديد تجري من دون بوصلة ومن دون حوكمة ومن دون وجود حوار وحد أدنى أو اتفاقات شبيهة باتفاقات “ستارت” لتخفيض الأسلحة الاستراتيجية والنووية بين قطبي الحرب الباردة السابقة.

يتضح من خلال مراقبة تسلسل الأحداث في السنوات الأخيرة أن “العالم القديم” يتلاشى وأن النظام الدولي يهتز تبعا لمقولة الفيلسوف أنطونيو غرامشي: “العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يتأخر في التبلور، وإبان هذا الفاصل الزمني بين العتمة والضوء تظهر الوحوش”. وبالفعل في غمرة الفوضى الدولية، برزت “الوحوش” على شكل آفات وظواهر تغير مناخي وعودة قوية لدورة من الحروب. 

وفي هذا السياق كان عام 2023 قاسيا وعنيفا ودمويا من غزة وجوارها إلى أوكرانيا، ومن السودان إلى الساحل وجنوب القوقاز.

ويسود الاعتقاد أن 2024 سيكون على مثال سلفه، مع ترجيح تجاوز حرب أوكرانيا (التي أعادت الحرب إلى قلب أوروبا) سنتها الثانية واستمرار تفاقم الوضع في الشرق الأوسط، من دون استبعاد تصاعد التوترات من القرن الأفريقي والساحل إلى بحر الصين وشبه الجزيرة الكورية. 

واللافت للنظر استئناف واشتعال الصراعات القديمة “المجمدة” (وبعضها غير قابل للحل) وهذا هو الحال في البلدان الواقعة على أطراف الاتحاد السوفياتي السابق، أو حتى في يوغوسلافيا السابقة، مع الأوضاع التي لم تُحل في التسعينات.

أما في القرن الأفريقي، فقد كانت الانقسامات في إثيوبيا دائمة منذ ثمانينات القرن العشرين. وينطبق القول نفسه على السودان. وتبين أن ولادة دولتين جديدتين- إريتريا وجنوب السودان- لم تسهم في تغيير الوضع الاستراتيجي إيجابيا. 

وفي الشرق الأوسط، كانت إسرائيل في حالة حرب مستمرة مع “حزب الله”، و”حماس” منذ الثمانينات. ومن الواضح أن رهانات السلام مع “اتفاق أوسلو” في التسعينات تبخرت وأصبحت بعيدة المنال. وتبعا لهذه المعطيات يصعب تصور وقف هذه الصراعات أو الوصول غالبا إلى نتائج بعد تفاقمها.

وفي المحصلة يبرز اضطراب البيئة الاستراتيجية العالمية وخطورة عودة الحروب بقوة. وفي هذا الإطار، ترى الأوساط الغربية أن الهجوم الروسي ضد أوكرانيا يعني عودة أولوية القوة على القانون، في ظل نظام دولي فاشل لا يفي بوظيفته في تخفيف الصراعات. علما أن روسيا والصين تعتبران النظام الدولي القائم غربيا بامتياز.

وفي بعض المرات، قد يكون اختيار الحرب جذابا لأنه يخلف تأثيرات فورية، ففي غضون أربع وعشرين ساعة، تم تغيير الوضع في ناغورنو كاراباخ بعد عقود من التجميد.

إن رغبة بعض الجهات الفاعلة (روسيا والصين وبعض الدول الأعضاء في مجموعة “بريكس”) في إنشاء نظام عالمي جديد تكون فيه حصة وازنة لـ”الجنوب الشامل”، تستهدف بشكل مباشر ضرب سيطرة “الشمال الشامل” أو “الشمال العالمي” أي الغرب الصناعي.

يتوجه نصف البشرية إلى صناديق الاقتراع في 2024، أي في حدود 4.2 مليار شخص، وذلك في 76 دولة. وقد بدأت الانتخابات يوم 13 يناير/كانون الثاني في تايوان، وستليها المكسيك وفنزويلا والبرازيل، وبعدها الهند ثم باكستان وإندونيسيا وبنغلاديش، ومن روسيا إلى الولايات المتحدة مرورا بالمملكة المتحدة، التي لم يتم تحديد موعد انتخاباتها حتى الآن، دون أن ننسى الانتخابات الأوروبية في يونيو/حزيران والتي ستشهد تعبئة هائلة وتكون مؤشرا لرصد اتجاهات المشهد السياسي الأوروبي.
وفي الإجمال، ستقرر هذه الانتخابات تغيير أو عدم تغيير رؤساء الدول والحكومات، وتوازن القوى السياسي داخل البرلمانات، وفي بعض الحالات سيكون لبعض هذه الانتخابات أهمية في بلورة لعبة التحالفات أو إذكاء التوترات الدولية.
بالطبع، لا يمكن مقارنة الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في روسيا شهر مارس/آذار المقبل بتشويق الحملة الأميركية التي ستبقينا في حالة من الترقب حتى الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. بينما يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه يترشح لأنه “لا يستطيع أن يتهرب من واجبه”… يحتمل أن تتكرر المواجهة بين جو بايدن ودونالد ترمب في ظل انقسام يتعمق. 
وفي عالم مترابط تجرى الانتخابات على خلفية توترات دولية قوية: طموحات الصين، واستمرار الحرب الأوكرانية، وتجدد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والمنافسة عبر الأطلسي، وكلها مواضيع يجب أخذها في الاعتبار من أجل فهم أفضل لمسارات اللاعبين الرئيسين والانعكاسات الجيواقتصادية في عام 2024.
زيادة على التنافسية الاقتصادية الحادة وتفاعلات الثورة الرقمية في عالم اليوم، أتى تطور الذكاء الاصطناعي في العامين الأخيرين، ليدفع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقول إن “الذكاء الاصطناعي هو المستقبل، ليس فقط لروسيا، ولكن للبشرية جمعاء. إنه يأتي بفرص هائلة، ولكن أيضا بتهديدات يصعب التنبؤ بها… من يصبح قائدا في هذا المجال سيحكم العالم”. 
ومن هنا تبقى الولايات المتحدة هي الرائدة والمتحكمة في أهم برامج الذكاء الاصطناعي والسيطرة على كبرى الشركات المشغلة للإنترنت وتليها الصين، ويترك ذلك السباق مفتوحا من دون إهمال مخاطر التحكم في قرار العالم الرقمي. 
ومما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي والمبالغة في استخدام التقنية الرقمية سيؤديان لخلل على حساب الذكاء الطبيعي وسيطرح ذلك إشكالية تفوق الآلة على الإنسان والمخاطر الناجمة عن تداعيات هذا التفلت، خصوصا مع انتقاله إلى المجال العسكري لتحقيق الأهداف أو لتصنيع الأسلحة.
الخلاصة أنه في عالم مضطرب يبدو أننا أمام منعطف حاد لجهة تفاقم الصراعات واتساعها. والتناقض بين الكبار حيال إعادة تركيب النظام الدولي وترميم عولمة متصدعة، وكل ذلك يشي بفترة انتقالية تتخللها حروب مدمرة وتنافسية اقتصادية مفتوحة.
الكاتب: الدكتور خطار ابودياب 
المصدر: المجلة