السياسات الروسية ومؤتمر اللاجئين في دمشق

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

34

لا بدّ أن مسألة عقد مؤتمر حول اللاجئين السوريين في دمشق، كان من أهم النقاط على جدول أعمال اجتماع « المجموعة المصغرة» الخاصة بسوريا مؤخراً، التي تضم إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، كلاً من مصر والسعودية والأردن.. ولم يتركّز النقاش حتماً على دور محتمل للمؤتمر في حلّ مشكلة اللاجئين، ولكن على ما تريده روسيا من ورائه.
ولا بأس بافتراض أن مصدر «الفكرة» جاء من انعقاد مؤتمر حول الموضوع نفسه منذ أكثر من عام في إسطنبول، بمبادرة من حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، الذي حرمت الحكومة ممثلي النظام المعنيين من حضوره، بالامتناع عن منحهم التأشيرات اللازمة، وحضره فقط رئيس ما يسمى بجمعية المسيحيين السوريين، الذي تلا رسالة من القيادة القطرية لحزب البعث إلى المؤتمر، تشدّ من أزره. يأتي المؤتمر، الذي هو حتماً روسي قبل أي افتراض آخر، بترتيب من»مركز حميميم» وقد أصبح منذ زمن شبيهاً بمركز «انتداب» روسي، من دون أن ينتدبه، ولا يحدّد مهمته أحد، لا في عصبة الأمم ولا خليفتها لاحقاً. ما يلتبس قليلاً هو في تحديد مرجعية المبادرة، هل هي في وزارة الدفاع الروسية، كما هو الأمر غالباً، أم في وزارة الخارجية، التي يعيد سيّدها المخضرم تنظيم أوراقه السورية منذ زيارته الأخيرة إلى دمشق خصوصاً. ويأتي أيضاً بعد مرور خمس سنوات على بداية التدخل المباشر الروسي في دعم النظام، وإنقاذه من انهيار كان قاب قوسين أو أدنى منه في نهاية سبتمبر 2015. وبعد تفسّخ مسار أستانة واستنفاد إمكانيات الانتفاع منه، وبعد تفاقم مشاكل انتظار الروس للأمريكان ومفاجآتهم، إضافة إلى طول نفسهم، الذي ينتظر آثاراً صريحة لحالة الاستنقاع الروسية في هذه الأرض، التي أصبحت جرداء قاحلة، إلا من مصادر الصداع.
انتهى ما تستطيع روسيا تحقيقه من استعادة شيء من الهيبة «السوفييتية» دولياً، وترويج السلاح الروسي واختباره، وحجز مكان رئيس حول طاولة التفاوض، مع تطوير سوريا كأرض – قاعدة استراتيجية ومنصة على شرفات البحر المتوسط الشرقية. ولكن إمكانيات تغيير الوقائع على الأرض تتناقص بشدة، وبناء معارضات بديلة قد استنفد إمكانياته إلا قليلاً، وطريق الحلّ النهائي ما زال غامضاً بانتظار متغيرات لازمة.. فيأتي مؤتمر اللاجئين هذا محاولة لتحريك الركود، واستفزاز جميع عناصر الأزمة السورية وأطرافها، من الأمريكيين والأوروبيين، إلى الإيرانيين والأتراك أيضاً. وفي اختيار هذا الموضوع شيء من مكر الموجيك – الفلاح القنّ الفقير- الروسي العتيق، وسلوكه عند أزمته كذلك. وهذا المثال استحضرته أحوال الروس، الذين غدا مركز اهتمامهم الحالي مرتكزاً إلى موضوع إعادة الإعمار، وإشكاليات تمويله المسدودة الأبواب حتى الآن، بعد أن انتهوا تقريباً- وربما زادوا شيئاً بعد الانتهاء- من وضع اليد على مقدّرات اقتصادية يرغبون بها، من خلال اتفاقيات وقوانين متنوعة. خلاف ذلك، يطمحون إلى أن يحتلوا المكانة الأولى في مقاولات إعادة الإعمار، التي تعددت الدراسات التي تزيد ميزانيتها عن نصف تريليون دولار، وهذا مصدر سيلان الريق بغزارة دافقة بالطبع.

مؤتمر اللاجئين محاولة لتحريك الركود، واستفزاز عناصر الأزمة السورية، من الأمريكيين والأوروبيين، إلى الإيرانيين والأتراك

ويأتي مكر المشروع الروسي، من أهدافه المباشرة واستهدافاته الأبعد. فالعالم في معظمه يتلوى تحت ثقل موضوع اللاجئين وأعبائهم المتنوعة، في أوروبا على أشكال متعددة، وفي دول الجوار السوري التي تنوء تحت تلك الأعباء، خصوصاً في لبنان والأردن، وفي تركيا بطريقة مختلفة. ولكن، لابدّ أن بوتين يستريح لقتال وزيريه على تجهيز الغنيمة، وهو يتقن جيداً ألعاب الابتزاز وفنّه الموروث، وأهم خواصّه في تلك الفوضى التي يخلقها، والأسئلة الحمقاء التي يثيرها، ولا جواب لها. ربما يهدف هذا المشروع الصغير بتوقيته مثلاً إلى استفتاح ما بعد الانتخابات الأمريكية، ومحاولة حجز زاوية روسية في نتائجها الأولية. ذلك مفيد إن نجح ترامب ومفيد إن فشل، ومفيد خصوصاً إن ارتبكت السياسة الأمريكية لفترة في منطقة غائمة. سيزدحم الطابور يومئذٍ أمام البيت الأبيض، ولا بأس بحجز مكان مبكّر، لا يطلب شيئاً، بل يقدّم الأحاجي وفوضى الأجوبة والاحتمالات.
ولكنّه لا يستهدف واشنطن على وجه الخصوص، بل يستفيد من دروسها في مسألة اللاجئين، ويفجّر قنبلة صوتية في وجه الأوروبيين. وهؤلاء مأزومون بتلك المسألة أساساً، ويخشون أيّ جديد فيها. يخشى الكبار في أوروبا مثلاً إثارة دولهم الأصغر الأكثر حساسيةً أمام قضية اللاجئين، تلك التي يستسهل بعض نخبها السياسية معارك انتخابية على برامج فاقعة الألوان قومية الأصوات، بل عنصرية الأهواء أحياناً. سوف تدعو روسيا بعض هؤلاء، وتحاول إحضارهم إلى المؤتمر في دمشق، ليعودوا بكمية من المشاكل لأوروبا، التي تئنّ أساساً تحت وطأة الخروج من أزمة إلى اختها. سيرى هؤلاء في طروحات المؤتمر البعثي، مخرجاً لطرح إغلاق الأبواب أمام اللاجئين، بل ترحيلهم إلى بلادهم التي لمسوا «الأمن والأمان» فيها، ربما في الحيّ والفندق الوحيدين الآهلَين في دمشق..
ينشغل الروس أيضاً بتحييد الإيرانيين إلى الحدّ الأقصى، ليس إرضاءً لإسرائيل وسعياً لودادها وحسب، بل أيضاً لإبعاد تأثيرات الملفات الإيرانية المعقدة والمثيرة، من الحقل حين يحلّ الحصاد. ومنذ زمن ليس قصيراً يشتغل الروس على بيع الإيرانيين علناً، للانتهاء من شريك مضارب مختلف عن الروس ومتخلف عن طموحاتهم. أما على الجانب التركي الأكثر تعقيداً بالنسبة للروس، فينفع المؤتمر بالاتجاهين: المفيد والضار. فكلّ ما يحرج الأوروبيين والأمريكيين يسرّ إردوغان حتماً، ولكن مشروعه في تلك المسألة مختلف تماماً عن المشروع الروسي، وهو أكثر صدىً وإثارة أيضاً: يريد الترك تمويل «مستوطنات» للاجئين السوريين لديه في شمال سوريا، تكلّف بضع عشرات المليارات، وتشكّل سداً من أجل تحصين الأمن القومي التركي في وجه الأكراد والجنوب عموماً. لا تسأل الحكومة التركية عمّا إذا كان هذا هندسة ديموغرافية، أو تغييراً ديموغرافياً، فهم الأكثر خبرةً بأن تلك البروباغندا لن تطول، وسوف تتلاشى مع الزمن.
لن يكون الإسرائيليون معنيين كثيراً، فهم – كالأمريكيين- أكثر تماسكاً وروحاً عملية، وقابلية للمقاولات السياسية والجيوسياسية، ما دامت خارج مجالهم الحيوي الأولي، ولكنهم لن ينزعجوا من كلّ ما يمتص طاقة أهل المنطقة بما يكفي لتسيير قافلة التطبيع بهدوء وحسم ونتائج واضحة، بل إن أي موجة جديدة من الأزمات، حقيقية كانت أو مفتعلة، سوف تلائم مزاجهم، وتساعدهم على الاستمرار بجني محاصيل الخراب السوري.
أما ما يجتمع للمشرّدين من أوراق مضادة لذلك السَفَه الروسي في عالم السياسة الحديث هذا، فليس كثيراً جداً، لكنه ليس قليلاً أيضاً، حتى الآن على الأقل. هنالك القانون الدولي، وشروط المفوضية السامية للاجئين، التي لا ترى أي إمكانية لعودة اللاجئين، إلا من خلال توفّر الأمان الكافي لعودتهم، البيئة الآمنة إن صح التعبير. ولا يحظى بشار الأسد الآن بشعبية كافية للدفع بملايين السوريين بين يديه وقد قتل أبناءهم وأخوتهم، ودمّر بيوتهم، وخرب حياتهم.. إنه ذلك الذي يحرق البلد – مراراً- من أجل الاستمرار رئيساً، ولو على بادية قاحلة. ولن ينفعه مؤتمر اللاجئين هذا أمام الهجمة القانونية ضدّه، من أجل محاسبته باتهامات لن تترك له مجالاً كبيراً للحركة، وسيضيق الخناق عليه بالتدريج، البطيء بالفعل ولكن الفعّال. تلك المحاكمات المتكاثرة، ستصبح قيداً أيضاً على المناورين الخارجيين من حوله، تحرجهم وتضعهم معه تحت عدسة مشتركة.
وعملياً، ليس من ورقة فاعلة إلا الإصرار الأمريكي والأوروبي على أن مناط مسألة اللاجئين هو الأمان، ومفتاح إعادة الإعمار هو البيئة الآمنة، والدخول في مرحلة عملية لا رجوع عنها في مسار الحلّ السياسي على أساس قرارات مجلس الأمن والقانون الدولي. وهذا هو ما يوجع السياسة الروسية أكثر من غيره، وهو الذي يجعل من مناورة مؤتمر اللاجئين الروسي في دمشق ظاهرة عابرة.. وذلك ربما هو في السياسة الروسية مفيد أيضاً، قد ينجلي عن بعض النتائج في السباق بين وزارتي الدفاع والخارجية هناك!

الكاتب: موفق نيربية – المصدر: القدس العربي