أسواق النار ولاجئو إدلب

27

منذ توقيع اتفاق أستانة 2017 حول مناطق خفض التوتر، واتفاق سوتشي في أيلول 2018 لإنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح في بعض المناطق القريبة من إدلب، ثم توقيع التفاهم التركي الأمريكي حول المنطقة الآمنة في أكتوبر 2019, والتفاهم التركي الروسي الذي وقع بعد أسبوع في موسكو، أصبح السوريون على دراية بأن غالبية المعارك والاجتياحات التي تحدث هنا وهناك هي أعمال مرتب لها مسبقاً، وهناك تفاهمات حول خطوطها العريضة بين كافة القوى الفعالة على الساحة السورية. على الرغم مما سببته وتسببه هذه الاتفاقات من تهجير لمئات الألوف، وإزهاق أرواح آلاف الضحايا، ناهيك عن التغيرات الديموغرافية وفقدان سوريين لمناطقهم وبيوتهم وذاكرتهم إلى الأبد، على الرغم من كل ذلك إلا أنه يبدو من الواضح أن كل الأطراف تكسب من هذه الاتفاقات باستثناء السوريين.  

آخر حلقة في سلسلة المعارك التي تجري بموجب تلك الاتفاقات هي معركة معرة النعمان وريفها شرق جنوب إدلب، وذلك على الرغم من الهدنة التي أعلنت عنها روسيا في آب الماضي. المدينة وحوالي عشرين من بلداتها وقراها أصبحت شبه مدمرة، بالإضافة إلى أكثر من مائتي ألف نازح، تركوا بيوتهم ورحلوا تحت نيران القصف الجوي وانهمار القذائف عليهم من كل حدب وصوب. 

شراسة القصف الجوي، والدمار الذي خلفه على المناطق السكنية، وملاحقة الطائرات حتى لأرتال النازحين تبين بوضوح أن هدف النظام ليس السيطرة على المنطقة عسكرياً وحسب بل إنه يريد تهجير أهلها إلى غير رجعة. فهؤلاء لن ينتخبوا بشار الأسد إذا ما جرت انتخابات في سورية بعد عامين كما هو متوقع، مثلما أنهم يحتاجون لأموال كثيرة لإعادة غسل أدمغتهم بعد ما مكثوا ست سنوات خارج سيطرة النظام.

بالنسبة للنظام الأسدي الأرض أهم من البشر عندما يتعلق الأمر بالسوريين، وهذا يعني أن إدلب أهم من أهلها، والأمر بالنسبة له في المعارك الأخيرة هو تطهير إدلب من سكانها. كل السوريون يتذكرون مظاهرات جرجناز المنظمة بشكل ملفت للانتباه، حتى النظام لم ينسى لافتات أهاليها التي تتضامن مع كل المناطق المنكوبة في سورية وتشد من أزرها.    

الروس أيضاً يريدون تامين قاعدتهم في حميميم، جنوب شرق اللاذقية، من القذائف والطائرات المسيرة القادمة من جهة إدلب. الحصانة القضائية التي منحت للجنود الروس داخل القاعدة لا بد من استكمالها بتأمين المناطق القريبة من القاعدة. حماية داخل القاعدة مسؤولية الروس أما حماية محيطها فمسؤولية جيش النظام، ولكن منذ بداية عام 2013 والنظام لم يعد قادر على إنجاز أي عمل عسكري بدون روسيا وإيران.   

بعد سيطرة ” الجيش الوطني” المدعوم من تركيا على ” المنطقة الآمنة” بين تل أبيض ورأس العين في الجزيرة السورية، وقبول الروس والنظام الأسدي بذلك، وامتناعهم عن القتال في تلك المناطق أدرك أهل إدلب وريفها أن عليهم خفض سقف توقعاتهم على العموم، والاستعداد لأسوأ الاحتمالات.

تتحول إدلب والمناطق المحيطة بها وفق حسابات تركيا من موقع المركز إلى موقع الهامش شيئاً فشيئاً. فإدلب ليست منطقة كردية ولذلك لا خوف منها لو سيطر عليه النظام عبر الشرطة العسكرية الروسية والمصالحات. المقاتلين هناك يمكن أن يستفاد منهم في ليبيا، بعد توقيع مذكرة التفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية في 27 تشرين الثاني 2019 حول السيادة على المناطق البحرية في البحر الأبيض المتوسط. هذا يعني أن بقاء حكومة الوفاق، وحربها مع ميلشيات حفتر، أصبح من أولويات تركيا.

 بالنسبة لنزوح أهالي المناطق المدمرة لم تعد تركيا وكالة من دون بواب، ناهيك عن أن المهُجّرين الذين يمكن أن يدخلون الأراضي التركية يمكن الضغط بهم على الاتحاد الأوربي.

وبالفعل فقد أعلن الرئيس التركي أردوغان يوم الأحد 22 كانون الأول أن موجة جديدة من طالبي اللجوء تتجه إلى تركيا قادمة من إدلب، وأن تركيا ” لا يمكنها تحمل هذا العبء بمفردها”, وأن جميع الدول الأوربية، وبشكل خاص اليونان ستشعر بالنتائج السلبية لهذه الموجة من الهجرة، في إشاره واضحة إلى ضرورة أن يساعد الاتحاد الأوربي تركيا في تحمل أعباء اللاجئين الجدد. تركيا كانت هددت أكثر من مرة بفتح الحدود أمام تدفق اللاجئين إلى أوربا كما حصل عام 2015. يذكر أن هناك اتفاقاً بين تركيا والاتحاد الأوربي وقع عام 2016 لكي تضبط تركيا تدفق اللاجئين إلى أوربا مقابل أن تحصل تركيا على مساعدات مالية للاهتمام بهم، بالإضافة إلى وعود بإمكانية دخول الأتراك لأوربا بدون تأشيرة دخول. تركيا تريد أيضاً أن يدعم الأوربيون منطقتها الآمنة التي تقوم بإنشائها في الجزيرة السورية، غير أن هذا الدعم لم يحصل الأمر الذي يعني أن تركيا ستمارس مزيداً من الضغوط.

يبدو أن الأوربيين أخذوا تصريحات تركيا على محمل الجد، فالصحف الألمانية أخذت تتحدث عن زيارة محتملة لميركل إلى تركيا لإقناع أنقرة بأهمية الالتزام بالاتفاق لما فيه من مصالح للطرفين، أو لمناقشة التعديلات التي تطالب تركيا بإدخالها على الاتفاق المذكور، كما يطمح الأتراك. أما رئيس البرلمان الأوربي ديفيد ساسولي فقد أكد أنه من غير القبول استغلال الأشخاص الفارين من الحروب والاضطهاد للضغط على الاتحاد الأوربي.

تشير أرقام الإحصاءات الدقيقة إلى أن نسبة اللاجئين السوريين من مجموع اللاجئين الواصلين إلى اليونان في عام 2019 بلغ حوالي الربع تقريباً، بحسب جيرالد كناوس أحد مهندسي الاتفاق الأوربي التركي ومستشار أنجيلا ميركل. أما تضخيم أوربا لمشكلة اللاجئين السوريين إلى أوربا فيعود إلى أن أحزاب اليمين جعلت من هذه القضية أكبر موضوع للانتخابات البرلمانية والبلدية في أوربا، ولذلك سيبقى موضوع اللاجئين معرض لمزيد من المزاودات، والموضوع المفضل لدى لصحف الشعبية.       

كم هو محزن أن تخطط دول كبرى في العالم لمنع مجموعات هاربة من الحرب والدمار من الوصل إلى مكان آمن. الأمر الأكثر حزناً أن حسابات كل الأطراف التي أشرنا إليها من النظام إلى روسيا وإيران، وصولاً إلى تركيا وأمريكا والاتحاد الأوربي تؤخذ بعين الاعتبار إلا حسابات أهل إدلب، فالنار هناك تلتهم كل شيء، حتى مخيماتهم البائسة.

 

الكاتب:رشيد حاج صالح  – المصدر: بروكار برس