عاهات مستديمة وآثار نفسية كارثية.. شهادات للمرصد السوري حول انتهاكات “الجندرما التركية” بحق الفارين من ويلات الحرب بحثاً عن “ملجأ آمن”

52

في بدايات شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2015، أغلقت تركيا حدودها البرية بشكل شبه كامل أمام السوريين، من خلال نشرها فرق عسكرية على كامل الشريط الحدودي، حيث حرصت قوات حرس الحدود التركية أو ما تعرف بـ “الجندرما” على منع المدنيين السوريين من عبور الأراضي التركية، مستخدمة في سبيل ذلك الجدار الأسمنتي و الأسلاك الشائكة والأنفاق الاعتراضية والقناصات بالإضافة إلى نشر نقاط حراسة بشكل مكثف على كامل الشريط الحدودي، تسبب ذلك في وقوع العديد من حالات الإعاقة والتشوهات والعاهات الدائمة للعديد من المدنيين، بسبب الضرب المبرح أو الاستهداف بالرصاص الحي بشكل مباشر للمدنيين، على كرسيه المتحرك.
الشاب “أ.ع،” يبلغ من العمر 32 عام وهو من منطقة أبو ظهور في ريف إدلب، ويقيم في مدينة”عفرين”في ريف حلب الشمالي الغربي، انتهت طموحاته وأحلامه كما يقول بعد تعرضه لطلق ناري من قبل عناصر حرس الحدود التركية “الجندرما”، خلال محاولته العبور لتركيا، حيث سبقته زوجته إلى هناك، ولكنه كان أقرب لمصيره المحتوم، ليكون ضحية أخرى في سلسلة ضحايا الذين أصيبوا أو قتلوا أو تعرضوا لانتهاكات من قِبل الجندرما التركية، يقول في شهادته للمرصد السوري لحقوق الإنسان: “عجزت عن تأمين فرصة عمل وضاقت أحوالي المعيشية لدرجة لا توصف، بعد النزوح وتجربة العيش في المخيمات والتعرض للجوع والبرد، قررت الذهاب لتركيا بهدف البحث عن عمل لسد احتياجاتي، أرسلت زوجتي وبقيت لمدة شهر أنهي بعض الالتزامات، وبعد محاولات عديدة للدخول إلى الأراضي التركية، نجحت في العبور عبر أحد المهربين وذلك في أواخر الشهر آب / أغسطس من العام 2019، فور دخولي الأراضي التركية، بدأ إطلاق النار من 3 جوانب، هرعت بالهروب والركض وكان معي شخص (الدليل) الذي يرشدنا للعبور وقرابة 7 أشخاص آخرين، أصبت بطلق ناري في منتصف ظهري، نُقلت من قبل عناصر “الجندرما” لأحد المشافي في مدينة الريحانية ضمن لواء اسكندرون، وخضعت لعمل جراحي، بقيت في المشفى مدة شهر كامل، ثم خرجت منها مشلولاً وملقياً على كرسي متحرك، لم استطع تحمل البقاء في تركيا بسبب وضعي النفسي الصعب جداً بالإضافة لوضعي المادي السيئ، عدت برفقة زوجتي وتم ترحيلنا عبر معبر باب السلامة إلى مناطق ريف حلب الشمالي، أعيش الآن على هذا الكرسي المتحرك، دون أي اهتمام لا من الجانب التركي ولا من أي جهة هنا، ضمن أوضاع معيشية ونفسية سيئة للغاية.”

أما الشاب “م.س” وهو نازح من منطقة سهل الغاب في ريف حماة الغربي، ويقطن في مدينة سلقين الحدودية بريف إدلب الشمالي، والذي حاول عدة مرات متتالية العبور إلى تركيا أثناء فترة التصعيد على مناطق ريفي حماة وإدلب في العام 2019، يقول في شهادته للمرصد السوري: “مع اشتداد وتيرة العمليات العسكرية في المنطقة، قررت الذهاب لتركيا حيث يستقر هناك بعض أقاربي، دفعت مبلغ 400 دولار أمريكي “للمهرب” بعد بيعي لدراجتي النارية، وحاولت العبور 6 مرات من منطقة حارم الحدودية مع لواء اسكندرون شمالي غرب إدلب، كان معي مجموعة من شبان ونساء، وفي المرة الأخيرة محاولتي العبور تم إلقاء القبض على 4 أشخاص وكنتُ من بينهم، كان الوقت قرابة الساعة 12 عند منتصف الليل في حرش كبير، وانهالوا علينا عناصر “الجندرما” بالضرب المبرح بالعصي، ضربونا بقسوة شديدة، تعاون على ضربي 3 من عناصر “الجندرما” ضربت في إحدى المرات على رأسي فغبت عن الوعي بشكل كامل، وسبقها أيضا ضرب على الوجه والبطن والظهر و”المناطق الحساسة” من جسدي، وجدت نفسي أخيراً في “مخفر للجندرما التركية” وفي الصباح التالي تمت إعادتنا إلى الأراضي السورية، وبعد وصولي نقلت إلى إحدى المشافي داخل الشمال السوري، تبين هناك أنني تعرضت لضربة على مؤخرة الرأس وكانت شبه مميتة، بقيت لمدة يومين في المشفى، ومنذ ذلك الحين وانا أصاب بنوبات صرع وألم شديد في الرأس وأغيب أحيانا عن الوعي نتيجة تلك الحادثة، وأفقد القدرة على التركيز، كما أعاني من صداع بشكل يومي، ومشاكل أخرى في منطقة”الجهاز التناسلي” كما تبين أيضاً أنهم قد سرقوا هاتفي “الجوال” وحقيبة تحوي بعض الأشياء الشخصية.”

والجدير ذكره أن المرصد السوري لحقوق الإنسان وثق عدد المدنيين السوريين الذين استشهدوا برصاص قوات “الجندرما” منذ انطلاق الثورة السورية وهم 464 مدني، من بينهم 84 طفلاً دون الثامنة عشر، و44 مواطنة فوق سن الـ18.

المرصد السوري نشر في يناير/ كانون الثاني المنصرم، منذُ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، ونتيجة لاستخدام النظام السوري آلة القتل والتدمير، أصبحت تركيا واحدة من أبرز الدول التي لجأ إليها السوريون للهروب من جحيم الحرب، من خلال عبور الحدود المشتركة بين البلدين بطرق شرعية وغير شرعية، دون أي صعوبات تذكر، لكن في بدايات شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2015، أغلقت تركيا حدودها البرية بشكل شبه كامل أمام السوريين، من خلال نشرها فرق عسكرية على كامل الشريط الحدودي الممتد من مناطق ريف اللاذقية مروراً بريفي إدلب وحلب ووصولاً إلى ريف الحسكة، بالإضافة إلى بناء جدار اسمنتي لمنع اللاجئين من دخول أراضيها.
ورغم تشديد تركيا على حدودها، إلا أن الأهالي ما زالوا حتى يومنا هذا يحاولون الوصول إلى تركيا بطرق غير شرعية، عبر مهربين يكونون في غالب الأحيان من أبناء القُرى والبلدات الملاصقة للأراضي التركية، وعلى معرفة تامة بالطرق وسلوكها، وخلال السنوات الأخيرة تصاعدت حالات القنص والقتل من قِبل “الجندرما” التركية بحق الفارين من ويلات الحرب والذين قرروا دخول الأراضي التركية عبر مهربين لا يكترثون لمخاطر ومصاعب هذه الطرق التي أصبحت غالبيتها مرصودة بقناصات حرارية بالإضافة لوجود عشرات الدوريات العسكرية التي تراقب الشريط فضلاً عن الجدار الإسمنتي الضخم المبني على الجزء الأكبر من الحدود، كما تنشط حالات اختلاس لأموال الأهالي “تشليح” والاحتيال عليهم، وذلك بسبب طمع وجشع المهربين بأموال الهاربين من ويلات الحرب بعد أن جمعوا أموال اللجوء من أقربائهم أو عن طريق بيع ممتلكات خاصة.

وفي كثير من الأحيان بين مطرقة الجندرما التركية وسندان المهربين الذين لا يدخرون فرصة للانقضاض على فريستهم، وكثرت حالات التحرش الجنسي بحق الفتيات اللواتي يحاولن الوصول إلى تركيا بهدف الزواج أو الدراسة، حيث يستغل المهرب عدم وجود معيل أو قريب لهن.
الفتاة “و-م” من مدينة معرة النعمان جنوبي إدلب تحدثت للمرصد السوري لحقوق الإنسان عن تجربتها وما تعرضت له أثناء محاولتها اللجوء إلى تركيا عن طريق المهربين المتواجدين في المناطق الحدودية مع لواء اسكندرون شمال غربي إدلب، قائلةً “قبلت الزواج من أحد الشبان الذي تربطه صلة قرابة بعائلتي والمتواجد في تركيا منذ قرابة الـ 5 سنوات، بعد نزوحي مع عائلتي من مدينة معرة النعمان إلى مدينة إدلب، وبعد الاتفاق بين عائلتي وعائلته وإتمام عقد القران، قرر أن يرسل لي مبلغاً مالياً للخروج إليه إلى تركيا، بعد موافقة عائلتي، تحدثت أنا وخطيبي مع أحد المهربين المتواجدين في منطقة سلقين الحدودية مع لواء اسكندرون بريف إدلب وأعطانا عدة خيارات لطرق التهريب تبدأ من 700 دولار أمريكي وتصل إلى 3000 دولار أمريكي، بحسب المسافة التي سوف أسيرها على الأقدام وخطورة الطريق من وجود دوريات حرس الحدود التركي ووجود إطلاق النار على العابرين للحدود، المهرب يدعى أبو علي لا نعرف عنه إلا ذلك الاسم، وهو شخص أمين وصاحب نخوة بحسب أصدقاء خطيبي الذين وصلونا به”
وتضيف “حزمت أمتعتي واتفقنا على أن أخرج من طريق وعر ولكن مسافته قصيرة والعبور منه مضمون بشكل كبير جداً على حد وصف المهرب والطريق من ريف منطقة حارم الحدودية مع لواء اسكندرون، واتفقا على دفع مبلغ 1500 دولار أمريكي لطرف ثالث داخل إدلب، على أن يتم تسليم المبلغ للمهرب فور وصولي الأراضي التركية، وفي بداية شهر أيلول/سبتمبر من العام 2020، اتصل بي أبو علي وطلب مني أن أجهز نفسي على أن يأتي ويأخذني بسيارة استعداداً لإيصالي إلى المنطقة المراد إدخالي منها إلى تركيا، ذهبت معه وأوصلني إلى منزل لا أعرف بأي منطقة تحديداً ولكن على مقربة من منطقة حارم، المنزل يتواجد به قرابة الـ 10 شبان، و5 عوائل منهم نساء وأطفال، جميعهم يريدون الدخول إلى الأراضي التركية بذات الطريق، في تمام الساعة الـ 1ليلاً جاء إلينا ثلاثة شبان، وأبلغونا أننا سننقسم إلى ثلاثة مجموعات، ومن ثم نبدأ برحلة اجتياز الحدود”
وتابعت الفتاة “ذهبنا وبدأنا السير في منطقة صخرية تارة تكون جبلية، وتارةً أُخرى وادي منخفض، وبعد أن مشينا قرابة الساعتين، أُرهقنا جميعاً برفقة المجموعة التي كانت معي وهي عائلة منحدرة من ريف دمشق فتاتين وثلاثة أطفال وامرأة وشاب، بالإضافة لوجود ثلاثة شبان برفقتنا، أحد المهربين أو مايعرف بـ “الدلال” والذي تكون مهمته موكلة من المهرب الرئيسي أبو علي على أن يقوم بدلنا على الطريق وإدخالنا إلى الأراضي التركية بعد أن نقوم بالسير خلفه، قال باللغة العامية، الطريق مرصود وفي دوريات بدنا ننطر للصبح بدكن تناموا ناموا أو خليكم قاعدين، ومن ثم اقترب مني وبدأ بالتحرش اللفظي بي بدايةً، قائلاً: مو حرام هالجمال يتعذب بطرقات التهريب، أنا بدخلك تركيا بسيارة إذا بدك، ارتجفت خوفاً منه، العائلة التي بجواري والشبان ناموا بعد أن أصابهم التعب والإرهاق، ولكن بقيت أنا و”الدلال” مستيقظين، تارةً يقوم بتقديم السجائر لي، وتارةً أُخرى يقوم بصب الشاي، وتارةً أُخرى يقوم بالتحدث معي بأسلوب وكأنه متعاطي مواد مخدرة، لأكتشف أنه فعلاً يتعاطى حبوب مخدرة، عندما قام بتعاطي حبوب “كبتاغون” أمامي واعترف أنه يتعاطى الحبوب المخدرة ليبقى مستيقظاً ولا يأخذه النوم من عمله، على حد وصفه”
وتتابع الضحية حديثها: “بعد مضي ساعة من نوم من كانوا برفقتي، أتى شاب آخر صديق “الدلال” وجلس بجوارنا، وبدأوا بالحديث والتلفظ بألفاظ نابية أمامي، ذهبت بعيداً عنهم مسافة نحو 200 متر، وجلست عند بعض الصخور وبدأت بالبكاء خوفاً منهم، ولكن قررت أن أتحمل تلك الكلمات والمشقة على أن الساعات ستمضي وسأدخل تركيا، وأنا جالسة لوحدي، وإذ بالمهرب “الدلال” رأيته فوق رأسي وبدأ بوضع يديه على كافة أنحاء جسدي وكأنه غائب عن الوعي، بدأت بالصراخ، حاول إسكاتي ووضع يده على فمي، نظرت إلى العائلة والشبان وإذا بهم قد غادروا المكان الذي كانوا نائمين به، إذ قام صديق المهرب الآخر، باصطحابهم إلى طريق ومكان أبعد من مكان تواجدي، هربت منه وبدأ باللحاق بي، حتى وصلت إلى مسافة قريبة من الأهالي والشبان الذين كانوا برفقتي، وبعد أن سمعوا صراخي، ومناشدتي، أتوا إلي فوراً، بينما فر “الدلال” فر هارباً برفقة صديقه، كونهم على معرفة بالطرقات، وقالت لي المجموعة التي كانت برفقتي، بأن المهرب الآخر أجابنا بأنكِ عدتي إلى حارم وقررتي عدم الخروج إلى تركيا خوفاً من الطريق الوعرة، عند سؤالنا عنك، وكنا على وشك السير مع صديق المهرب الآخر لإدخالنا إلى تركيا قبل أن نسمع صراخك.”

ما روته الفتاة “و.م” لا يجسد 1% من معاناة السوريين خلال عبورهم الطرقات الغير الشرعية نحو الأراضي التركية، حيث يتعرضوا لعمليات نصب واحتيال بأساليب متنوعة، فضلاً عن عشرات حالات التحرش بحق الفتيات، والتي لا تخرج على الإعلام في غالب الأحيان بسبب عادات وتقاليد المجتمع بالتكتم عن تلك الحوادث، على اعتبارها تؤثر تؤثر على سمعة الفتاة على حد وصف الأهالي، وأن الموضوع يندرج ضمن قضايا الشرف وما إلى ذلك.