أردوغان… بوتين… أوباما… من يناور ضد من؟

32

ما كان بوسع أردوغان أن يتأخر عن إسقاط الطائرة الروسية التي اخترقت خلال سبع عشرة ثانية المجال الجوي التركي. فعلها الطيران الروسي مرات عدّة قبل ذلك منذ أن زج بأسطوله الجوي لدعم نظام الأسد تحت غطاء الحرب ضد الإرهاب، كما لو أنه كان يقول رسالة بكلمتين: نحن هنا. أي أن على الأتراك أن يتصرفوا من الآن فصاعداً بناء على وانطلاقاً من هذا الواقع الجديد.
للوهلة الأولى بدا التنسيق بين قوات التحالف ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وروسيا كما لو كان تنفيذاً لاتفاق غير معلن بين الطرفيْن حول سوريا يهدف إلى موازنة القوى بين النظام والمعارضة لإمكان الوصول إلى حل سياسي يرضي الجميع. أما نقطة الخلاف الوحيدة فقد تركزت على كيفية وموعد رحيل الأسد.
لكن روسيا وإيران تقاسمتا الأدوار جواً وأرضاً لتحقيق هدف لم ينكره أحدهما، هو دعم الأسد ونظامه «في وجه الإرهاب»، إرهابٌ تمثله «داعش» بوصفها تعني في مفهومهما كل قوة أو منظمة حملت السلاح بهدف إسقاط النظام الأسدي ورموزه، لا «دولة التنظيم» المعلنة في العراق وسوريا بالمعنى الدقيق للكلمة.
في الوقت نفسه كان أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» يكسبان جولة الانتخابات الأخيرة التي بات بوسعه إثر نتيجتها تأليف حكومة تدعمها الأكثرية الجديدة في البرلمان، ويستعد بالتالي لاستئناف ما اضطر إلى تأجيله منذ فشله في انتخابات حزيران/يونيو الماضي بعد انضمامه إلى قوات التحالف ضد تنظيم «الدولة» التي باتت تستطيع الانطلاق من القواعد العسكرية في تركيا: أي رسم حدود المنطقة الآمنة على طول الحدود السورية التركية التي كان أشد الداعين لها والمدافعين عن ضرورتها لتحقيق هدفين: حل مشكلة اللاجئين السوريين الذين بلغ عددهم في تركيا قرابة المليونين، والحيلولة دون قيام أي كيان كردي مستقل ضمن الحدود السورية.
وكأنما كان هذا الهدف، حسب التصريحات الأمريكية وسواها في حلف «الناتو» بصرف النظر عن التوصيفات، قد بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق. رأى أردوغان في ذلك ضوءاً أخضر يستطيع معه أن ينتقل إلى حيز الإنجاز في الوقت الذي بدأت فيه روسيا السيطرة كلياً على الأجواء السورية، بل وأن يكف عن السكوت على الاختراقات الجوية التي ارتكبتها الطائرات الروسية. وحين قال ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف الأطلسي في العاشر من تشرين الأول/اكتوبر الماضي، «إن روسيا تقوم بتصعيد عسكري مقلق» مشيراً إلى الاختراقات الجوية للمجال التركي، قال أيضاً جواباً عن سؤال يتناول جاهزية الناتو لتوسيع مهماته: إن «الحلف الأطلسي قادر وجاهز للدفاع عن جميع حلفائه بمن فيهم تركيا».
«بمن فيهم تركيا»، كما لو أن تركيا ليست عضواً كامل العضوية في الحلف! كان ذلك ضوءاً أخضر بالتأكيد لكنه ضوءٌ رجراجٌ يقول أكثر من رسالة كلٌّ منها ينطوي على قدر من الغموض.
فحين أسقطت الطائرات التركية الطائرة الروسية بعد عشرة إنذارات خلال سبع عشرة ثانية، بادر جميع الحلفاء كما فعل الرئيس الأمريكي باراك أوباما وأمين حلف الناتو ستولتنبرغ، إلى دعم حق تركيا «في الدفاع عن سيادتها»، داعييْن كلاهما مباشرة تركيا وروسيا إلى الحوار.
هل كان إسقاط الطائرة الذي يبدو أنه نال الضوء الأخضر مسبقاً من واشنطن ينطوي على رسالة ما؟ وإلى من كانت موجهة؟ إلى بوتين؟ أم، بصورة ما، إلى أردوغان نفسه؟ أم إلى سواهما من القوى الإقليمية كإيران والسعودية، أم للجميع معاً؟
ذلك أن الفعل لم يكن عادياً بما أنها المرة الأولى التي تقوم فيها دولة عضو في حلف الناتو بإسقاط طائرة لقوة كبرى هي روسيا منذ أكثر من نصف قرن! وما كان بوسع هذا الفعل أن يمر مرور الكرام والجميع يعلم علم اليقين ما ينطوي عليه من استفزازٍ وتحد للكبرياء البوتينية!
وعلى أنها القوة العسكرية العاشرة في العالم، لا تستطيع تركيا، لوحدها، أن تواجه القوة الروسية. فهل اتخذ القرار دون الانتباه إلى أن الضوء الأخضر كان رجراجاً بما فيه الكفاية؟
ربما يسعنا العثور على بعض الإجابات في النتائج التي تمخض عنها هذا الحادث وما سيتمخض عنه خلال الأيام والأسابيع القادمة.
من الواضح أن الآثار تطال الطرفين، وفيما وراء ما أطلق عليه بوتين «العواقب الوخيمة» في أول تصريح له بعد الحادث والتي ظهر جلياً أنها ستكون ذات طابع اقتصادي خصوصاً. لكن مثل هذه العواقب، أياً كان الطرف الذي سيتخذ إجراءاتها، ستنعكس لا محالة على الجانبيْن، وربما على روسيا أكثر من تركيا. ولعلّ العواقب الحقيقية ستكون في مجال آخر. فلابد أن بوتين قد رأى أنه لن يُتركَ وحيداً على الساحة السورية وأن دعمه لنظام الأسد بالتعاون مع إيران لن يكون نزهة ممتعة. فها هي صواريخ «تاو» التي سمحت أخيراً الولايات المتحدة بتسليمها إلى الثوار السوريين تحول دون تقدم قوات النظام وميليشيات إيران وحزب الله في أي مكان جنوباً ووسطاً وشمالا بل وأن تسقط الطائرة الثانية بعد إسقاط الأولى على أيدي الأتراك. ولابد أن أردوغان قد أدرك ـ في الوقت نفسه ـ أن عليه أن يؤجل مشروع المنطقة الآمنة إلى أجل غير مسمى.
لن تكون فرنسا، هي الأخرى، وهي الحليفة الغربية الأقوى مع ذلك، بعيدة عن ميدان هذه المعركة. إذ هي الدولة الوحيدة من بين الدول الغربية جميعا التي بقيت تلح على ضرورة الجمع بين تنظيم «الدولة» والأسد وعدم الفصل بينهما.
أكان لابد من الحدِّ من غلواء هذه السياسة التي تقف على النقيض من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً وحلفائها الأقربين في أوروبا؟ إذ إثر عملية 13 تشرين الثاني/نوفمبر الإرهابية بباريس، حدث منعطف واضح في السياسة الخارجية الفرنسية لابد أن نشهد نتائجه قريباً يمكن تلخيصه على النحو التالي: «داعش عدونا، وبشار الأسد عدو شعبه»، كما جاء على لسان أحد المسؤولين الفرنسيين.
أول هذه النتائج عزم الرئيس الفرنسي على العمل مع روسيا على الأرض السورية إلى جانب قوات التحالف تحت القيادة الأمريكية. لكن إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا بدا كما لو أنه كان يضع عقبة حقيقية أمام جهود الرئيس الفرنسي لتوحيد الجميع في معركته ضد تنظيم الدولة.
هل هي الصدفة التي أدت إلى كل هذه النتائج؟
لا صدفة في السياسة. طبعاً. لاسيما وأن ما يجري يطال مصائر الجميع ومصالحهم، كباراً وصغاراً، وأياً كانت صلة القربى التي تربط كلاً منهم بالمشهد السوري.
سوى أن حادث إسقاط الطائرة الروسية وعواقبه يعكس ضروب المصالح المتناقضة التي باتت تسم المشهد السوري، وذلك منذ أن قرر نظام الأسد استخدام تنظيم «الدولة» بوصفه تجسيد الإرهاب بديلاً عنه كي يرغم الغرب على إعادة تأهيله مجدداً بعد أن حكم عليه بعدم الصلاحية. وهو الجهد الذي لم تكف روسيا عن العمل لترويجه بعد تبنيه بلا أي تحفظ، بحيث بدا وكأنه الحقيقة السياسية الوحيدة المطروحة لا في الإعلام الغربي فحسب بل كذلك في أوساط اليسار السياسي الأوروبي عموماً وبعض ممثلي اليمين المتطرف بوجه خاص.
تناقض المصالح العميق هذا يؤدي إلى ضروب من التعقيد لابدّ من متابعة تفاصيلها ومنمنماتها من أجل تفكيكها ورسم خارطة دهاليزها بقدر الإمكان. لا من أجل التأويل أو التفسير، بل من أجل محاولة الفهم، بكل بساطة، لما يجري على الساحة أمام أعيننا ويبدو كما لو كان مجموعة من الألغاز لا قبل لنا بحلها.

٭ كاتب سوري

بدرالدين عرودكي

القدس العربي