في تلازم الاستعصاء السوري مع «الحرب على الإرهاب»

31

تزايدت في الفترة الأخيرة، وتحديداً منذ التدخل العسكري الروسي في سورية، وتيرة الحديث عن «أولوية مكافحة الإرهاب»، بعدما كان الحديث سابقاً يتمحور حول المكافحة إياها، من دون ادعاء أولويةٍ ما. والأولوية لن تعني على أي حال إلا الإبقاء على نظام الأسد. ذلك أن وصمة «الإرهاب» التي كانت ولا تزال تلاحق كل مناهضيه والنازلين إلى شوارع البلاد مطالبين برحيله منذ آذار (مارس) 2011، ضمن حرب النظام الداخلية على «الإرهاب»، كانت في حاجة إلى سندٍ خارجيٍّ يمتلك القوة والغرور والإجرام في آن، شأن التدخل الروسي، يعزّز تلك السردية بالمعنى السياسي والإعلامي، ويحقق لها ولمن خلفها على الصعيد المحلي، مكاسب عسكرية وسياسية لم تكن تحلم بها قبل ذلك التدخل.

لكن، ما كان لمصطلح «الحرب على الإرهاب» أن يجد له أصداءً في سورية، وحاملاً سياسياً وعسكرياً، لولا أنه صار مصطلحاً عالمياً ورايةً رفعتها وأرستها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، خصوصاً بعد تفجيرات أيلول (سبتمبر) 2001. والمعروف، أن سِجِلَّ الرئيس المذكور لم يكن حافلاً بانتصارات جذرية على الإرهاب، بقدر ما كان فعل غزو العراق واجتياحه، وقبله أفغانستان، دافعاً ومولّداً للمزيد من الإرهاب والإرهابيين، ودخولهم دورة حياتية متجددة لم يكن إسقاط النظام البعثيّ في العراق إلا بداية لها وفصلاً من فصولها.

وإذا كان إسقاط ذاك النظام، بفعلٍ عسكري قسريّ، فاتحةَ مسلسل لم ينته من القتل والاقتتال هناك، فالحفاظ على شقيقه البعثي الآخر، الأسديّ في سورية، وبفعل عسكري قسري أيضاً، لن يكون إلا استكمالاً للمسلسل ذاته الذي بدأ مع بداية الثورة ضد النظام.

لا يُفترض بهذا أن هنالك اعتراضاً على مكافحة الإرهاب في سورية والعراق ولبنان، وفي أي بقعة في العالم من حيث المبدأ، وهو موقف يلزم أن يوحّد كل من يمتلك حساً عالياً بالإنسانية وبطلب العدالة والمساواة وحق الحياة. ولأن كل تلك القيم غائبة في طريقة التعاطي الدولي مع المسألة السورية، ولأن تناول تلك القيم يتّسم بالانتقائية في طرحه والمطالبة به، ضمن ما يضمن مصالح هذه الدولة أو تلك، على حساب حقوق ليس الوحيد من بينها حق الحياة والحرية والاختيار، فإن شكل تعاطي هذا العالم مع مسألة «الحرب على الإرهاب» سيتّسم بالطبع بالانتقائية التدميرية نفسها التي قد تدمّر كل شيء ما عدا الإرهاب الحقيقي.

التدخّل الروسي يشبه، في مكانٍ ما منه، تعاطي جيش الأسد ومخابراته وميليشياته في بداية الثورة، من حيث التوصيف وتوجيه أصابع الاتهام بالإرهاب إلى مدنيين، وإلى معارضين مسلّحين في مناطقهم وحيّزهم المحلّي، بقصد تهجيرهم إلى دول الجوار إلى جانب من سيقهم، على ما رأى العالم في موجة النزوح الأخيرة من حلب باتجاه الحدود التركية نتيجة القصف الجوي الروسي. إلا أن التدخل الروسي العسكري «يتفوّق» على جيش الأسد في ناحيتين أساسيتَين دون سواهما:

أولاهما، التسليح النوعي والكبير والحديث لروسيا، وهو ما حقق فارقاً تدميرياً وإجرامياً لم تصل إلى درجته كل مراكز «مؤسسة الجيش» و «القوى الجوية السورية» وعصاباتها في السنوات الخمس الماضية.

وثانيتهما، أن التدخل ذاك جاء في فترة بات الإرهاب فيها أمراً واقعاً، فيما كان في بداية الثورة وبعدها بسنتين محض أوهام وتصريحات لإعلام النظام والإعلام الحليف له والمقاوم في لبنان وإيران.

روسيا لا يمكن بالطبع أن تتدخل عسكرياً، شأنها في ذلك شأن الولايات المتحدة، لمحاربة الإرهاب بالمعنى الفعلي والحقيقي للكلمة، كما أنها لم تتدخل في سورية لتنسحب لاحقاً بعد مستنقع أفغاني مفترَض لدى البعض في سورية، وهو ما لا تبدو مقوماته موجودة على الأرض اليوم ولا في أمد قريب. وإن كان ثمة ما يميز الحرب الأميركية السابقة على الإرهاب عن نظيرتها الروسية، فإن الأولى أسقطت نظاماً فريداً في إجرامه وانحطاطه عام 2003، وهو ما ستفتقده الثانية ولن تكون إلا على الضد تماماً منه، بتوفير الأرضية المناسبة لاستمرار النظام الجار الشبيه بالعراقي.

إن أية قوة في العالم تتدخل لدعم النظام السوري لن تقدر على إعادة «سورية الأسد» بعد كل ما حصل ويحصل، ويمكن القول إن هذه المآلات اليوم تبدو «طبيعية» بالنظر إلى بنية النظام وطبيعته العائلية والسلالية التي لن تمانع في إحراق البلد كرمى لوهم الأبد، واستجلاب عنف وإرهاب من خارج الحدود، خمينيّ تارةً وروسيّ تارة أخرى وما بينهما. الحل الوحيد الذي كان يمكن أن يجنبنا كسوريين كل هذه «التشريفات» اليوم، هو الانتقال التدريجي في السلطة والعملية السياسية، قبل الثورة بسنوات أو بعدها بفترة قليلة، وهو ما لم تقم الثورة إلا لاستحالته، بغض النظر عن «الغاندية المعارضة» الصّاعدة في البلد منذ سنوات، كتابةً وظهوراً إعلامياً على وسائل إعلام المقاومة التي تشترك في قتل السوريين.

الحرب الروسية اليوم على الإرهاب المفترَض، أي على غير الإرهابيين وعلى المدنيين أساساً، عنوانٌ لمرحلة جديدة في الصراع، يمكن تلخيصها بتقديم البلد هِبة إلى روسيا، مقابل ثلاثة أمتار مربّعة هي مساحة كرسي الأسد تحت حراسة مشددة. وجاء فشل جنيف 3، أو «تعليقها»، وفقاً للتعبير الملطف لدي ميستورا، ليعزز ما يعرفه السوريون عن نظامهم. فالعودة إلى سورية الأسد مستحيلة، والخروج من الواقع إلى فضاء أقل كارثيةً، كي لا نقول إلى واقعٍ ديموقراطيّ، يبدو صعباً على المدى المنظور. هذا هو الاستعصاء السوري اليوم.

إن خمس سنوات من عمر الثورة تلزمها وقفة طويلة مع كل محطة من محطات الصراع، وتحولاته، وظهور «النصرة» و «داعش» بعدها، وقبلها فصائل إسلامية راديكالية محسوبة، للأسف، على الثورة. المراجعة وإعادة القراءة وفق مقتضيات اليوم والأمس القريب ملحّتان جداً، وواجبتان. والثابت الوحيد الذي لا يقبل المراجعة هو النظام الذي تستحيل قراءة سورية بوجوده

 

عبد الله أمين حلاق

 

المصدر: الحياة